عندما تأسس الحزب الشيوعي، عام 1924، لم يكن لبنان وسوريا بحدودهما الحالية، وكان انتشار الأفكار الشيوعية محدوداً. وهي حضرت، غالباً، عند المتنورين المتأثرين بأفكار الثورة الفرنسية وأدبيات النهضة، وكذلك بوهج الانتصار الشيوعي في روسيا. وبدا طبيعياً جداً، آنذاك، أن يتأسس «حزب الشعب اللبناني»، ويناضل في كل من سوريا ولبنان. ذلك كان ضرورياً من أجل إمكانية التأثير في الصراع الدائر في المنطقة وحولها، وخصوصاً في ظروف إعادة تشكيلها على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ولو لم يكن هناك شعور بوحدة المعاناة والمهمات وبضرورة النضال، بالتالي، ككتلة وازنة وكبيرة، لكان التأسيس مختلفاً. إن الهم الطبقي والانحياز إلى العمال والفلاحين والفقراء والسعي الدؤوب إلى تنظيمهم في نقابات، طبع سنوات التأسيس الأولى التي قادتها مجموعة عمالية بالأساس، إضافة ـ طبعاً ـ إلى المثقف الثوري يوسف إبراهيم يزبك وسواه. لكن ظروف النضال من أجل تحرير العمال وتحسين أوضاعهم تطلبت، بعد وقت قصير، إدراك الترابط الموضوعي والعضوي بين هذه المهام ومهمة التحرر الوطني وتحقيق استقلال سوريا. وعندما صار الحزب «شيوعياً سورياً» عام 1927، أكد الحزب في وثيقته «أن الاشتراكية هي الهدف الأساسي والنهائي وأن المهام المباشرة لنضاله: تحرير سوريا (أي سوريا ولبنان)، من الاستعمار الفرنسي، ومن عملائه والمتعاونين معه في الحكومات في دمشق وبيروت». ففي أولى سنوات النضال، تحت الانتداب، تلازم النضال الوطني مع النضال الاجتماعي، كتعبير عن مهام التحرر الوطني في ظروف البلدان المستعمرة. ولقد أسس هذا الموقف للدور الهام الذي أداه الشيوعيون في الثورة السورية وفي المعارك المختلفة ضد الانتداب ومن أجل الاستقلال. وفي أولى وثائقه البرنامجية المنشورة عام 1931، تحت عنوان «لماذا يناضل الحزب الشيوعي السوري، غايته القصوى وشيء من بروغرامه»، يظهر الوعي واضحاً وجلياً بأولوية القضية الوطنية. ونورد اقتباسات محدودة للتذكير والتأكيد. تحت عنوان «هدف الحزب وبروغرامه»، يرد ما يأتي: «للحزب الشيوعي السوري هدف يرمي إليه هو تقويض النظام الرأسمالي وتشييد النظام الاشتراكي في سوريا (مرة أخرى = سوريا ولبنان). وللوصول إلى هذه الغاية، وضع الحزب لنفسه بروغراماً خاصاً يسير عليه في نضاله. وينحصر هذا البروغرام في النضال الثوري لتحسين المعيشة وشروط العمل للعمال والفلاحين السوريين. والفرق بين هدف الحزب وبروغرامه هو أن البروغرام يقضي بالنضال الجدي للحصول على مطالب العمال والفلاحين المتتابعة، وتحرير سوريا وإنالتها الاستقلال التام، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتقويض النظام الرأسمالي الاستعماري وإقامة حكومة العمال والفلاحين في سوريا». ثم ترد في الوثيقة، مباشرة بعد ذلك، موضوعة تحمل عنوان «النضال لتحرير سوريا هو الغاية الأولى للحزب» يتضمن تحليلاً وأهدافاً محددة وعيانية. ويلي هذه الموضوعة مباشرة عنوان «مطالب الحزب لتحسين حياة العمال». وبرأينا فإن هذا التسلسل في الموضوعات، من جهة، وغياب موضوعة الديموقراطية، من جهة أخرى، ليس بلا معنى. وفي السنة نفسها انعقد كونفرانس ممثلي الحزب الشيوعي في سوريا وفلسطين وأقر وثيقة برنامجية بعنوان «مهمات الشيوعيين في الحركة الوطنية العربية»، رأت في مطلعها: «إن إحدى المهمات الجوهرية في نضال التحرر الثوري ضد الإمبريالية على أرض الشرق الأدنى الواسعة، هي حل المسألة (القومية) العربية». ورأت نفس الوثيقة، في تحليلها: «إن مجمل نظام السيطرة الإمبريالية على الشعوب العربية لا يستند إلى استعبادها المباشر وحسب، بل إلى تقطيع أوصالها بصورة اعتباطية... وإن جوهر المسألة القومية القريبة يكمن بالضبط في أن الإمبريالية قد مزّقت هذا الجسد الحي الذي كان يتشكل من الشعوب العربية، وفي إبقاء البلدان العربية في حالة انقسام إقطاعي، وفي حرمان كل بلد، على حدة، من الشروط الضرورية لنموه الاقتصادي والسياسي المستقل، وفي الحؤول دون تحقق الوحدة القومية وقيام دولة موحدة للشعوب العربية... ولقد جرى تقسيم سوريا بصورة اعتباطية إلى خمسة أجزاء تفصل في ما بينها إدارة خاصة بكل منها وقوانين خاصة بكل منها...».
