ولد لبنان دولة مستقلة بحدوده الحالية، كما العديد من دول المشرق العربي، بإرادة أجنبية. كانت هذه الولادة إحدى ثمار اتفاقية بين فرنسا وبريطانيا المعروفة باتفاقية سايكس بيكو، والتي آلت إلى تفكيك سوريا التاريخية، إذ أعطت لكل من الدولتين الحق في رسم الحدود الدولية داخل الأراضي التي هي تحت سيطرتها.لم يكن قيام لبنان دولة مستقلة انعكاساً لمشيئة جميع الشرائح الشعبية التي تشكل النسيج الاجتماعي اللبناني، فقد عمدت فرنسا إلى مراعاة مشاعر ورغبة بعض الفئات، وبخاصة من الذين ينتمون إلى الطائفة المارونية ويرون في لبنان خصوصية اجتماعية وتاريخية تبرر الانفراد عن محيطه بدولة مستقلة، بينما عارض انفصال لبنان عن سوريا عدد كبير من سكان لبنان في حينه، ومعظمهم من الذين ينتمون الى الطائفة الإسلامية خوفاً من ابتعاده عن محيطه العربي. وقد كان للهواجس والمخاوف والذاكرة التاريخية، التي هي في صلب الثقافة الطائفية، دور هام في هذا الانقسام.
ضرورة التخلص من الانتداب الفرنسي فرضت تقارباً في وجهات النظر بين الأطراف الأكثر تباعداً في نظرتهم إلى لبنان المستقل، تمثل بشكل اتفاق بين الزعيم السني رياض الصلح، الذي أصبح أول رئيس حكومة للبنان المستقل، وبشارة الخوري، الزعيم الماروني الذي أصبح أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال. عرف هذا الاتفاق بالميثاق الوطني الذي أعلن للبنان وجهاً عربياً ووزع اقتسام السلطة بين الطوائف الرئيسية فيه. وهو وإن لم يحظ بأية صفة قانونية، لأنه لم ينبثق عن سلطة دستورية أو إرادة شعبية، فقد شكّل الحجر الأساس للنظام السياسي الذي لا يزال يطبق في لبنان، وللثقافة الطائفية التي ينتجها، الضامنة لتفكك المجتمع والذهاب بوحدته ومناعته عند الشدائد.
لا يجوز التصور أن النظام السياسي في لبنان هو أساس العصبية الطائفية فيه، فالانتماءات والهويات الطائفية والمذهبية هي من أهم الروابط الاجتماعية في تاريخ لبنان الحديث وقد لعبت ولا تزال تلعب دوراً أساسياً في تكوين المجتمع اللبناني وفي تدميره. فتاريخ الاحتراب الداخلي بين الطوائف يكاد يشكل تاريخ لبنان الحديث.
من الواضح أن القيادات الشعبية التي عملت من أجل الاستقلال وجلاء القوات الأجنبية كانت رهينة الهواجس الطائفية والانتماءات الفرعية في نظرتها إلى نظام الحكم الواجب اعتماده في الدولة الناشئة، ولم تكن على دراية بماهية الدولة الحديثة ومقوماتها ووظائفها والقيم التي يجب أن تكون الركائز الأساسية لمؤسساتها، على الأقل في ما يعني ضرورة التوحد الاجتماعي حول المصالح المشتركة التي هي المبرر الأساس لقيام دولة مستقلة.
فعوضاً عن أن تتعظ من تجارب الماضي، ومن خطورة تنمية الهويات والانتماءات الفرعية في المجتمع ودور ذلك في تفجير الأزمات الداخلية والقضاء على وحدة المجتمع، وبالتالي الانتقال إلى نظام سياسي حديث يضمن وحدة المجتمع ويعزز مناعته، عمدت القيادات السياسية، الإقطاعية في غالبيتها، إلى تعزيز الروابط البدائية من خلال تبني نظام سياسي أساسه الطائفة أو المذهب وليس الفرد، وذلك يناقض جميع أنظمة الحكم في الدولة الحديثة، وبخاصة الديمقراطية منها التي أساسها الفرد موضوع جميع الحقوق والواجبات في الدولة.
