ينبثق سؤال القراءة المتمعّنة في أحداث المشرق العربي الجارية الآن، وخصوصاً في سوريا ولبنان والعراق، التي تُسمى «ثورات»، من المسافة الفاصلة بين الأفق المختلف الذي تَعِدُ به، وكونه استحقاقاً كارثياً، تجسّم في هذا الهول والفظاعة من التقتيل والتدمير أو الخطف والذبح والتكفير، وغياب إمكان التغيير الحقيقي، الآن، وبهذه الأدوات، في هذه المجتمعات.
وإن لم يكن مستغرباً أن يعجز خطاب الحسّ المشترك المسيطر في الذهنية الثقافية في بلداننا، عن تكوين رؤية اشتمالية لشروط التغيير، وإحداث قلب جذري لنمط الحياة والعلاقات، فإن اللافت والصادم للمشتغلين في حقل المعرفة والثقافة، أن بعض المثقفين الواقعين في دائرة الثقافة العالمة، والمشهود لهم في إنتاج المعرفة وبناء المفاهيم وتشكيل الحقائق والتأثير في الرأي العام، يطرحون رؤى ومواقف فكرية تتسم بالهشاشة والعجز عن التسويغ الفلسفي والتأصيل الكينوني، في ما يخص هذا الذي يحدث في مشرقنا العربي. ولعل خير مثال على هذا، المفكر المعروف مطاع صفدي.
اعتمد صفدي في قراءته للحدث السوري على المقاربة الفلسفية المترددة بين التجريبية والكينونيّة، لكي تسيطر الأولى في نهاية المطاف، وقد تجلى هذا في عديد مقالاته؛ ومقالته الأخيرة «أين هي الثورة السورية اليوم؟» (11 آب 2013)، تَعتبرُ أن «الثورة العفوية» هي العنوان الحقيقي للاحتجاجات القائمة في سوريا، وأن رافعتها «هؤلاء الفتيان الذين ملأوا ميادين الأرياف معلنين إرادة إسقاط الاستبداد»، بهذا يجري تبنّي المقاربة التجريبية القائمة على المعرفة الحسية المباشرة التي تحرك الجموع بصورة سريعة وارتجالية، وفق استنتاج منطقي - شكلي فقير ثقافياً ونظرياً، مفاده، هناك استبداد، إذن هناك ثورة. لهذا غابت عن مفكرنا مآلات الحراك غير المعقلن، الهادر باسم المقدّس، الذي يشكل جاهزيته المعرفية، ومنطلقه السلوكي الغريزي، والتدميري. وإذا كانت طليعة الشعب السوري في دمشق العريقة حضارتها، وحلب المدينة الصناعية المتقدمة، لا تؤشر على الإمكان الأصيل للثورة، فإن من الطبيعي أن تختطف عفويةُ فتيان الريف السوري الممتلئين «بالوهّابية» و«الإخوانية» المُحتضنتين تمويلاً وتسليحاً وتغطية إعلامية، من السعودية وقطر وتركيا، شعلة «الثورة». والمفارقة، أن مفكرنا يعوّل على هؤلاء الشباب الريفيين في أن يقوموا باسترداد «وطنية ثورتهم من التغريب في صنفيه: الذاتي التراثي والعولمي الأجنبي»، وهم المترعون، أصلاً، بالفكر الغيبي الجهادي، المتواطئ منذ الأيام الأولى للحراك، مع الغرب وتركيا والرجعية العربية، الذين قدّموا كل الدعم اللوجستي المعروف لقادته. هنا، ينتهي انحياز مفكرنا إلى الخطاب الكيانونيّ، عندما يلقي على عاتق الخطاب الغيبي التكفيري الذي يملأ رؤوس الثوار، مهمة إحداث القطيعة مع الاغترابين اللذين ذكرا. من هنا يكون طرح المسماة «ثورة» لشعارات «الحرية» و«الكرامة»، ليس من منطلق تذكّر الفرد لوجوده أو العناية بكينونته، بل هي تتمسّك بالطريقة الآداتية في فهم المعيش - الموجود، وبهذا تعود لعين الشعارات التي تثور ضدّها، وتنسى الإنسان - الفرد، الذي تبرر تدميره باسمها.
