على نمط لا يخلو من التأثر بروح «الاستشراق» الغربي، بالمعنى الذي أضفاه إدوار سعيد على ذلك التعبير، ذهب بعض العرب الى التأكيد أنّ عقلية الاستبداد قد تأصلت في نفوس العرب عامة من جراء الثقافة والتربية. ومن أصحاب هذا الرأي في الأمس القريب، الدكتور منصف المرزوقي، رئيس الجمهورية التونسية الانتقالي، عندما كان معارضاً في منفاه الفرنسي لسلطة الرئيس السابق، الطاغية زين العابدين بن علي. ففي مقال كتبه لـ«الجزيرة. نت» قبل سنتين، استشهد المرزوقي بالباحثة الفرنسية بياتريس هيبو، صاحبة مؤلف عنوانه «قوة الطاعة: الاقتصاد السياسي للقمع في تونس» ينتسب الى مدرسة استشراقية تفسّر «طاعة» التونسيين لطغاتهم بعقلية تأصلت فيهم عبر الأجيال (وقد فنّد الباحث التونسي محمود بن رمضان تلك الأطروحات في كتاب حديث عن تونس بالفرنسية).
فرأى المرزوقي أنّ من يقرأ كتاب الباحثة المذكورة «يفهم أنّ ما يدهش العقل الغربي عن العرب هو قدرتنا الفائقة على طاعة أفسد الحكام، والحال أنّ الثقافة الغربية مبنية على رفض الانصياع للظلم وتشريع الحق في مقاومته». وقد أضيفت هنا إلى صورة العرب الاستشراقية صورة مثالية عن «الثقافة الغربية» وكأنّها معطى أزلي. صورة تتغافل عن كون أكثر الأنظمة استبداداً في التاريخ الحديث قد نشأت بعد الحرب العالمية الأولى لدى اثنتين من أعرق الحضارات الغربية، هما الإيطالية والألمانية، فضلاً عن أنّ الغرب مرّ قبل التاريخ الحديث بمرحلة طويلة سادت فيها أنظمة المَلَكية المطلقة. وقد استطرد المرزوقي مزايداً على المستشرقة الفرنسية: «خذْ أي تونسي أو مصري أو يمني يمشي في الشارع وضعْه في السلطة. هناك تسعون في المئة من الحظوظ لكي يتصرف بكيفية لن تبعد كثيراً عن تصرفات بن علي ومبارك وصالح» («الكارثة العظمى بين مسؤولية الأنظمة والشعوب»، الجزيرة. نت، 19 فبراير/ شباط 2010). إنّ أحد أهم إنجازات الثورات العربية الراهنة في ما يتعلق بصورة العرب أنّها حطّمت تلك الأسطورة الكاريكاتورية التي صاغها الاستشراق الغربي عن خنوع العرب وإدمانهم الثقافي (العربي أو الإسلامي) على الانصياع، وكأنّهم أناس يكرهون الحرية ويعشقون الاستبداد. فالموجة الثورية التي انطلقت من تونس ولا تزال في بداية تدفّقها قد أثبتت للعالم أجمع أنّ العرب لا يقلّون عن سائر الشعوب كرهاً للاستبداد وتوقاً للحرية، وأنّهم ما إن «أرادوا الحياة» وتمكّنوا من كسر حاجز الخوف حتى قاموا بانتفاضات باتت مثالاً يُحتذى به في شتى أنحاء العالم.