ولم يكتف واضعو النظام السياسي في لبنان بتوزيع السلطات في الدولة والوظائف العليا فيها بين الطوائف، وإنما عمدوا إلى تبني قوانين ومؤسسات قضائية للأحوال الشخصية تمنع حتى الطبيعة من توحيد المجتمع اللبناني. فقوانين العائلة، من زواج وطلاق ونفقة وتبنّ، والمحاكم التي تتولى تطبيقها، هي من الاختصاص الحصري للطوائف التي بلغ عددها المعترف به رسمياً ثماني عشرة طائفة ومذهباً.
وإذا كان الهدف من توزيع السلطات في الدولة بين الطوائف، وإبقاء هيمنة كل طائفة على الحياة العائلية للأفراد التابعين لها هو بلوغ الشعور بالطمأنينة والأمن لكل منها، فإن هذا الهدف لم يتحقق إطلاقاً، بدليل الأزمات التي لم تنقطع منذ استقلال الجمهورية اللبنانية حتى يومنا هذا، وفي جميعها كانت الهواجس والعصبية الطائفية من أهم محركاتها.
إن النظام الطائفي في لبنان بما ينتج من ثقافة سياسية تباعد بين أبناء المجتمع، وتنمّي انتماءات وهويات فرعية بدائية، هو من أهم معوقات بناء وطن في دولة حديثة قوانينها ومؤسساتها هي الضامن الأساس لحرية وأمن واستقرار جميع المواطنين.
والنظام الطائفي هذا لم تنحصر مضاره في الداخل اللبناني وفي علاقة اللبناني بمؤسسات الدولة وعلاقة المواطن بالمواطن، بل تعداها ليطال علاقة لبنان بمحيطه الخارجي وبكل دولة لها فيه أو بمحيطه مصلحة خاصة. وبالتالي فقد أصبحت الدول الخارجية تدير مصالحها في لبنان من خلال ما تجمع من معلومات وخبرة في تحريك الهواجس الطائفية والمذهبية عند أبنائه. وقد أدركت الدول المعادية للمصلحة العربية أهمية تفعيل العصبية الطائفية في خلق الفتن وتدمير المجتمعات العربية، فعمدت الولايات المتحدة إلى القضاء على الخطاب القومي العربي في العراق وفرض نظام سياسي أساسه طائفي وإثني، فبات يحكى عن لبننة العراق وبتنا نشاهد أثر ذلك في وحدة العراق وأمنه واستقراره.

العامل الإسرائيلي

لا شك في أن قيام دولة إسرائيل عام 1948 واقتلاعها مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني من أرضه والدفع بهم إلى اللجوء إلى الأراضي اللبنانية شكّل ولا يزال التحدي الأعظم للبنان والعامل الخارجي الأهم في الأزمات التي عاشها وما زال يعيشها.
لقد بات جلياً من خلال مذكرات قادة إسرائيل أنّ الرغبة الصهيونية والعمل على استغلال المخاوف والهواجس الطائفية لدى الشعب اللبناني كانت في صلب المخططات الرامية إلى تحصين إسرائيل حتى قبل قيام الكيان الصهيوني وذلك عن طريق إقامة دولة مسيحية يحكمها ماروني تكون حليفة للكيان الصهيوني في إضعاف القدرة العربية على استعادة الحق العربي في فلسطين ورفع الظلم عن شعبها.
