يكاد ينحصر دور العقل الفاعل والمؤثر في عالمنا العربي في تدبير المكائد ونسج المؤامرات، وذلك من خلال إثارة العواطف والرغبات المكبوتة، بغية السيطرة على عقول الناس، إذ يجري استلاب العقل وفق معيارية أخلاقية يصعب على العقل العادي مواجهتها، لكونها تقوم على التضليل والشحن الغرائزي.إن ما يحدث من مجازر في سوريا بغية تسويقها للإعلام، الهدف منه خلق صدمة لدى الرأي العام تعيد من خلالها تشكيل هذا الرأي بما يخدم الخط السياسي لمنتجي هذه الظاهرة. ففي الحولة والشومرية وتلدو، جرى افتعال مجزرة بطريقة خبيثة، تؤلّب الرأي العام ضد السلطة السياسية، ومن جهة أخرى هي محاولة لهتك النسيج الاجتماعي، ليكون مدخلاً لحرب أهلية تستدعي معها تدخلاً دولياً.
من هنا يجب التدقيق ملياً في الدوافع الكامنة وراء هذه الظاهرة. فالانتصار الصادق للضحايا يتحقق من خلال معرفة الحقيقة، لكون أي اتهام يجافي الحقيقة، يعدّ مشاركة وتكريساً لنهج يستثمر الدم في ألاعيب السياسة القذرة. إنّ الخفة والاستخفاف اللذين وصل إليهما المجتمع الدولي، وتحديداً الغرب، يدعوان إلى الاشمئزاز والقرف. ليس النظام وحده الذي يمارس القتل والتعذيب، بل أيضاً بعض فصائل المعارضة المسلحة، وهو ما أكدته منظمة العفو الدولية. ولأنّ الناس منقسمون في السياسة كما هم منقسمون في تعاطيها مع وسائل الإعلام، فمن المنطقي أن يلقي كل طرف باللائمة على الطرف الآخر، ومن المنطقي وجود طرف ثالث، يستغل الانقسام الحاد بين النظام والمعارضة لأجندة خاصة به.
على هذا الأساس يُفترض الوقوف على مسافة واحدة كمحاولة أولى لتفكيك الصورة بعيداً عن أي تصور مسبق أو ميول سياسية قد تؤثر على استنتاجاتنا. سنفترض أنّ الرواية التي قدمتها المعارضة، والتي تقول إنّ بعضاً من الضحايا قد سقط تحت القصف، فيما البعض الآخر قُتل ذبحاً وأُعدم بالرصاص عن مسافة قريبة. فإن أول شيء يتبادر للذهن هو: أين صور لحظة انتشال الضحايا من تحت الأنقاض؟ هذا أولاً، أما ثانياً، والذي يتعلق بمسألة القتل عن مسافة قريبة، فإننا سنفترض أنّ الشبيحة قاموا بهذا العمل، وهو أمر غير مستبعد، لكن لنتابع الافتراض بأنّه جرى ذبح الأطفال وإعدامهم بالرصاص، ثم تمكن هؤلاء من الفرار دون أن يراهم أحد، فالشيء الطبيعي انّه لحظة اكتشاف الجريمة سنرى الأهل والأقارب والجيران وقد ارتموا بشكل جنوني فوق أحبائهم نادبين مولولين، فأين هذه المشاهد؟ إن مشهد ترتيب الأطفال من قبل شخص واحد، بغية تصويرهم وعرضهم على وسائل الإعلام، فيما ذوو الضحايا في فورة غضب وحزن ــ هكذا يُفترض ــ غائبون تماماً عن الصورة، يدعو إلى كثير من الريبة والشك. أيضاً يمكن أن يكون هناك احتمال آخر، وهو سقوط ضحايا في الحولة نتيجة للاشتباك مع الجيش النظامي جرى استغلالهم في سيناريو المجزرة، عبر دمج المشاهد والصور ليظهر أنّ الجميع قد سقطوا على يد فاعل واحد!
كل هذه الافتراضات مشروعة بالتحليل السياسي والجنائي، إذ تقترب من القرائن، لكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال إبرام حكم قطعي، بدون تحقيق دولي ذي صدقية، إنصافاً للضحايا، ومنعاً من إنتاج مجازر أخرى تُستثمر في السياسة، كما حدث مع مجزرة مزرعة القبير في ريف حماة. ولو أنّ النظام وراء هذه المجازر لما طالب عبر مندوبه في الأمم المتحدة بشار الجعفري بلجنة دولية محايدة، إذ الجميع يعلم أنّها تأتي متزامنة مع كل حراك دولي، سواء في الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، وهو ما يلقي بظلال كثيرة من الشك حول الجهة المستفيدة من عمل كهذا.
لقد كان أولى بمجلس الأمن الإدانة مبدئياً من الناحية الإنسانية، بانتظار تكليف لجنة مستقلة للتحقيق في ملابسات المجزرة، من ثم يدين الفاعل بالسياسة ويقتص منه بموجب القانون الدولي، لكن هذا الهيجان الذي جرى بالقفز فوق التحقيق والعدالة، لا يعدو كونه مسرحية هزلية استغلت المجزرة لتحقيق مكاسب سياسية، الغرض منها إحراج روسيا والصين وتصويرهما بأنّهما إذا رفضتا الإدانة السياسية فإنّهما تحميان القاتل، أي «النظام الحاكم»!
ضمن هذا السياق سيشهد الواقع السوري مزيداً من المجازر، وهو ما بشرت به الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، ولعل ما حدث أخيراً في فشل محاولة تسويق مجزرة دارة عزة في ريف حلب يأتي استكمالاً لهذا النهج، وهو أمر جائز لكونه يزيد من منسوب العنف الأهلي، الذي قد يفضي بدوره إلى حرب أهلية. ولعل تصريح السيد لادسيوس بأن ما يجري في سوريا هو حرب أهلية يصب في هذا السياق، رغم نفي الجنرال مود ما زُعم عن لسانه. وذلك لإجبار حلفاء النظام على الدخول في تسوية تأخذ بعين الاعتبار مصالح أميركا وحلفائها في المنطقة، فهل سينجح هذا التوجه لثني الموقف الروسي والصيني؟ الجواب عن هذا السؤال أصبح أكثر صعوبة، بعد كلمة الرئيس الأسد التي ألقاها أخيراً أمام مجلس الشعب الجديد، وتأكيده أن لا رمادية في المسألة الوطنية. فكل من يتعامل مع الخارج ليس بوطني، والمعركة مع هذا الخارج أصبحت في الداخل. مما يعني أنّ أبواب التسوية أصبحت شبه موصدة، وأن الخيار الوحيد أمام المعارضة والنظام يمشي باتجاه الحسم العسكري!
* صحافي سوري