منذ تولّيه السلطة، حاملاً معه الوسطية شعاراً ومشروعاً، رفع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي شعار «النأي بالنفس» استراتيجية لحكومته في ما يتعلق بالتطورات العربية، وخصوصاً منها التطورات السورية. كثيرون تساءلوا كيف يمكن لصديق قديم للرئيس السوري بشار الأسد ولحليف لقوى متآلفة مع سوريا، أن يقف جانباً في الصراع الذي تشهده الساحة السورية، وخصوصاً أنّ حكومته تضم غالبية متعاطفة مع الدولة السورية.لا شك أنّ ميقاتي اتخذ موقف «النأي بالنفس» لا لتطبيق مشروع الوسطية الذي طالما نادى به، بقدر ما هو إدراك عميق لتطورات الأوضاع الحالية، واحتمالات انعكاسات التطورات على الساحة اللبنانية بما تعوّد اللبنانيون عليه تفجّراً لبلدهم ولصيغته السريعة العطب، في حروب أهلية، وانقسامات و«خراب بيوت» في كل محطة مماثلة.
فميقاتي يدرك أنّه في كل مرة كان لبنان ينحاز فيها إلى طرف في الصراع الإقليمي ـــــ الدولي، كان يدفع الثمن غالياً في تركيبته وبنيته السريعة العطب، القائمة على تشكيلة طائفية شديدة الحساسية نظراً إلى حساسية توازناتها.
وعلى سبيل المثال، يدرك الرئيس ميقاتي أنّ انحياز لبنان إلى حلف بغداد سنة 1958، أدى إلى تفجّر حركة مسلحة استمرت زهاء ستة أشهر، انقسم البلد بسببها انقساماً عمودياً جدّد تهيّؤه لانقسامات أعمق وأشمل وأطول مدى. انقسامات قدمت إليه بتقديم الزمن وتفاقم التطورات، وباقتراب المنطقة من مراحل الستينيات بما تعني من حرب 1967 وهجرة الفلسطينيين الثانية وقدوم المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، وصولاً إلى التفجّر الكبير في نقطة الصفر 13 نيسان 1975.
واليوم، تعيش المنطقة على فوهة بركان التحركات الشعبية في العالم العربي، وتشهد الجارة الأقرب سوريا، والأكثر تأثيراً على لبنان، أقسى المواجهات بسبب موقعها الاستراتيجي ودورها الإقليمي، ودخول العالم فيها في صراع حاد وشرس أعاد إحياء الحرب الباردة التي سادت قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي ظل الأحداث السورية، تجاوبت الأطراف اللبنانية مع أطراف الصراع المحلية والدولية في سوريا، ما هدّد بانقسام لبناني حاد ومتجدد يوحي بأنّ اللبنانيين اعتادوا على الانجرار إليه من دون أن يتعلّموا أنّهم سيدفعون ثمناً غالياً له، من وطنهم ومصالحهم ومستقبل أبنائهم.
إنّ المخاض العسير في المنطقة، والانقسام الحاد حول الثورات الملوّنة، دفع الشارع العربي إلى نوع من التنافر والتباعد، وعدم وضوح البديل، وعجز الثائرين عن تقديم رؤية واضحة وبرنامج مستقل عن التبعية، يجعل «النأي بالنفس» و«الحيادية» موقفاً مسؤولاً وجريئاً، في آن. فالاستعجال بالاصطفاف هو نوع من التهوّر، ودفع للبلاد إلى مزيد من التوترات والتعقيد. إذ إنّ التركيبة اللبنانية أسيرة توازنات المنطقة، ولا تحتمل أن تصبح جزءاً من المحاور المتقاتلة. والحراك الشعبي تحوّل في البلدان المنتفضة إلى اقتتال دموي يهدد بتفتيت الروابط الاجتماعية وانفراطها والدخول في حروب طويلة. في المقابل، تعتبر الصيغة اللبنانية أكثر ملاءمة مع حالات المساكنة والتسويات، فلا تمتلك مقوّمات الالتحاق بالمحاور والتحوّل إلى طرف في النزاعات. الدول الكبرى تعيش حالة كبيرة من الارتباك، فكيف ببلد كلبنان خارج من حرب ضروس استمرت خمس عشرة سنة، ويعيش حالة انعدام وزن وتردٍّ وفقدان ثقة متزايدة وخصوصاً منذ 2005؟
وميقاتي يدرك مخاطر التطورات وتداعيات الانخراط فيها، بما لم يعد يحتمله لبنان من صراعات داخلية وحروب أهلية، فارتأى النأي بالنفس في محاولة لتجنيب البلد خضّات جديدة هو بغنى عنها، وفي الوقت نفسه لا تخدم أشقاءه في الجوار. ففي الواقع اللبناني غير المعافى لغاية الآن، هو أحوج ما يكون إلى استكمال مصالحته وتقريب الأطراف بعضها من بعض، منعاً لانعكاسات التطورات عليه.
