في الوقت الذي أقدم فيه «داعش» على ارتكاب مذبحة مروّعة في بيت للمسنين في عدن المحرّرة سعودياً، أعلن مجلس التعاون الخليجي ومن بعده الجامعة العربية، تجريم حزب الله واعتباره تنظيماً إرهابيّاً، بضغط سعوديّ غير مسبوق على الدول الخليجية والعربية. وهو ضغط ظهر للسطح، بعد التباين في موقف بعض الدول المشاركة كالعراق ولبنان وعُمان وتونس والجزائر.
حدثان متقاربان يعكسان أزمة المشروع العربي الراهن، في ظل السباق المحموم بين السعودية و«داعش»؛ أيّهما أكثر إخلاصاً في احتواء الساحة «السنيّة» تحت عباءة الفكر الديني الوهابي؟! السعودية بصفتها الدولة العربية الإقليمية الأولى بما تملكه من نفط ومقدسات، و«داعش» بصفته المنافس الأول على هذه الساحة بما يملكه من جاذبية في استقطاب عشرات الآلاف من الشباب المتعطش للموت (في سبيل الله) على أطلال دول سايكس بيكو.
احتدم التنافس الراهن بين السعودية و«داعش»، بعد إعدام الأخيرة للعشرات من الوهابيّين «الخوارج»، وهو ما ردّت عليه «داعش» بمحاولة اغتيال عائض القرني في الفيليبين، فالسعودية ترى نفسها خادمة الحرمين، وحامية حمى التسنّن، وإن بعقلية هيئة الإفتاء ومرجعيتها الوحيدة في ثنائي شيخ الإسلام: ابن عبد الوهاب وابن تيمية. وهي ذات المرجعية التي أقامت في هديها «داعش» خلافته الإسلامية؛ خلافة بقيت وأخذت تتمدد في مظلة التحالف العربي السعودي لتحرير اليمن، ممن يعتبرهم «داعش» أهل ردّة، وتعتبرهم السعودية في خطابها السياسي عملاءً لإيران الفارسية الصفوية.
صراع محموم في عدن المحرّرة، يتجلّى في صورة اشتباكات وتفجيرات واغتيالات شبه يومية، رغم عشرات الآلاف من مجاميع القوات الخاصة السعودية والإماراتية ومرتزقة «بلاك ووتر»، بينما تنعم صنعاء بهدوء أمني لافت تحت احتلال «عملاء إيران» الحوثيين، وهو هدوء يتخلله صبح مساء عشرات الغارات السعودية على جميع مرافق الحياة فيها.
وفّر التحالف السعودي العربي لـ«داعش» و«القاعدة» جميع الأوضاع الميدانية المناسبة للسيطرة على معظم مدن اليمن الجنوبي، بما في ذلك نفوذاً عسكريّاً واسعاً في كثير من أحياء عدن، رغم أن «داعش»، ما انفك في استثمار كل فرصة لضرب السعودية في كل مكان، عسكريّ أو سياسي أو عباديّ، حيث فجر مقرات حكومية تشرف عليها السعودية في عدن، كما فجر مساجد في السعودية ذاتها، وهي مساجد شيعية وسنية، أحدها مسجد لقوات الطوارئ السعودية في جبهة الحرب قبالة اليمن.
كان «داعش» في غاية الانسجام مع مبادئه العقدية/ الفقهية ومرجعية شيخ الإسلام، في اعتبار السعودية كياناً مرتداً مثلها مثل الشيعة والحوثيين وإيران وحزب الله، لذا هو يستهدف الجميع بحسب توفّر الهدف، ولكنّ السعودية تتعامل مع هذه التناقضات ضمن معطى يحتل أولوية على فتاوى ابن تيمية وابن عبد الوهاب، وهي أولوية سياسية تتصل بتحالفاتها الدوليّة، وهو ما يفسّر خصومتها المركزية مع حلفاء إيران، وخصومة ثانوية مع «الدواعش»، رغم أنّ شيعة الداخل السعودي لم ينفذوا أيّ عمل عسكري ضدها، ويقفون بما يشبه الحياد في صراعها مع اليمن، وخلافها مع إيران في سوريا ولبنان.