وحتى منصف المرزوقي نفسه، بعدما عاد الى تونس إثر سقوط الطاغية بن علي، تأثر بنشوة الثورة، فذهب لوهلة إلى حدّ اعتماد التحليل الطبقي على طريقة اليسار الجذري، كاتباً قبل أشهر تلك الأسطر الثاقبة تماماً: «الثوار ليسوا من يجنون ثمار الثورة. بعد الثوريين يأتي عهد الانتهازيين، وبعد الملحمة يأتي عهد خيبة الآمال، إذ يعود فقراء سيدي بوزيد إلى فقرهم، ويعود سكان المقابر في القاهرة إلى مقابرهم. فلا حلول جذرية لمشاكلهم، بل كثير من الوعود التي قد تتحقق وقد لا تتحقق. أما من تغنم الغنيمة الكبرى، ففي حالتنا هي البورجوازية التي كانت تتنعم تحت الاستبداد بمستوى مادي مقبول، لكن الاستبداد بقمعه للحريات وبفساده كان يسمّم حياتها. وبتخلص الوطن من الاستبداد، ها هي تضيف ـــــ بفضل تضحيات المغلوبين والمساكين ـــــ إلى حقوقها الاقتصادية والاجتماعية حقوقَها السياسية التي كانت ممنوعة منها، بينما تجد الطبقات الفقيرة نفسها حائزة حريات سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع» («الآفاق المرعبة والمذهلة للثورة العربية»، الجزيرة. نت، 10 مارس/ آذار 2011).
تقول حكمة الشعوب إنّ السلطة تفسد من يتولاها، ويضيف العرب: «سبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر». فها إنّ الدكتور منصف المرزوقي، وبعدما أصبح رئيساً للجمهورية التونسية، لم يعد متفهّماً لرفض فقراء سيدي بوزيد للعودة إلى فقرهم ورفضهم للوعود الفارغة، وإصرارهم على حلول جذرية لمشاكلهم. بل لم يعد يطيق ذينك الرفض والإصرار، إلى حد أنّه أخذ يستعير حجج الطغاة المعتادة، وكأنّه يريد تأكيد ما كتبه قبل سنتين. بل نراه يجيب عن سؤال طرحه عليه قبل أيام محمد المختار في مقابلة مع قناة «الجزيرة» عن الاحتجاجات الجماهيرية التي لم تنقطع في تونس بعد سقوط الطاغية، يجيب المرزوقي إنّها احتجاجات ناتجة من جهة عن تركة النظام المخلوع وتوقّف الآلية الاقتصادية، ثم يضيف: «لكنْ، هناك أيضاً استغلال وتسييس وتحريض من بعض الأطراف، إما عن اللامسؤولية وإما عن إرادة تخريب هذه الثورة، هذان العاملان موجودان. هناك ناس أعتبرهم غير مسؤولين مثل أقصى اليسار الذين يقولون الآن نحب الثورة، وهم يعلمون أنّ هذه الحكومة في شهرها الأول، هذا أعتبره لامسؤولية» (الجزيرة. نت، 20 يناير/ كانون الثاني 2012).
وهي نغمة ألفها التونسيون والعرب: فلا يجوز أن تثور الجماهير تلقائياً ضد شروط عيشها المزرية، بل هناك دوماً «محرّضون» و«مخرّبون» و«مسؤولون بلا مسؤولية» و«متطرّفون» (مهما كان لونهم السياسي)، يحثّونها على الاحتجاج والثورة. ويعجز هذا المنطق عن فهم أنّ السخط على الاستغلال والبؤس يؤدي إلى التجذّر السياسي بشكل طبيعي، فيعكس الصورة بحيث يغدو المتجذّرون هم الذين يولّدون سخط الجماهير على البؤس والاستغلال. وما عجز الرئيس التونسي عن فهمه هو أنّ دعوته في مطلع كانون الأول/ ديسمبر الماضي إلى هدنة اجتماعية لمدة ستة أشهر كانت محكومة بالفشل، إذ لم تترافق بأي برنامج يشير إلى توجّه فعلي لدى الحكومة التونسية الجديدة لتلبية حاجات الجماهير البديهية ومطالبها الأساسية، تلك التي ثارت الجماهير وأطاحت بن علي من أجلها. بل لم يتردّد حمادي الجبالي، العضو القيادي في حركة «النهضة» ورئيس الحكومة التونسية الانتقالية، في التأكيد لقناة «الجزيرة» نفسها أنّ تردّي الوضع الاقتصادي في بلاده، خلال العام الماضي، «يعود إلى ظاهرة الاعتصامات وقطع الطرقات والإضرابات العمالية العشوائية» (الجزيرة. نت، 22 كانون الثاني/ يناير 2012)، وأنّ تلك الاحتجاجات الجماهيرية قد حالت دون تنفيذ مشاريع استثمارية جديدة كانت ستوفر آلاف فرص العمل (كذا).