ومن المبكر أن يكتشف الناس أهمية وجود شخصية وسطية حيادية في واقع يعيش على فوهة بركان وفي عين العاصفة. فأي موقف متسرّع قد يدفع بالواقع الطائفي إلى مزيد من التأزّم والاستعصاء. فوجود ميقاتي في الحكم أعطى المتخاصمين نوعاً من الاطمئنان، كونه ليس طرفاً، وغير محسوب على مراكز قوى معينة بسبب مواقفه المعتدلة والمنفتحة على مختلف الأطراف دائماً، بما يؤهله على الأقل للإمساك بالعصا من الوسط، وأن يكون نقطة التقاء وتواصل. فالحيادي يتلقّى ضربات من كلا الطرفين، لكنّه يبقى الوحيد القادر على فتح نوافذ الحوار وتقريب وجهات
النظر.
إنّ الدول التي تعيش الحراك الشعبي لم تعرف تداول السلطة وحرية الإعلام وفسحة الحرية ولعبة البرلمان، لذلك قد يكون المخاض طويلاً. أما الواقع اللبناني فمغاير تماماً، وهو متقدم على الكثير من الدول بتركيبته وتنوّعه، بالرغم من الشوائب التي تعتري بنيته. لذا يصبح النأي بالنفس حالة متقدمة نحو إعادة الترميم، والمصالحة بدلاً من الانجرار نحو التقاتل والتفكّك، في ظل الخوف من انسداد الأفق واستعصاء الوضع وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أو بالأحرى تكون «عودة على بدء» ما تجاوزه اللبنانيون من حروب، إذ لم يكن من السهولة تجاوز الحرب الأهلية، ووصل ما انقطع طوال أعوام الحرب.
في الحال التي نعيش، يبدو أنّ ما يجري في العالم العربي، وخصوصاً في سوريا، هو أكبر بكثير من إمكانات لبنان وقدرته على التأثير بما يساعد الأشقاء على تجاوز محنتهم، فلقد تحوّل الصراع إلى أزمة دولية وصراع دولي ـــــ دولي، والمراهنون من كلا الطرفين، السلطة والمعارضة، يجب ألا ينتظروا نصراً قريباً، فحقيقة الأمور أنّ الأزمة ستطول كثيراً.
وعلى صعيد مغاير تماماً، فإنّ سياسة «النأي بالنفس» ما هي إلا تعبير لما ارتكزت عليه شرعة الأمم المتحدة بعدم تدخل الدول، إحداها بشؤون الأخرى، منعاً لتفاقم الصدامات بينها، وذلك في ضوء الكوارث الكبيرة التي نجمت عن الحربين العالميتين. والرئيس ميقاتي بتربيته السياسية، وخبرته بها في مرحلة كانت الأمم المتحدة لا تزال راعية للقانون الدولي، يدرك أهمية هذا القانون ويترجمه في إدارته للحكم في لبنان رئيساً لحكومته، رغم تخلّي دول كبرى عن القانون في سبيل مصلحتها المباشرة. كل ذلك يوم لم يعد من قوى دولية كبيرة تمنع الانحياز وتضع حداً له بإقامة التوازنات الاستراتيجية الدولية وتضع حداً لاستباحة العالم أمام قوى الطغيان العظمى، أي الولايات المتحدة الأميركية والدول الدائرة في فلكها.
لا شك أنّ من الجيد وجود شخصية مستقلة، معتدلة، وسطيّة، تتجرّأ على الحياد كرئيس الوزراء الحالي في لحظات الشدّة والاستعصاء، تقي البلاد من مخاطر العواصف وانعكاساتها عليه.