ذلك كان وعي المؤسسين الأوائل الذي انعكس سياسة وبرنامجاً وتحالفات حوّلت الحزب، حديث النشأة، إلى قوة سياسية وشعبية معقولة خاضت النضالات الوطنية والعمالية والمطلبية، إلى الحد الذي أتاح لقيادته ورموزه وأصدقائه، المشاركة في العديد من القرارات الوطنية المصيرية. وبالرغم من نباهة التحليل القائل، في وقت مبكر جداً، بنفي إمكان النمو الاقتصادي والسياسي المستقل لأي من هذه الدول، ستضيع جهود كبيرة للشيوعيين اللبنانيين، وتسيل دماء، خلف مشروع غير واقعي، لإصلاح سياسي واقتصادي في النظام اللبناني.
استمر الحزب الشيوعي، سورياً - لبنانياً، لأكثر من عقدين بعد «الاستقلال» وقيام الدولتين في حدودهما المعروفة حالياً، حين حصل في 1964 الانفصال الرسمي بين الحزبين. ولا تشير أدبيات الحزب عن تلك الفترة إلى أسباب «قطرية» لذلك، إن جاز التعبير. بل يمكن رد هذا الانفصال إلى مسائل حزبية داخلية من جهة وإلى الشعور العام بتفارق الظروف نتيجة اختلاف طبيعة النظام السياسي في كل من الدولتين، من جهة أخرى، وخصوصاً بعد تجربة الوحدة السورية - المصرية. لكن في المقابل، ليس سهلاً عزل الانفصال بين الحزبين، عن الانفصال الجمركي والنقدي بين سوريا ولبنان، (وهو انفصال وقع بدفع من البورجوازية التجارية والمالية اللبنانية، وأُنجز بشكل نهائي في الخمسينيات). كذلك سيكون من غير المنطقي عزل انفصال الحزبين عن التأثيرات «المحلية اللبنانية» والميول «التمايزية» التي شهدتها الساحة الثقافية اللبنانية المتفاعلة، كمبرادورياً، مع الثقافات الغربية. وأخيراً، سنلاحظ أثر المرحلة الشهابية التي ركّزت على بناء مؤسسات الدولة اللبنانية، وعزّزت، بذلك، الشعور بكيانيتها المستقلة.
تحفل الفترة الفاصلة بين المؤتمر الأول للحزب الشيوعي ـ السوري اللبناني ـ (1944) والمؤتمر الثاني للحزب بعدما صار لبنانياً (1968)، بالعديد من التطورات والنقاشات والميول التي تتطلب تخصيص بحوث حولها، ولكننا سنكتفي، هنا، بالإشارة إلى شبه الإجماع بين الشيوعيين على استعادة الحزب لدوره وجماهيريته ونفوذه، بعد تصويبه لموقفه من القضية القومية. وكان قد شهد قبل ذلك، انحساراً لدوره، أساساً بسبب السياسات والممارسات المنعزلة عن تلك القضية
تحديداً.
وفي حقبة السبعينيات التي حفلت بنضالات مطلبية، سياسية واجتماعية، تركّز النضال الوطني - القومي للشيوعيين، حول قضية تحرير فلسطين وانحصر، إلى حد بعيد، في دائرة التحالف مع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وتقدّم الموضوع الفلسطيني إلى موقع معياري، كان الجانب الفلسطيني هو الأكثر تأثيراً في تحديد ماهيته. وأتت الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1975، لتحقن التصعيد المتواصل للنضال الوطني اللبناني الفلسطيني المشترك، والشيوعيون في قلبه، في سياق كان الانقسام فيه، قد تبلور واتضح واحتد، بين «الدولة» السورية، التي يشارك الشيوعيون السوريون في جبهتها التقدمية الحاكمة، وبين قيادة معظم الفصائل الفلسطينية التي انحاز إليها حلفاؤها من الشيوعيين اللبنانيين.