لم تنقطع محاولات إسرائيل عن الإفادة من نقاط الضعف الطائفية أو المذهبية التي هي من سمات المجتمع اللبناني حتى يومنا هذا. ولعل قمة الصلافة في محاولات إسرائيل استغلال العلل الطائفية التي يعاني منها لبنان، تكمن في الدور الذي قامت به إبان الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975 واستمرت وعانى منها اللبنانيون مدة خمس عشرة سنة، كانت خلالها إسرائيل تسلح وتدرب وتدعم الفريق ذا الأكثرية المسيحية. من جهتها، دخلت منظمة التحرير الفلسطينية الحرب الأهلية إلى جانب الطرف ذي الأكثرية المسلمة، فتعزز الشعور لدى العديد من المسيحيين بأن التدخل الإسرائيلي في الحرب الأهلية هو لحماية المسيحيين وأن المقاومة الفلسطينية هي ضد المصالح المسيحية في لبنان.
وبالمقابل، ولد شعور لدى الطرف الآخر بأن المسيحيين هم حلفاء إسرائيل، وأعداء العروبة والإسلام، وبأن المقاومة الفلسطينية هي حليفة المسلمين والمدافعة عن حقوقهم في لبنان. وكذلك زاد النسيج الاجتماعي تمزقاً مما انعكس على مؤسسات الدولة وفعالياتها، وما زال أثر تلك الحرب فاعلاً حتى يومنا هذا.
لم تكتفِ إسرائيل بتأييد وتسليح وحضّ طرف لبناني ضد طرف آخر، فقد اجتاحت ودمرت واحتلت الأراضي اللبنانية مرات عدة خلال الحرب الأهلية، أهمها بدأ عام 1978، وتكرر عام 1982 حيث عملت القوات الإسرائيلية على تدمير واحتلال أقسام كبرى من العاصمة اللبنانية، وذلك بحجة اقتلاع المقاومة الفلسطينية من لبنان. وقد ارتكبت ورعت ارتكاب جرائم كبرى كان أهمها مذبحة صبرا وشاتيلا، التي بدأت في 16 أيلول/ سبتمبر 1982، واستمرت ثلاثة أيام قتل خلالها، بالدم البارد، ما يقارب الخمسة آلاف ضحية معظمهم من الفلسطينيين، ولكن فيهم من اللبنانيين أيضاً.
لا شك في أنّ النظام الطائفي وما يولد من انقسام وتفكك في المجتمع، هو المسؤول الأول عن جميع ضحايا الحرب الأهلية وهو الذي سهل لإسرائيل جميع الجرائم التي ارتكبت بحق اللبنانيين والفلسطينيين.

«الطائف» والدور السوري

المألوف أنّ الحرب الأهلية انتهت بالاتفاق الذي وقعه قادة سياسيون لبنانيون في 30 أيلول 1989 في نهاية المؤتمر الذي انعقد في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية، ويعرف باتفاق الطائف. لكن هذا الاتفاق الذي أعاد وكرس النظام الطائفي الذي استولد الحرب الاهلية بكل مآسيها لم يوقف الحرب. في الواقع، شهد لبنان بعد التوقيع على اتفاق الطائف بمدة سنة تقريباً أبشع المعارك وأكثرها دموية، ولم يتوقف القتل والدمار فعلاً إلا بعد دخول الجيش السوري عام 1990 وبموافقة الولايات المتحدة، التي كانت تحضر في حينه لحربها الأولى على العراق.
انتهت الحرب الأهلية في لبنان عام 1990، واختار لبنان أول حكومة له بعد الحرب برئاسة رفيق الحريري، لكن الاحتلال الإسرائيلي لم ينته. فالاعتداءات الإسرائيلية استمرت بشكل يومي، خاصة بعدما قويت شوكة المقاومة التي اشترك فيها لبنانيون من أحزاب قومية ويسارية بالإضافة إلى حزب الله وحركة أمل. لقد انتهى الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب الكامل لقواته واستعاد لبنان سيادة تامة على أراضيه المحررة في 4 أيار 2000.