* كاتب لبناني
4 تعليق
التعليقات
-
ليكن النأي بالنفس نأيا متوازنا 4بسم الله الرحمان الرحيم لمن يهمه الأمر، لا حاجة إلى من ينطبق عليهم الذي مسبق ذكره والإشارة إليه، ولا تشكل أدوارهم ومهماتهم وسلوكياتهم المجسدة للضلال، إلا بواعث ضرر وإفساد للضالين المنحرفين، بحيث يزيدونهم مصائب فوق مصائيهم، بدل دون مساعدتهم وأخذهم وهدايتهم إلى الوجهة السليمة. نقول للناس، أن لا معنى ولا جدوى من أي ثورة لأجل إلغاء الدكتاترية وتنصيب حاكم قد يكون عادلا، ما دام كل فرد لا يملك أن يقرر لنفسه ما يريد وما يناسبه وضمن الحدود.فليس من خيار غير اعتماد العقل حاكما لكل فرد، إذا أريد الخلاص، ما يعني انتفاء الحاجة إلى وجود حاكم وتوجيه وإدارة من الغير، ذلك لأنه يفترض أن كل فرد ليس قاصرا حتى يحتاج إلى وصي عليه. فالمطلوب إذا التمرد على كل قانون يخالف طبيعة الأمور ويفرض وجود وصي على الناس الراشدين العقلاء الغير قاصرين(والذين يفترض انتفاء الحاجة لضبتهم، لأنهم لا يسيئون للغير)، وليس المطلوب الإصرار على التخلي عن القرار وترك الأمور للغير، وهذا يعني أنه يوجد مسائل شخصية لا تخص المشتركات، ومسائل مشتركة بين الجميع.فالأولى من الخصوصيات التي لا يجوز التدخل فيها، وأما الأخيرة يجري التعامل معها وفق مبدأ الشورى(وطبعا، كل فرد حر في أن يختار ويقرر الآلية التي تناسبه بشرط أن لا يؤذي الغير). ليس لوجود آلية التمثيل أي دور أو فائدة عندما تلغي دور الفرد وتشكل تجسيدا لإقصاء وتغييب وإزاحته عن موقعه(وباختياره)وتجعل مسألة الشورى حكرا على أشخاص معينين.وفي نهاية الأمر، تبقى مسؤولية التنفيذ على كل فرد، والواجب لن يتغير. أللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
-
ليكن النأي بالنفس نأيا متوازنا 3بسم الله الرحمان الرحيم فكل حر في أن يقرر لنفسه ولكل من وكله ويرضى أو تخلى عن دوره وسلم زمام أموره لللغير، ولكن ليس له الحق في أن يعتدي على الآخرين الذين لم يكفوه ولم يتخلوا عن دورهم ويردريدون أن يمارسوا خقهم في تقرير مصيرهم بما لا يشكل تجاوزا للحدود. من يريد النأي بالنفس، فلينأى لوحده مع من يوافقه ولا يُلزم من لا يوافقه بذلك، لأنه بذلك يضر نفسه من حيث أنه يعرضها للخطر، عن طريق رد الفعل من المتضررين، بما بناقض النأي.من المؤكد أن ثمة من يريدون النأي بأنفسهم عن الأخطار، ويرون في ميقاتي وأمثاله، مصادر تهديد وأخطار، يجب اتقائهم بالتحصن منهم والإستقلالية في القرار والتحرر من قيودهم. فالذي يسعى لتأمين متطلبات الحياة، هو يسعى لينأى بنفسه عن الأحطار والإضطرار إلى اللئام، تماما مثل أي ضال أو أحمق أو جاهل يعتقد أن التآمر والخداع والتضليل والتعمية والنقييد والحصار والإلغاء ومصادرة قرار الغير والإعتداء يشكل سياسة مناسبة ينأى بنفسه بها عن ما يعتقد من أخطار وتهديات، أو ما(وغالبا ما يدفع طمع النفس إلى وضع غير مستقر يخالف النأي بها عن كل ما لا يلائمها - في حال الشذوذ طبعا).فأمريكا مثلا، تعمل على إشعال الحرائق...هنا وهناك، ضمن سياسة ملتوية، طبعا في بيئة الوهن والضلال والإنحراف، للنأي بالنفس.فكل يريد النأي بنفسه على طريقته. نقول للسلطويين وطلاب السلطة ومن يستخفون بالآخرين من حيث تمسكهم بآلية تعطيل العقول وتسلب الناس خق تقرير المصير، أن كل قانون يمنح الحق لهذا وذاك بأن يقرر للآخرين، لا يرقى إى دوسه تحت أقدامنا، إذ هو أحط من ذلك.