أدى الحزبان الشيوعيان، اللبناني والسوري، خلال تلك الفترة، أدواراً مؤثرة من أجل رأب الصدع في «محور المقاومة» وتقاربت بينهما آراء وتفارقت أخرى. وبعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان وخروج مقاتلي منظمة التحرير منه، أطلق الشيوعيون اللبنانيون «جبهة المقاومة الوطنية» التي حققت إنجازات ضخمة في زمن قياسي وظروف صعبة، وساهموا، بشكل فعال، في تغيير الوجهة الإسرائيلية للبنان وحماية عروبته.
إلا أن الشيوعيين السوريين فشلوا لاحقاً، رغم موقعهم في الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة، في إقناع النظام السوري بتأمين موقع ودور لرفاقهم اللبنانيين، في اتفاق الطائف والمرحلة التي تلته. وفي الوقت الذي شعرت فيه القيادة السورية بأنها تحقق انتصارات وتعزز موقعها الإقليمي، ارتاح الشيوعيون السوريون في التحالف الجبهوي، رغم الانشقاقات التي كانوا يشهدونها، وتدحرج الحزب الشيوعي اللبناني، عبر أربعة مؤتمرات، إلى حيث لا يُحسد.
هل كان يمكن هذا المسار أن يتغير، جوهرياً، لو لم ينفصل الحزبان؟ ما من جواب قاطع، ولكن فكرة الحزب الواحد المتجاوز لحدود الاستعمار بقيت محمولة من قبل البعثيين والقوميين السوريين، وهذا ما يتطلب درسه بعناية تتجاوز خفّة الاتهام بالتبعية والاسترهان... إلخ.
وبالعودة، أقله، إلى العقود الأربعة الماضية، من الواضح أن الدور السوري في لبنان كان دائماً حاضراً وبقوة، لدرجة أن الشيوعيين اللبنانيين باتوا يصنفونه كعامل داخلي وليس خارجياً. وفي إحدى لحظات تأجج الصراع الإقليمي واستعصاء الحل الداخلي، دعا الأمين العام للحزب، الشهيد جورج حاوي، بجرأة ووضوح، إلى الوحدة بين لبنان وسوريا؛ ذلك أنّ ثمة ترابطاً وتشابكاً أكيدين للمصالح بين دولتين «وطنيتين» في سوريا ولبنان. هذا الأمر، وكذلك الوحدة الواقعية لمصير الشعبين، كانا يتجليان كحقيقة ثابتة مع تطور الصراع في لبنان واتضاح حجم الاستعصاء أمام الحلول الممكنة لأزمته. وبينما جنحت بعض القوى إلى التعامل مع هذه الحقيقة بطريقة لم تخل من مبالغة وانتهازية، وقع الحزب الشيوعي، لأسباب ذاتية داخلية بالدرجة الأولى، ضحية فكرة غير واقعية، وغير مبرّرة، عن إمكان قيام علاقة «ندية» بين حزب صغير ـ كالحزب الشيوعي اللبناني ـ ودولة إقليمية كبرى ـ كالجمهورية العربية السورية ـ! وما يجدر التوقف عنده، هنا، بتمعن، والتأمل ملياً فيه، هو معرفة السبب الذي يجعل حزباً تأسس، بالأصل، كحزب واحد للبلدين، وناضل ضد التجزئة والاستعمار ونتائج سايكس ـــ بيكو، عاجزاً، اليوم، عن تجاوز الحدود الاستعمارية، حتى في مخيلته. لا شك أن أموراً كثيرة حصلت منذ مرحلة التأسيس حتى اليوم، مروراً بالمؤتمر الثاني، الذي يتضح، أكثر فأكثر، أن إنجازه المهم في المسألة القومية – رغم أنه مستعاد من مناخ الثلاثينيات كما بينا – يجب ألّا يخفي ما أدّى إليه، في الممارسة التي قادته إلى اللحظة الراهنة.