ضمن هذا الفهم في استعداء السعودية لإيران وحلفائها عداءً مركزيّاً لا هوادة فيه، في ظل تباين مواجهتها لأخطار الدواعش الذين يضربون داخل مدنها من دون رحمة، يمكن إدراك طبيعة الباعث السعودي على تجريم حزب الله واعتباره كياناً إرهابيّاً، وفرض ذلك على جميع الدول الخليجية والعربية، بما يصعب فهمه من دون استحضار العامل الدولي الإسرائيلي/ الأميركي، بما يعزّز صدقية التقارير المتواترة عن تقارب سعوديّ ــ إسرائيليّ متعاظم في الوقت الراهن، ضمن ما تواصل الكشف عنه وسائل الإعلام الإسرائيلية تباعاً، وقد بلغ ذروته بما تسرّب عن ملك البحرين المحمي حالياً بقوات درع الجزيرة السعودية، من ثقته بمظلة الردع الإسرائيلية في الدفاع عن الخليج ضد ما اعتبره؛ الأطماع الإيرانية.
وفي الوقت الذي ما زال فيه الكيان العبري يواصل احتلال جزراً سعودية منذ عام 1967م، والأهم احتلال الحرم القدسيّ، وهو ثالث حرم إسلاميّ، بعد الحرمين اللذين تشرف عليهما السعودية، في تحدٍّ لافت للقيم الدينية التي تنادي بها السعودية! فإنّ التركيز السعودي على تجريم حزب الله، بما يمثله من رمزيّة تاريخية للمقاومة ضد الكيان العبري، يبدو منسجماً مع أولوية العامل الدولي على حساب العامل الديني في الفكر السياسي السعودي الراهن.
ورغم دخول حزب الله معترك الصراع في سوريا، ضمن ما اعتبره التصدي لمؤامرة القضاء على محور المقاومة الممتد من طهران إلى بيروت وغزة مروراً بدمشق، وإظهار حزب الله كطرف طائفيّ يقاتل لأجل الشيعة لا لأجل التصدي لإسرائيل ومخططاتها في المنطقة، إلّا أن عين حزب الله كما الكيان العبري، يرقبان الآخر، ولا ينفكان عن ضرب أحدهما الآخر في كل فرصة تسنح، خاصة الكيان العبري في هجماته المتواصلة ضد حزب الله في سوريا، واغتياله العديد من قياداته العسكرية وآخرها القائد الكبير سمير القنطار.

إنّ دعوى زعم الإرهاب بحق حزب الله يعني تجريم تاريخه، وتجريم قضيته المركزية، وتجريم كامل رؤيته السياسية، بما يخدم الكيان العبري كونه الطرف الوحيد المستفيد من ذلك.
لكن يعلم كل إنسان عربي أن الحزب نشأ كردّ على الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، في ظل عجز منظمة التحرير الفلسطينية عن دحره في ذلك الوقت، ومواصلة الحزب دعمه للمقاومة الفلسطينية من دون تردد، مع بقاء عقيدته القتالية ذات الطابع الوطني التحرري بمظلة فكرية إسلامية عامة، وإن بتراث شيعيّ، ضمن رؤية سياسية شرقية تتجاوز حدود الوطن والمذهب، لتنصب على مركزة الصراع مع إسرائيل.
وحقيقة الإرهاب تكمن في كل قتال عبثيّ لا يحمل قيمة سياسية، بما يعني قتل المدنيين بالجملة لأجل القتل، كحال استهداف بيت المسنين في عدن بشكل مقصود، وكحال المظلة الفكرية /الأمنية/ السياسية التي ترعرع في ظلها وضمن بيئتها هذا الاستهداف، بما يجعل كل متابع يجزم أن تجريم حزب الله بالإرهاب في هذه الظروف يعني غض الطرف عن جرائم الإرهابيين الحقيقيين، وهم يتفنون بشتى صور القتل العبثي، وخاصة قتل المدنيين العُزّل... وهو ما لم يقم به حزب الله طوال سنوات حرب الاضطرار المفروضة عليه، والذي ينبغي أن يكون عارضاً ومؤقتاً في سوريا.
* باحث وكاتب ـ فلسطين