الهيمنة السورية على لبنان استمرت حتى العام 2005. وارتكبت القوات السورية خلالها أخطاء كبرى دفعت بغالبية اللبنانيين إلى النفور من الوجود السوري في لبنان. ولكنها ساعدت في فرض الاستقرار الداخلي، وإعادة البناء وبخاصة مؤسسة الجيش وباقي مؤسسات الدولة، وحضنت وساعدت المقاومة للاحتلال الإسرائيلي وبخاصة حزب الله حتى التحرير شبه الكامل للأراضي اللبنانية بلا قيد ولا شرط، فارضةً بذلك سابقة لا مثيل لها في السلوك الإسرائيلي تجاه جميع الدول العربية التي احتلت إسرائيل جزءاً من أراضيها.
لم يكن باستطاعة إسرائيل أن تستكين لانسحابها الاضطراري وما خلفه ذلك من أثر على معنويات وهيبة الدولة التي لا تقهر. وإن كانت إسرائيل قد اعتبرت أن انسحابها من لبنان سوف ينهي الأسباب التي من أجلها قامت المقاومة في لبنان، وبالتالي سوف تنتهي المقاومة بغياب مبررها، أيقنت بعد مدة وجيزة لانسحابها إن المقاومة زادت قوة ومنعة. لا بل إن ثقافة المقاومة بدأت تنتشر في غياب أية استراتيجية عربية أخرى لاستعادة الحق العربي في فلسطين. وتأكد لها ذلك عند قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد مضي أربعة اشهر على انسحابها من لبنان.
وبما أن ليس للغاصب المحتل ما يخشاه أكثر من أن يتبنى المظلوم المحتلة أرضه ثقافة المقاومة ويمارسها بنجاح، عوضاً عن أن يعيش ثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع التي فرضتها إسرائيل منذ قيامها عام 1948 حتى عام 2000، فقد أصبح القضاء على حزب الله والمقاومة بعامة، ثقافة وممارسة، من أهم أهداف إسرائيل ومن أعظم مؤرقاتها.
عمدت بالدرجة الأولى وبشكل ممنهج إلى تشويه الصورة المعنوية لحزب الله في المجتمع اللبناني وعلى الصعيد الإقليمي والدولي. وانطلق إعلام دولي وعربي ومحلي، مدعوم بقرارات دولية، يصف حزب الله بأنه منظمة ارهابية وبأنه يشكل تهديداً للسيادة اللبنانية، التي في الواقع لم يذق طعمها اللبنانيون قبل تحرير أرضهم وفرض قدرة ردعية على السلوك الإسرائيلي. فتشويه الصورة المعنوية لحزب الله، وتحويله في ذهن اللبنانيين من محرر للأرض والشعب وفارض سيادة الدولة إلى إرهابي يهدد سيادة لبنان وأمنه واستقراره ضرورة يجب انجازها.

اغتيال الحريري وحرب تموز

لم يكن لإسرائيل أن تنجح في مخططها هذا دون خلق فتنة طائفية أو مذهبية في لبنان، لأنها الوسيلة الأضمن والأفضل في تمزيق النسيج الاجتماعي. ولم يكن ذلك ليحصل بوجود شخصية قوية لعبت دوراً هاماً في إعادة اللحمة بين اللبنانيين بعد الحرب الأهلية مثل الرئيس الحريري. شخصية لها مكانة مرموقة لدى جميع الطوائف اللبنانية ووضع مميز لدى الطائفة السنية، وتدعم المقاومة، فكان قرار اغتياله. وربما كان دعم الرئيس الحريري للمقاومة طيلة فترة وجوده على رأس الحكومة واقترابه من الأمين العام لحزب الله واجتماعاته المتكررة به كانت السبب الأهم لضرورة التخلص منه.