-
ليكن النأي بالنفس نأيا متوازنا 2بسم الله الرحمان الرحيم فعندما يراد إجبار الناس على أن يكونوا أسرى الإنحراف والخلل(ولو عُد توازنا)، والذي يفضي إلى التأزم والتوتر والفتنة والتلهي والضياع والتيه والظلمات والغفلة والحيرة، فهذا يجعل أنفسهم في وضع فاقدة التوازن وليست منأية عن المتاعب والمشاكل. لا توازن مع قوانين تشرع الإعتداء على الآخرين، من ىخلال التدخل في شؤونم والحلول مكانهم وإقصائهم عن مواقعهم التي تنسجم مع طبعة الأمور ولا يشكل وجودهم فيها تعديا للحدود.فالأمر لا يستوجب أكثر من أن يعرف كل فرد لحدوده والحرص على الإلتزام بالمحافظة عليها وألا يتعداها.فالأمر هو في تعدي وليس خرق التوازنات الطائفية والمعادلات...وإلخ. لذلك فإن الحروب وخراب البيوت وغير ذلك من المأسي والمصائب والمحن، سببها تعدي الحدود، يعني أين ما يحصل ذلك سينتج عنه ما دكر من سلبيات وويليات، سواء بين الطوائف أو المذاهب أو الأعراق أو القوميات..وإلخ، أكانت مختلفة أو المتشابهة، وعلى صعيد المجتمعات والأفراد وفي المؤسسات الخاصة والعامة ، ومن دون إغفال دوائر الأسر والبيوت. لا يجدي الإختباء والتلطي والتستر خلف توزنات ومعادلاات، مبنية على الإنحراف والضلال والإعتداء والظلم والفساد في ضمان سكوت العقلاء وتكبيلهم وتعميتهم وخداعهم، بما لذلك من تهديد على مصالحهم ومصيرهم وحياتهم، الذين لا يجدون مفرا من نسفها( تلك التوزنات والمعادلاات)إذا شكلت اعتداءا على الغير، ما يعني تقديم تضحيات لأجل المصلحة العامة، وبالتالي التضخية بكل المعادلات والتوازنات التي تفسدها وتهددها. من غير الممكن أن يكون الذي يمارس التعدي والتعطيل ويعرقل مسار الحياة ويمنع حل المشاكل، في وضع يدرك معه مخاطر التطورات وتداعيات وعواقب الأمور، إذ ليس مقبولا فرض ما لا يلائم على الآخرين تحت عنوان: النأي بالنفس.
-
ليكن النأي بالنفس نأيا متوازنا 1بسم الله الرحمان الرحيم أللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم من سمع مناديا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم هذا كله نتيجة للإحتكار والإستفراد والحلول مكان الناس وسلبهم حق تقرير مصيرهم.فالمهم في الأمر، أن النأي بالنفس، ليس إلا ألعوبة ومكيدة شيطانية بواسطة أدوات بشرية، بقصد أو بغير قصد.فكفى هرطقات وهذيان ولف ودوران وميوعة وألاعيب وحيل وسفسطة ولغو وتدجيل وسخافات تبربر هنا وغض الطرف هناك. إن حل المشاكل لا يكون عبر تراجع من يمارس الإقصاء والإلغاء والإستفراد والإحتكار...وإلخ، إنما يكون الحل بأن يأخذ كل فرد زمام المبادرة إلى تحمل مسؤوليته وممارسة دوره في ترتيب أموره وتسوية أوضاعه والإعتماد على نفسه، الأمر الذي يعني الكف عن الإنتظار والرهان على هذا وذاك وتسليم الأمور إلى غير أهلها ومن ليسوا معنيين(بحسب طبيعة الأمور، ولو أعطوا ومنحوا صلاحيات مخالفة لها(بحسب قوانين وبدع ما أنزل الله تبارك وتعالى من سلطان). فلا قدسية لغير الطبيعة التي هي الأساس الذي يحدد عليه الصواب من الخطأ والغث من السمين والطيب من الخبيث والرشد من الغي، بما هي محكومة ومنتظمة وفق سنة إلاهية سوية مسقيمة محكمة الإتفان"وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ"(النمل 88)"الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ"(الملك 3). لا مجال لاستقامة الأمور مع الإنحراف الذي يسمى توزان وعيش مشترك وصيغة، وغيرذلك.ولا مجال لتحقق التوازن الإجتماعي إدا اختل التوازن الفردي، الذي يرجع في أهم اسبابه إلى العيش ضمن أسر التوازنات.