بكلام آخر، يريد هؤلاء السادة الذين يتربّعون اليوم على سدّة الحكم أن تتوقف الجماهير من النضال فور إطاحة الطاغية وأن «يعود فقراء سيدي بوزيد إلى فقرهم ... فلا حلول جذرية لمشاكلهم، وإنما كثير من الوعود التي قد تتحقق وقد لا تتحقق. أما من تغنم الغنيمة الكبرى فهي البرجوازية التي كانت تتنعم تحت الاستبداد بمستوى مادي مقبول، لكن الاستبداد بقمعه للحريات وبفساده كان يسمم حياتها. وبتخلص الوطن من الاستبداد، ها هي تضيف ـــــ بفضل تضحيات المغلوبين والمساكين ـــــ إلى حقوقها الاقتصادية والاجتماعية حقوقَها السياسية التي كانت ممنوعة منها، بينما تجد الطبقات الفقيرة نفسها حائزة حريات سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع»، إذا أردنا أن نستعيد مقال المرزوقي مجدداً.
ولا يحتاج المرء إلى بصيرة خارقة كي يدرك أنّ الفائزين بالانتخابات والحكومات الأولى بعد الثورات هم حقاً الانتهازيون، وليسوا الثوار، كما رأى منصف المرزوقي صائباً لمّا كان لا يزال متأثراً بنشوة الثورة وحكمتها. والحال أنّ التنديد بالإضرابات العمّالية وتحميلها مسؤولية التردّي الاقتصادي والعزف على نغمة «المتطرّفين» و«المخرّبين» من «أقصى اليسار» باتت تشكّل لغة مشتركة للحكام الجدد في تونس ومصر، بما يذكّرنا بالأنظمة المخلوعة، لا محال. غير أنّ الجماهير التي أرادت الحياة يوماً وذاقت طعم الحرية لن تتوقف عن النضال والاحتجاج قبل «أن يستجيب لها القدر»، ولو بعد سنوات.
* أستاذ في معهد الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن
6 تعليق
التعليقات
-
وجهة نظرحقيقة من يتابع تصريحات د. المرزوقي بعد توليه منصب الرئاسة في تونس , لا بد له أن يلاحظ تراجعاً في وآرائه,ومواقفه من بعض القضايا, وخاصة فيما يتعلّق بقيم الحداثة, وعلمانية الدولة , والتي بدت أكثر جرأة وثورية في مراحل سابقة .. وكي لا نبقى في العموميات أسوق هنا مثالاً , لما قاله حول ( حرية ارتدء النقاب للطالبات في الجامعات التونسية), تحت مبرر الحريات الشخصية !! الله الله يا دكتور منصف .. وهل النقاب فريضة اسلامية أصلاً ( راجع ما قاله الشيخ الطاهر الحداد/ 1930/ في كتابه " امرأتنا في الشريعة والحياة " حول هذا الموضوع , إن كنت قد نسيته) .. ثم هل ستسمح للطلبة من الذكور بدخول الحرم الجامعي وهم يغطون وجوههم بالأقنعة , ثم يقولون لك : هذه حرية شخصية !! ثم ماذا لو أن هذه الطالبة المنقّبة قامت بفعل السرقة , أو القتل , وطلب ممن شاهدوها حلف اليمين أنها هي بالذات من فعل ذلك , كيف لهم أن يجزموا حول هويتها !!نعم د. منصف يساير الإسلاميين ويتراجع أمام بعض تجاوزاتهم, وحتى غلوّهم أحياناً ,ربما أمام سطوة حضورهم في الشارع ,ولكنني أعتقد أن هذا ليس في مصلحته على المدى المتوسط والبعيد .