تلى الاغتيال فوراً حملة إعلامية هائلة، على الصعيدين الدولي والمحلي، تتهم أعداء إسرائيل الأكثر بروزاً باغتيال الحريري. فقامت الولايات المتحدة وسواها من الدول المؤيدة لإسرائيل باتهام سوريا وحلفائها في لبنان بالمسؤولية عن اغتيال الحريري قبل القيام بأي تحقيق وبدون أية أدلة. وقام مجلس الأمن الدولي بتعيين لجنة تحقيق بشكل لا سابق له في ظروف مشابهة على الصعيد الدولي.
خالفت لجنة التحقيق هذه معظم المبادئ والأصول الإجرائية للتحقيق الجنائي، وعمدت إلى الزج في السجن بأربعة من كبار الضباط المسؤولين عن الأمن لمدة أربع سنوات، تبيّن فيما بعد أنه لم يكن هناك أي مسوّغ قانوني لتوقيفهم على الإطلاق. لكن السبب في سجن هؤلاء الضباط كان، على ما يبدو، إخلاء الساحة الأمنية للاستخبارات الإسرائيلية، والدول المتعاونة معها، لجمع ما تستطيع من معلومات عن حزب الله، وتهيئة الظروف الملائمة لشن حربها التي كانت تعدّها للقضاء عليه.
نجحت إسرائيل وحلفاؤها نجاحاً مذهلاً في استغلال الهواجس والروابط الطائفية والمذهبية في القضاء على ما تبقى من وحدة وطنية وشل جميع مؤسسات الدولة، وخاصة بعد خروج القوات السورية من لبنان. ولا يزال لبنان يعاني من الانقسام هذا ويعيش أزمة حكم وشلل في كافة مؤسسات الحكم فيه حتى يومنا الحاضر.
قامت إسرائيل بشن حربها على لبنان وحزب الله في صيف عام 2006 بتاريخ ربما لم يكن من اختيارها، ففشلت في تحقيق جميع الأهداف التي وضعتها عند شنها الحرب. وبالرغم من أنها استعملت جميع الأسلحة التي بحوزتها، ما خلا السلاح النووي ربما، واستمرت في القصف الجوي والبري والبحري مدة ثلاثة وثلاثين يوماً، لكنها لم تستطع أن تحتل قرية واحدة على حدودها مع لبنان. فكان لحربها هذه وقع الزلزال المدمر على معنويات الجيش الذي لا يقهر والذي هزم وأذلّ جيوش ثلاث دول عربية في العام 1967 بأقل من أسبوع. وتحطمت اسطورة استراتيجية الردع الإسرائيلية. لكن إسرائيل بالمقابل تمكنت من خلق شرخ مذهبي عميق ظهر بشكل مخجل إبان الحرب على لبنان، ولا يزال المجتمع اللبناني يعيش آثاره ويفاقم تفاعلاته حتى هذه اللحظة.
وبالطبع فإن هزيمة إسرائيل في حربها على من اعتبرتهم حفنة من الإرهابيين لم تزدها إلا اصراراً على القضاء على حزب الله. فجندت في سبيل ذلك كل ما لها من صداقات ونفوذ في المحافل الدولية ولدى الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية. حتى العدالة الدولية سخرت من أجل ذلك. فقد لعب ممثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، جون بولتون، الصديق الحميم للصهيونية، دوراً مفصلياً في دفع مجلس الأمن، بالتنسيق مع جناح في السلطة اللبنانية معاد لحزب الله، إلى إنشاء محكمة جنائية دولية فريدة من نوعها بتاريخ الأمم المتحدة.
فهي المحكمة الوحيدة التي أساسها القانوني اتفاقية غير مستوفية الشروط الدستورية. وهي الوحيدة التي لا تطبق القانون الدولي بل تطبق القانون اللبناني حصراً، وذلك لأن الجريمة التي تنظر بها هي ليست من الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي. واللافت أن الرئيس الحريري اغتيل في العام 2005 والمحكمة الخاصة بلبنان أنشئت في العام 2007. وفي العام 2006 شنّت إسرائيل على لبنان حرباً ارتكبت خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية موثقة، وهي في صلب الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي وتبرر إنشاء محاكم دولية. لكن مجلس الأمن لم يأمر أقله بإجراء تحقيق بهذه الجرائم، بل تمنع، ولمدة ثلاثين يوماًَ، عن اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار، أي وقف ارتكاب هذه الجرائم وبذلك تمنع مجلس الأمن عن القيام بالمهمة التي من أجلها وجد.