إن التحول من الرؤية القائمة على أساس الوحدة بين البلاد السورية إلى هذا الإفراط في المحلية الضيقة، لا يمكن أن يكون نتاج أخطاء «فنية». ومع أننا نميل إلى اعتبار ذلك نتيجة تضافر عوامل عدة، من أهمها تأثير مرحلة النضال المشترك تحت شعار «القرار الوطني الفلسطيني المستقل» (عن سوريا حصراً)، فإن لوثة الفيروس الليبرالي التي أصابت عقل الحزب «الماركسي»، تبدو العامل الأكثر تأثيراً في سياق هذا التحول؛ فشتّان ما بين نداءات يوسف إبراهيم يزبك وفؤاد الشمالي، في العشرينيات والثلاثينيات، لمحاربة الاستعمار ورفض التجزئة والتمسك بوحدة سوريا ومن ثم تحسين الحياة المادية للعمال والفلاحين وما بين الدعوات إلى «الديموقراطية» في سوريا اليوم، من أجل تسليم السلطة لمعارضة تنام في حضن الاستعمار وتتبنى مشاريع التجزئة ولا تخجل من الدعوة إلى التدخل العسكري الأجنبي! إن مجمل رؤية الحزب الشيوعي اللبناني قد وضعت على المحك منذ اتفاق الطائف على الأقل، ومع أن تراجعه تسارع بعد أن وقف، منذ 2005، فوق التلة يراقب صراعات، لا يراها إلا طائفية، فإن الضعف الشديد لحساسيته، الوطنية والماركسية معاً، تجاه تطورات الأزمة السورية، يضعه، اليوم، خارج أي مستقبل للمنطقة، وبالتالي خارج التاريخ.
هل انتفت فرصة المبادرة كلياً؟ ليس بالضرورة إذا ما انطلقت، سريعاً، حركة شيوعية في الحزب أو خارجه تطرح رؤية بديلة، واضحة وحاسمة، تنظر إلى سوريا ولبنان كمجال جيوسياسي واحد، ومعهما دول المشرق العربي. مجال يتعرض، لأسباب إمبريالية معروفة، إلى هجمة تريد إخضاعه لإسلام سياسي تابع للإمبريالية أو تفتيته إلى وحدات أصغر من تلك التي أوجدتها التجزئة الأولى.
ومثل هذه الرؤية، المتحررة من الأوهام الليبرالية، تدرك أن التغيير في لبنان مستحيل، وليس صعباً فقط، خارج الأفق السوري. ولهذا السبب بالتحديد لا تحتل موضوعة «ديموقراطية» النظام السياسي سلم الأولويات، الآن. فوحدة مصير الشعبين والبلدين لم تعد مجرد «ذريعة» لهيمنة مضمرة أو «نوستالجيا» لزمن مضى، بل هي أبرز الحقائق التي كشفتها تطورات الأزمة السورية التي اندرجت في سياق ما سمي، زوراً «ربيعاً عربياً».
لكن التعبيرات السياسية «الفوقية» عن هذه الوحدة المادية الملموسة، لا تزال تنتمي، في معظمها، إلى الفكر القومي أو الإسلامي، وكلاهما بورجوازي وصلت أزمته إلى ذروتها في هذا الانفجارالشعبي، الكبير والواسع. وإنه من قبيل السذاجة أن يترك ممثلو الرأسمال، مجدداً، يوحدون جهودهم وطاقاتهم العابرة للحدود، ويفرضون خياراتهم وسياساتهم ويوسعون مجالات نهبهم إلى آفاق جديدة وبوسائل متجددة، بينما يتلهى ممثلو العمال والفئات الوسطى والشعبية في لعبة الأقطار والذوات المحلية وشعاراتها الكيانية الاستقلالية الليبرالية.
حصل مثل ذلك تماماً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حين توحدت الرأسمالية العالمية وارتفع مستوى تنسيق جهودها للنهب والهيمنة، بينما انصرف شيوعيون كثر يؤكدون «استقلاليتهم» عن المركز الشيوعي المنهار، من خلال التخلي عن الفكر والمبادئ والمواقع المناوئة للإمبريالية العالمية، في ما عرف بعقد «نشر الديموقراطية» على الصعيد الكوني، ولو عبر الاحتلال والعدوان. مثل هذه الرؤية المنشودة ترى أنه تتكثف، حالياً، المعطيات والشروط التي تدفع إلى تحقيق الحاجة الموضوعية المتمثلة بالتوحيد، الواقعي، لنضال الشيوعيين في لبنان وسوريا كخطوة على طريق تحقيق التكامل بين البلدين، اللذين يسيران، واقعياً، في مسار واحد.
ومن شأن كل ذلك أن يفتح آفاقاً رحبة لدور الشيوعيين وسائر القوى التقدمية في البلدين كما في دول المشرق العربي جميعاً؛ فسواء تعلق الأمر بواجب الإسهام الفعّال في المعركة الدائرة ضد الإمبريالية أو الرجعية، بشكليها الليبرالي والوهّابي، أو بالدفاع عن – أو بناء – الدولة الوطنية المستقلة، فإن متلازمة الدور والحاجة ستكون أكثر حضوراً وقوة، إذا ما تحرك شيوعيو سوريا ولبنان، وكذلك المشرق العربي، كقوة واحدة منتشرة وممتدة عميقاً في ثنايا المجتمع وأفئدة الشعب. ومن شأن ذلك أن يعزز موقفهم الداعي إلى القطع الحاسم مع النيوليبرالية واعتماد نهج اقتصادي اجتماعي بديل يقوم على رؤية وطنية تنموية وتكاملية.
