كنت منذ مدّة برفقة تلامذتي، من إحدى جامعات بيروت الخاصة، أعطيهم درساً بمادة الرسم الإيضاحي للصحف والمجلّات. كنا سبعة أشخاص مجموعين حول طاولة كبيرة. وفيما كنت أقدّم ملاحظاتي لإحدى الطالبات، كان كلام يدور بين بقية الطلبة. لا أدري من أين انطلق الحديث لتنبثق عنه «نكتة» أن أهل الطلبة كافة، باستثناء واحدة منهم، هم من متابعي قناة «المنار». كان الأمر مضحكاً بالنسبة الى الطلبة، لاعتبارهم ربما أن انتماء أهلهم الاجتماعي إلى «المنطقة الشرقية» يجعل الركون الى قناة «المنار»، المُنتمية إلى جغرافية اجتماعية مختلفة، أمراً غير عادي أو يستعصي عليهم فهمه. عند لحظة معيّنة من الحديث، سمعت إحداهن تقلّد لزميلتها أسطوانة إعلان «حملة باب الصفا» وقد اعتمدت نبرة حسِبَتها صوت رجلٍ وقور. لم أتمكن من متابعة الدرس، فتدخّلت في الحديث الدائر على مسمعي وشاركت الطلبة «خبرية» أن والدتي، «الكتائبية» في شبابها، باتت أيضاً تنام وشاشة التلفزيون في غرفتها مُستقرّة عند قناة «المنار». وحين أدخل غرفتها متأخراً في الليل، قبل موعد نومي، يكون صوت قارئ القرآن يعمّ الغرفة، فأطفئ التلفاز وهي غافية. خلال الحديث، أقرّ مُعظم الطلبة أنّ والدهم، على الأقل، كان «عونياً». واحدة منهم صرّحت أنّ والديها كانا «قوميان اجتمعيّان» قبل المرحلة «الحردانية».
لا شك أن في الأمر «نكتة» لمن يفهم الواقع مُعتمداً على التفسير العادي والأكثر شيوعاً للرموز. فقناة المنار «إسلامية» وهذا ما يغيب كلياً في «ثقافة» «المنطقة الشرقية» لبيروت وضواحيها في حياتها الرمزية. طالبةٌ أخبرتني أن أحد الاساتذة في الجامعة كان، عند تلاوة اسمها، يشير إلى انتسابها إلى «عائلة نيابية» من قضاء كسروان ويستطرد في الموضوع. كان هذا الأمر يزعجها، اذ إنها، في كل الاحوال، لم تطلب هذا التعريف لنفسها. بدا الطلبة لي وكأنهم يتعاطون مع انتسابهم الاجتماعي، أو ارتباطهم بـ«المنطقة الشرقية»، مثل غيرهم من المُتحمّسين «للثقافة العليا» والبوهيميا والقيم المرتبطة بمهنة الرسم عادة. وأنّ هذا الارتباط هو شكل من «العَلْقَة» وأنّ «المنطقة الشرقية»، كإطار تفاعلي، هي عبارة عن حالة جنون وهَوَس بالسياسة وبـ«التَعصيب» والتمسّك بالأيقونات والتمترس خلفها (عون، جعجع، بطريرك الموارنة، الصليب، الصليب المشطوب، القداس، القديسة ريتا، بشير...). ضمن هذه السردية، قد يفهم الطلاب انجذاب أهلهم إلى قناة «المنار» على أنه غريب من ناحية، إنما أيضاً مكمّل لحالة الجنون واللامنطق الطاغية لحالة قبول «املاءات الأيقونات». هكذا يكون «ذهب عون عند الشيعة، ولحقه الأهل».
في أوساطٍ شعبية مُختلفة، قد يصادف المرء تفسيرات «أيقونية» مُتنوعة، عقلانية أو«نبيلة»، لأسباب ركون المرء في «المنطقة الشرقية» إلى تلفزيون الحزب الاسلامي، مثل فكرة «أنهم يدافعون عن لبنان» وهو ما يبدو أنه الخطاب الذي اعتمده «حزب اللّه» في تقديم ذاته مع مرور السنوات. وهناك الصيغة الطائفية المسيحية: «وحدهم يدافعون عن لبنان والأقليات في وجه الخطر التكفيري»، وهذا ما يعتمده عادةً «التيار الوطني الحر». لكن مجموع هذه التفسيرات يُبقي الجهات المعنية، أي فئات من جمهور «المنطقة الشرقية» و«حزب الله»، بمثابة كيانين مُختَلفين ولا يُعطي، برأيي، حقاً لجوانبٍ من شخصيات الأفراد في المنطقتين «الشرقية» و«الغربية» في وسائل تحقيق ذاتها، كما لجوانب من خطاب وأداء «حزب الله»، بحيث يمكن استيعاب العلاقة بين الجِهتين بمستوى من الوعي يُمكن البناء عليه سياسياً.