والمحكمة الخاصة بلبنان هي المحكمة الوحيدة التي لجأ مجلس الأمن إلى الفصل السابع من الميثاق في إنشائها ولا تمول من قبل الأمم المتحدة، بل يتحمل لبنان نصف تكاليف ونفقات المحكمة، ويتحمل النصف الآخر من هم في حالة عداء معلن لحزب الله. والتهم المتعلقة باغتيال الرئيس الحريري ومواطنين آخرين إذا كانت تتجه نحو سوريا في تقارير لجنة التحقيق الدولية التي سبقت قيام المحكمة الخاصة بلبنان، فقد أصبحت بعد قيام المحكمة توجه لحزب الله.
تمويل المحكمة والاستجابة لجميع مطالبها، جزء من الأزمة السياسية التي خلفها المجتمع الدولي، والاصطفاف المذهبي هو من أبرز عناصرها. والجدير بالملاحظة أن القوة التي هي وراء اغتيال الحريري نجحت ليس فقط بتأجيج المشاعر المذهبية بين السنة والشيعة وبخلق أزمة حكم شلت جميع مؤسسات الدولة، وإنما جعلت محور الخلاف بين الأطراف المتنازعة في لبنان هو تحقيق أقصى الأماني الإسرائيلية، أي نزع سلاح حزب الله وبالتالي القضاء على المقاومة وحرمان لبنان من القدرة على الدفاع عن نفسه.

رياح الربيع العربي

بهذا المناخ من الاستقطاب المذهبي والشلل السياسي والمؤسساتي، استقبل لبنان الربيع العربي الذي بدا جلياً أن الخطاب الديني والاستقطاب المذهبي والمصلحة الإسرائيلية هي من أهم محركاته وموجهي مسيرته. ولعل من أهم تداعيات الربيع العربي في لبنان هو ما جرى ويجري في سوريا.
الانتفاضة السورية والمطالبة بإصلاحات جذرية في النظام السياسي كان لها ما يبررها. لكن سرعان ما خرجت السيطرة على مسار الانتفاضة من أيدي مريدي الإصلاح الديمقراطي، واحترام أكبر لحقوق الإنسان والمواطن ومحاربة الفساد، إلى عناية من يريدون تدمير سوريا وإبعادها عن أي إصلاح يكون فعلاً وجه الربيع العربي.
وبالرغم من تحذير حكماء دعاة الإصلاح من معارضي النظام السوري منذ بداية الأحداث من اللجوء إلى العنف المسلح، ومن الدعوة إلى التدخل الخارجي، ومن إثارة وتوظيف الغرائز الطائفية والآثار الكارثية لذلك على نجاح الانتفاضة وعلى الوطن السوري، فقد ضربت القوى المسيطرة على مسار الانتفاضة عرض الحائط بكل هذه المحاذير، وذلك بتشجيع ورعاية دولية وإقليمية وعربية. ودخلت سوريا في دوامة حرب عبثية لا تفيد إلا من يريد القضاء على الدور السوري في دعم المقاومة، أو على الكيان السوري كي لا يكون له دور.
فلا «القاعدة» ومشتقاتها، وهي الأكثر فاعلية ميدانياً، ولا الإخوان المسلمون، أصحاب الهيمنة على جناح المعارضة الذي ترعاه الولايات المتحدة هم دعاة ديمقراطية وحقوق إنسان. ولا الدول التي تدعمهم إعلامياً ومالياً وسلاحاً ورعاية هم رسل ديمقراطية وحقوق انسان ومحاربة الفساد.