تدميرالمفهوم يتحطم مفهوم الثورة ذاته عندما ينطوي، في اللحظة عينها، على دلالتين متضادتين، وهذا ما طبع موقف مفكرنا منذ البداية؛ ففي مقاله الأول - الاثنين 4 نيسان 2011 «سوريا شعباً ونظاماً في طليعة الثورة العربية الجديدة؟»، رأى أن «سوريا شعباً ونظاماً، عائدة إلى صدارة الطليعة للثورة العربية الجديدة»، وفي مقالته، بعد عشرة أشهر (16/1/ 2012) «الديكتاتور مات... الشبح ما زال»، ذهب إلى أن النظام يمثل ذروة «العصر الديكتاتوري الأوحش»، علماً بأن طبيعة النظام لم تتغير؛ فهي، حقاً، ديكتاتورية وشمولية طاغية. ولكن أن ينتقل مفكرنا من حدّ إلى حدّ مضاد مباشرة، فإنما يحاول إخفاء تصوره العام المتناقض عمّا يعتبره ثورة. أما التناقض الأعمق، فيبرز في قولته: ما يحدث في سوريا «ثورة الشعب...» – (مقالة في 8 كانون الثاني في «القدس العربي»)، وفي مقالة 11 آب المشار إليها، يذهب إلى النقيض ويقول: «إنّ المجتمع بدأ يرفض الثورة بنفس الدرجة التي رفض فيها نظام الاستبداد
الحاكم».
ربّ سؤال ينهض هنا: لماذا لم يكن لبعض أهل الثقافة العالمة، ومنهم صفدي، أن يقدّروا هول الكارثة المُتَحصّلة عن «ثورة» لا تمتلك، من حيث المبدأ، شروط شرعيتها؛ من أفق التغيير، كرؤية فلسفية، إلى أدواته النضالية، إلى خطته السياسية؟ لقد كان واضحاً للبصيرة الأصيلة، منذ اللحظة الأولى «للثورة»، أن هدفها، وخصوصاً إذا عرفنا أن قواها تتمثل بالإخوان المسلمين وحلفائهم الأميركيين، الصهاينة، تركيا، قطر والسعودية، وتكشف طبيعتها الخيانيّة، هو تدمير المشرق العربي، من مصر إلى العراق مروراً بسوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وكانت البداية بسوريا، حيث فضّل قادتها (= الثورة) مصالحهم على غيرها، حتى ولو كان الثمن أو الهدف «هو التخلص من سوريا كدولة وشعب وحضارة». وإذا كان صفدي عرف مآل «الثورة» هذا، بعد سنتين من انفجارها، فمتى سيتمكن من إجراء مراجعة، لكي يطلّق الكذبة التي سُميت «ثورة»؟
ألا تكفي كل مشاهد عمليات التدمير والتمزيق في جسد المشرق العربي، بالنسبة إلى بعض أهل الثقافة العالمة لكي يعيدوا قراءتهم وتموضعهم؟ ألم يتساءلوا عن أسباب تشويه لبنان - المقاومة التي واجهت ببطولة منقطعة النظير العدوانية الهمجية الصهيونية؟ ومن الطبيعي أن تكون الفتنة الطائفية المُقادة بأيدي فصائل «الثورة» ورعاتهم من عرب الرجعية وأجانب الغرب الرأسمالي، هي الوسيلة الأنجع عندهم، لما لها من مقدرة على التحريك الغريزي القطيعي. ألم تهزّ عقولهم وضمائرهم تفجيرات الضاحية الجنوبية في بيروت، وخصوصاً الرويس؛ والتفجيرات الإرهابية اليومية الفظيعة في مدن العراق؛ وفي المدن والأحياء السورية تحت مسمى «ثورة الجهاد ضد الكفر»، وخصوصاً، تلك الأخيرة في جبال الساحل السوري، حيث «السعودية تشن حرباً طائفية على سوريا»، كما قال أحد الصحفيين المعروفين؟ أليس النظر في طبيعة تنظيم «دولة العراق والشام الإسلامية»، ومتابعة دوره وأفعاله الإجرامية، كافياً للقول علانية، ومن أعماق الروح والعقل: كفى تضليلاً. كفى خيانة. هذا الذي يحدث، ليس ثورة. هو كارثة.
* كاتب وناشط يساري ــ سوريا