هناك شيء مؤسف، بل مجرم، في موضوع «ورقة التفاهم» بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وقد مرّ عقد على تاريخ إعلانها، إذ لم يَعمد أي من الفريقين إلى البناء عليها على المستوى التعبوي ــ الشعبي أو على مستوى الانتاج الايديولوجي، لدرجة تسمح بالافتراض، نظرياً، أن الورقة كانت لتصبح باطلة اليوم، لولا صدفة الهواجس الناتجة من الحرب السورية.
تملكني شعور بالاحباط عند استماعي الى طَلَبتي، ولم أتوان عن لفت نظرهم الى أنّ «ورقة التفاهم» هذه، الكامنة مثل الأيقونة وراء سلوكيات أهلهم، فتحت عند إعلانها إمكانيةً لبناء جسورٍ رمزية مُتنوعة بين جُمهورَي «المنطقتين الشرقية والغربية». ولَفَتُّ نظرهم إلى أنّ بعض أصدقائي من «المنطقة الشرقية» كانوا يصفون الأمين العام لـ«حزب الله» بـ«الجعاري» فيما مضى، لشدة ابتعادهم عن هموم وهواجس ومعاني رُموز «المنطقة الغربية»، بينما كان الرجل يُعتبر أكثر شخصية كاريزماتية لدى الفئات الشعبية في «المنطقة الغربية». ولم يكن «حزب الله» متورّط في قمع الحياة الحزبية في «المنطقة الشرقية». كان هذا قبل عرض وثائقي «حكاية حسن» على قناة «العربية» وفي مرحلة كان فريق الحريري في لبنان ما زال يتحدث عن «الطائفة الشيعية الكريمة» و«الشراكة في الوطن».
عندما كتبت مقالاً عن خطابٍ للأمين العام لـ«حزب الله» منذ بضعة أشهر، كنت قد ذكرت السيد حسن نصرالله مراراً في النص مُعتمداً على اسمه الكامل فقط: «حسن نصرالله». فتدخّلت والدتي (سألت رأيها بالنص) وطَلَبت أن أُلقبه بـ«السيد» دائماً. وأضافت مُعاتبةً: «ما تكون بدّك تسمّي حسن، متل ما بيعملوا أعداؤه؟». ورغم أنني لم أوافقها الرأي، تماماً، في ما يخص معاني النصّ الذي كتبته، إلا أنني انصعت لتوصيتها. فقد كُنت أُقرّ، على المستوى النقدي، أن وراء الحملة على شخص الأمين العام نزعات طائفية قديمة وخبيثة، من النوع الذي اعتقدنا أن «ورقة التفاهم» وحرب تموز سوف تمهّد لدفنها، أقلّه على الساحة السياسية والاعلامية.
بديهيات هذه الجسور الرمزية وما حقَّقَته على مستوى تنشئة فئات واسعة من الناس، اعتبرت تقارب «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» بمثابة محطة أمل على طريق التخلّص من نظام اجتماعي قديم. هذه البديهيات قد تكون الآن غير واضحة لجيل جديد من الشباب يقارب الواقع اللبناني وفق تقسيمات رمزية مُختلفة بدأت سنة 2007 وجُمّدت من حينه. وفق هذه التقسيمات، بات اليوم سهلاً أن يلتقي سبعة طلّاب ويتهكمون مع أستاذهم على سلوكيات أهلهم الشاذّة، مُتناسين ربما في تمردّهم على «أيقونات» «المنطقة الشرقية» وأهلهم، أنّ هؤلاء من خلال مشاهدتهم لقناة «المنار»، ربما يأخذون التمرّد على أيقونات زمانهم خطوة إضافية الى الأمام، فلم تعد تغويهم الجعدنات الطائفية والطبقية للمحطات الكسروانية. وبالاختلاف مع تاريخٍ من التنشئة العنصرية ضد الحجاب، أو التنشئة الطائفية ضد المسلمين، أو التنشئة الرمزية ضد كلّ ما ليس غربياً أو مقلّداً للغرب، أصبحوا يفضّلون مشاهدة الأخبار والأحداث حيث يَتم صنع صلبها.
ما هي نسبة الذين يتابعون «المنار» في «المنطقة الشرقية»؟ وهل من نتيجة سياسية لهذا الانسجام على المدى البعيد؟ قد لا نلقى جواباً سوى عبر تناقل «الخبريات».