تطور الأحداث في سوريا وإشعال نار عصبية طائفية لم يعرفها المجتمع السوري على وجه العموم، كان بمثابة الجاذب القوي للاصطفاف الطائفي المذهبي القائم في لبنان، وزاد في حدة التوتر والفوضى التي كان لبنان يعاني منها أساساً. فانطلق التحفيز المذهبي ليحرك الغرائز والهواجس ويقضي على ما تبقى من هيبة الدولة ودورها كضامنة لأمن وسلامة المواطن والوطن. فلم تعد الدولة تستطيع القيام بواجبها في السيطرة على حدودها ومنع عبور الأسلحة والمسلحين من وإلى أراضيها. وقد زاد تدفق المهجرين السوريين عبر الحدود اللبنانية من الأعباء الاقتصادية في دولة غير قادرة أصلاً على معالجة الأوضاع الاقتصادية لشعبها.
إزاء هذا التمزق الاجتماعي، والشلل الفكري والإرادي، والإفلاس الخلقي والقيمي الذي يعاني منه لبنان، هناك عدة أسئلة تفرض علينا الإجابة عنها، وعلل لن يتولى سوانا علاجها، وهي أسئلة وعلل يجب طرحها وعلاجها كذلك في العديد من الدول العربية.
لماذا لم يتمكن لبنان من استبدال النظام الطائفي، المانع للانصهار الاجتماعي والذاهب بوحدة ومناعة المجتمع، بنظام أكثر ملاءمة لخلق روابط اجتماعية تتعدى العائلة والقبيلة والطائفة إلى مجتمع يتوافر فيه الحد الأدنى من الوحدة اللازمة لخلق دولة مستقلة؟
ولماذا انحسر الخطاب القومي الذي هو نقيض الخطاب الطائفي والذي أثبت فاعلية في جمع وتوحيد كافة مكونات المجتمع الدينية والطائفية والمذهبية في العديد من الأقطار العربية، وبخاصة إبان التحرر من الاستعمار الأجنبي؟ ولماذا انتشر الخطاب الديني المذهبي بهذه السرعة المذهلة، بالرغم من أنه لم يثبت فاعليته سوى في تمزيق المجتمع وتسهيل التدخل الأجنبي؟ ولماذا هذا التراجع، وربما الغياب لدور المثقف العربي عموماً واللبناني خصوصاً في وضع وشرح قواعد عقلانية للسلوك الاجتماعي والسياسي بالرغم من زيادة عدد متخرجي الجامعات اللبنانية والأجنبية؟
الإجابة العلمية الدقيقة والشاملة عن هذه الأسئلة، وهي واجبة، تقتضي بنظري أبحاثاً ودراسات تتوافر فيها النزاهة والكفاءة وتكون نتيجة هذه الأبحاث أساساً لخطط تصلح علاجاً لجميع العلل الواجب علاجها. لكنني سوف أحاول أن ألقي بعض الضوء على ما أعتبره جزءاً من الإجابة عن هذه الأسئلة، وهو انتشار الفساد واستفحال دوره في معظم، إن لم يكن جميع، الأزمات التي مر ويمر بها لبنان.
لا شك لديّ في أن الشعب اللبناني بغالبيته الساحقة، وبخاصة قادة الرأي في النخب المثقفة، وهذا ربما ينطبق على معظم إن لم يكن جميع المجتمعات العربية، لا يدرك مخاطر استشراء الفساد وقدرته التدميرية في المجتمع. فالفساد يعطل كل مؤسسة يطالها ويحرفها عن الهدف الذي من أجله وجدت.