ثمة فرصة، باعتقادنا، تلوح في الأفق، تاريخية وعيانية في آن واحد، لا تتحقق دون الانتصار الحاسم «للدولة السورية». ولكنها أيضاً، لا تستقيم، من موقع الانحياز إلى مصالح أوسع الفئات الشعبية والعاملة بأجر، وهي أكثرية الشعب العربي برمته، دون أن تصبح هذه الدولة «وطنية مستقلة وتقدمية» تشكل قاطرة مركزية لإطار مشرقي عربي، وطني ومستقل بدوره. وتتمثل هذه الفرصة بالتدخل اليساري الموحّد، السوري واللبناني في الحد الأدنى، في معركة انتصار «الدولة» السورية تمهيداً – واستحقاقاً – لمداخلة جدية في شراكة قيام الدولة الوطنية التقدمية المستقلة. إن تغييب هذا الدور إنما يصبّ في مصلحة جهات أخرى، لبنانية وسورية وإقليمية، تساهم في نصرة «الدولة» السورية دون أن تكون مهمومة بالنهج الاقتصادي والاجتماعي للدولة. فمن وجهة نظرنا لا تتعزز «وطنية» الدولة، كعصبية مقاومة للاحتلال الصهيوني والعدوانية الإمبريالية من جهة وكآلية توحيدية داخلية من جهة أخرى، من دون سياسات داخلية، اقتصادية واجتماعية، تنموية إن لم تكن تقدمية بالمعنى الشامل للمفهوم، ومن دون أنظمة سياسية توسع قاعدة المشاركة الشعبية في القرارالسياسي وتحترم الحقوق الأساسية للإنسان. غير أن تحقيق ذلك لا يمكن تصوره على أيدي قوى وجهات تتبنى النظرة الليبرالية أو القومية المتشددة، ولا ترى، بعد، إلى الترابط الموضوعي بين مهام التحرر الوطني المختلفة. ومؤدى ذلك، أن اضطلاع الشيوعيين في سوريا ولبنان وسائر المشرق بهذه المهام من شأنه أن يشكل عاملاً حاسماً في تحديد وجهة التطور المقبل، بدل تركه لقوى أخرى تساند الوطنية السورية الجريحة والمنهكة.
وبينما أسس الشيوعيون السوريون، بقواهم الناشطة، لهذا الدور من خلال انخراطهم الواضح والمعلن في المعركة الوطنية، من موقع الاختلاف مع النظام والحرص على الدولة، فإن الشيوعيين اللبنانيين المعنيين بهذه الرؤية، مطالبون بالمبادرة السريعة لابتكار شكل المساهمة في المعركة الوطنية دون أي تردد وبعيداً عن أوهام تتعلق بخصوصية الوضع اللبناني. فمعركة إسقاط «الدولة» السورية تجري في لبنان ومنه أيضاً، وإذا كان حزب الله يفضل خوضها في سوريا لأسباب معلومة، فإن الرصيد الوطني للشيوعيين اللبنانيين يمكنهم من خوضها، سياسياً، في لبنان بما ينزع عنها الطابع الذي يسعى إلى تعزيزه الحلف الإمبريالي الرجعي.
في هذه المرحلة التاريخية المحملة باحتمالات جديدة، تتولّد الأفكار الكبرى وتنفتح الفرصة أمام تحقيق الأحلام الكبيرة. وهي، لذلك، لا تليق إلّا بمن يتمتع بالحس التاريخي ويتلمّس الضرورة الموضوعية. وحدة الشيوعيين السوريين واللبنانيين باتت اليوم ممكنة جداً على قاعدة ضرورتها وجدواها معاً. وهي إذ تكاد تسابق احتمال التكامل بين البلدين، الآتي رغم الغبار الحالي، محملاً بروائح النفط والغاز وعوائدهما، قادرة على أن تتحول إلى إحدى روافعه، إن هي ما تأخرت. والحزب المأزوم في لبنان يكفيه أن يستعيد تحليل الثلاثينيات، الذي لم يتغير جوهره، كي يدرك بعض مفاتيح الخروج من أزمته. وفي عيد الشيوعيين اللبنانيين، اليوم، من الضروري تذكيرهم بأنهم، أيضاً وقبل كل شيء آخر، سوريون.
* قيادي يساري ـ لبنان