-
الاشتراكية في حارة واحدةيبدو ان السيد جيلبير يظن ان تونس قارة مثلها مثل روسيا في 1917، روسيا بكل ضخامتها وامكانياتها وكان هناك من يشكك ويحذر من صعوبة بناء الاشتراكية فيها وحدها وبدون مشاركة اوروبا الصناعية. السيد جيلبير يريد بناء نظام يساري جذري في تونس، وعند تحليل الوضع في تونس لا يذكر ولو بكلمة جيران تونس. لا يذكر ان ليبيا مقسمة بين قبائل متناحرة بعد تدخل الناتو، بالامس فقط طماننا وزير الدفاع الليبي ان بني وليد الحمد لله لم تسقط في يد موالين للقذافي بل سقطت بيد مقاتلين قبليين موالين لقبائلهم. لا يذكر ليبيا ولا يذكر ان القبائل الليبية لن تقدم الدعم لمشروع تغيير يساري جذري في تونس، الشعب الجزائري كل الدراسات تؤكد ان مزاجه يشبه الى حد كبير مزاج الشعب التونسي الذي عبر عنه في الانتخابات والذي انتج برلمانا اسلاميا قوميا اشتراكيا وسطيا، اذا لا يمكن التعويل على دعم شعبي جزائري، طبعا لا دعم من الدكتاتورية العسكرية الجزائرية، طبعا لا دعم من بقايا النظام التونسي القديم، طبعا لا دعم من القوى الاميركية التي تذكر التقارير انها بدات بالانتشار في الصحراء الليبية، طبعا لا دعم من القوى الاطلسية التي تقف قبالة تونس في البحر، بالرغم من كل هذا سنبني نظام اشتراكي جذري في تونس..ما رايكم؟ كله كوم وقرفه من القوى الاخرى كوم.ماذا تقولوا؟
-
بسبب عقلانية منصف المرزوقيمن يوم دخول المرزوقي السياسة بعد روجوعه وهو يتعرض للنقد. والنقد العبثي يتعرض له المرزوقي بعد تحالفه مع حركة النهظة الاسلامية. فالنقد عبثي لان المرزوقي قام بشكل عقلاني بقبول ارادة الناخب التونسي واحترام ارادة التحالفات السياسية. ارحموا المرزوقي وساعدوه بتحمل الامانة واخراج تونس من وثن الاستبداد الى روح الحرية. والتحية للنهظة أولاَ على تعاونها معه.
-
في الشرفلاحظوا ان السيد جيلبير يتهم النصف المرزوقي بخيانة الثورة والشعب التونسي لقاء منصب ومرتب. لاحظوا ان مرتب المنصف المرزوقي كرئيس مؤقت لتونس هو ادني من مرتب السيد جيلبير كاستاذ في معهد لندني. هذا الكلام يصح في القرى والحارات ويصح ايضا في باب الحارة عند العقيد ابو شهاب وهو صحيح ايضا في السياسة. والذي يستغرب هذا الكلام غريب عن مفاهيم الكرامة والشرف.
-
ثورة حتى الطراوةلاحظوا ان المنصف المرزوقي يقول فقط ان العقلية العربية تتعايش مع الذل والاستبداد وان هذه العقلية متوارثة، بمعني انها قديمة وليست جديدة وانه اعطاها الاباء للابناء. هذا الكلام بالطبع وصفي اولي، كل من ينظر يلاحظ هذا، هذه ليست فكرة، هذه ملاحظة اولية تسبق الفكرة وبالطبع تسبق شيء اسمه مدرسة فكرية وهي سلسلة من الافكار. لاحظوا ان السيد جيلبير ربما لا يعرف الفرق بين الفكرة والتحليل والملاحظة الاولية. الملاحظة الاولية يمكن ان يتفق عليها الجميع ثم يختلفوا على التحليل. السيد جيلبير ادان الملاحظة، واتهم المرزوقي بملاحظته. لاحظوا ان ادانة الملاحظة يعني ان الثوري المزبوط يلاحظ ان الشعب العربي لم يتعود التعايش مع الفساد والاستبداد، وان هذه العقلية ليست معطى موروث قديم، بل كان الشعب العربي ما في احلى منه، ثم استفاق صباحا فوجدوه على هذه الحال.بالمناسبة الطالب في سنة اولى في اي من العلوم الانسانية والذي لا يستطيع ان يميز بين الملاحظة الاولى والراي والفكرة والتحليل لا يمكن ان يسمح له ان يستمر في الدراسة. اي استاذ جامعي يقرا هذه الكلمات باستثناء اسعد ابو خليل يعطينا رايه في الموضوع.