والفساد يقضي على الثقة بين الحاكم والمحكوم، وكذلك على الثقة بالدولة ومؤسساتها. والفساد يضعف التمسك بالقيم والأخلاق العامة بإخضاعها لغرائز إشباع الرغبات والمصالح الشخصية خاصة عندما يغيب حكم القانون ومساءلة المسؤولين. والفساد وسيلة للسيطرة السياسية وذلك عن طريق شراء السلطة من خلال شراء الذمم ورشوة الناخبين، ومنح الصفقات والالتزامات العامة للمحاسيب والأتباع، والذي عاش في لبنان يدرك تماماً ماذا أعني.
المال هو أهم أدوات الفساد والإفساد. وقد لعب المال الخليجي في ظل الاقتصاد الريعي المهيمن لدى جميع دول الخليج، سواء كان بيد خليجيين أو من جمع الثروة هناك، دوراً هاماً في استغلال الفقر والجهل لدى الغالبية من الشعب في معظم الدول العربية، وكذلك في الهيمنة على الإعلام الصانع للرأي العام. وقد كان للمال الخليجي دوره في تسيير الربيع العربي وخدمة المصالح الخارجية وتدمير الوحدة في المجتمعات التي طالها ما يسمى بالربيع العربي، وذلك عن طريق رعاية وتمويل منظمات تحمل الخطاب الديني المذهبي، أو الجهادي التكفيري والتي لم تثبت فاعليتها سوى في إلحاق الضرر بالمصالح العربية، وفي تمزيق المجتمعات العربية التي عملت فيها أو التي عانت من تداعيات الربيع العربي مثل لبنان.
وقدرة الفساد من خلال السيطرة على الإعلام الصانع للرأي العام في تشويه الواقع وتضليل المتلقي للخبر أو الرأي، وخلق مناخ فكري ينمي ثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع عندما يقتضي الأمر جمع الجهود وتفعيل الإرادات في الدفاع عن حق عربي في فلسطين مثلاً، وبالمقابل يحفز الغرائز ويضخم الهواجس نحو التدمير الذاتي كما نلاحظ في دور الإعلام برعاية بعض المنظمات الجهادية التي تسعى لتأجيج العصبية المذهبية التي حصادها التمزيق الاجتماعي كما يجري في سوريا وتداعيات ذلك على لبنان.
لا شك في أن للإغراءات المالية كذلك أثراً هاماً على مواقف وكتابات العديد من المثقفين الأكثر تأثيراً على الرأي العام اللبناني والعربي على وجه العموم، فنحن نرى ذلك في سلوك العديد من الإعلاميين والمفكرين الذين إن لم يكونوا قد جردوا أقلامهم وأطلقوا ألسنتهم في خدمة أهداف أولياء نعمتهم، فهم يتخذون مواقف خجولة مترددة من الزلزال السياسي الذي يدمر مجتمعاتهم، وها نحن نرى من منهم ترك ساحة النضال وأهمل قضايا رهن حياته من أجلها للانتهاء في جو من البحبوحة في دولة خليجية.
الخلاصة، وباختصار شديد، أنّ العوامل الصانعة للأزمات اللبنانية هي في داخل النظام السياسي الذي ينمي الانتماءات الفرعية والهويات الثانوية المانعة من وحدة المجتمع في إطار دولة حديثة تعزز وتضمن المصالح المشتركة، الأمنية والاقتصادية، لجميع المواطنين. ومن الخارج مطامع الدول الخارجية، وإسرائيل بشكل استثنائي، ترى في ضعف لبنان وغياب المناعة فيه محفزاً لزرع الفتن وتحقيق المآرب. ومن أهم العناصر المؤثرة واللافتة في التعامل مع هذين العاملين هزالة أو غياب النخب المثقفة في وعيها وتنظيمها ومعالجتها للأخطار الناجمة عن هذه العوامل، الداخلية والخارجية، والدور الذي يلعبه استشراء الفساد والذين يحسنون توظيفه في شل الإرادات وتدمير القدرات اللازمة لدرء هذه الأخطار والتغلب عليها.
* أستاذ محاضر في القانون في جامعة جورج تاون