البلد يضجّ بمشاريع القوانين الانتخابية، حتى أنك بتّ ترى كل لبناني مهتماً اهتماماً خاصاً بهذه المسألة الشائكة، المتصلة اتصالاً مباشراً بالقانون الدستوري وكل تشعباته العلمىة والقانونية. وبغض النظر عن صوابية هذا المشروع أو ذاك، وملاءمته أو عدمها لمتطلبات الوفاق الوطني والسلم الأهلي، وحسن تمثيله لمختلف الطوائف والمذاهب وكل مكونات الوطن الفكرية والاجتماعية والسياسية، فإن هذا الاهتمام يُعَدّ ظاهرة صحية للمواطن اللبناني، الذي يجد متسعاً من الوقت لمناقشة الأمور السياسية، التي من شأنها تحديد مستقبله السياسي، وذلك رغم تردي الحالة الاقتصادية والمعيشية التي يرزح تحت وطأتها.
ولعلها المرة الأولى التي يقوم فيها اللبنانيون بمفردهم، بدراسة ووضع قانون جديد للانتخابات يؤسس لنظام جديد للدولة اللبنانية، وذلك مع الأخذ في الاعتبار الأسس والمفاهيم والتوازنات التي قام عليها لبنان، والتي جعلت منه وطناً شكّل على مر العصور ملجأً للأقليات وحاضناً للتعددية.
وفي خضمّ هذه المعمعة الكلامية، وهذا الحراك السياسي الهادئ حيناً والصاخب أحياناً، تبرز مواقف مختلف القوى السياسية والدينية وناشطي المجتمع المدني، محاولاً كل منها إنتاج قانون جديد للانتخابات يلبي طموحاتها من جهة، ويحافظ على مكتسباتها، أو محاولة استرجاع ما فقدته من جهة ثانية. وكل ذلك طبيعي في ظل ما يسمى اللعبة الديموقراطية، والتجاذب السياسي، الذي من دونه لا تستقيم الحياة السياسية. كل هذا بعيداً عن تأثيرات سلطة الوصاية التي كانت تضع القوانين وتقنع أو تفرض، لا فرق، على النواب والمجلس النيابي تبنيها بالأكثرية المطلقة في معظم الأحيان، بغية الإيحاء، لمن يجب أن يعلم، أن هذه هي إرادة كل اللبنانيين. وقد امتدّ عمل سلطات الوصاية تلك، منذ ما قبل الاستقلال، أي منذ عهد المتصرفية، والانتداب الفرنسي، وصولاً إلى ما بعد الاستقلال، إلى مرحلة ما كان يسمى الوجود السوري واتفاق الطائف، إلى اتفاق الدوحة.

الجوّ العام

إن العامل الأبرز الذي فتح الباب واسعاً أمام دراسة ووضع قانون جديد للانتخابات، هو قرب موعد إجراء هذه الانتخابات، وضرورة التزام المهل القانونية لدعوة الهيئات الناخبة أولاً، ومن ثم الرفض المطلق من غالبية الشعب اللبناني لما يعرف بقانون الستين، والتزاماً من الحكومة بضرورة صياغة قانون جديد للانتخابات، وذلك انسجاماً واحتراماً لما جاء في بيانها الوزاري. ومن المعلوم أن الحكومة صاغت قانوناً جديداً يعتمد على النسبية، ويقسم لبنان بموجبه إلى ثلاث عشرة دائرة انتخابية. إلا أن مشروع الحكومة هذا، لم يحظ حتى بإجماع كل الوزراء، فأعلن الحزب التقدمي الاشتراكي معارضته له، كذلك فعلت كل الكتل البرلمانية المعارضة. وبعد جلسات عدة في اللجنة النيابية الفرعية، تمت الموافقة على ما يعرف بقانون اللقاء الأرثوذكسي، خلال جلسة اللجان النيابية المشتركة، الذي بموجبه تقوم كل طائفة بانتخاب ممثليها في المجلس النيابي. وقد حاز هذا القانون تأييد أكثرية النواب، ولا سيما المسيحيون، لكونه يسمح بانتخاب أربعة وستين نائباً مسيحياً بأصوات مسيحية، أي نصف عدد النواب في المجلس. وقد انقسم اللبنانيون حيال هذا المشروع، وراح كل فريق يدلي برأيه، وهنا لا بد من التوقف عند عيّنة من هذه الآراء وشرحها.

الإيجابيات

- لقد وُضع هذا القانون ليرفع الغبن اللاحق بالمسيحيين، وهو يمنحهم إمكان انتخاب كافة نوابهم، وذلك انسجاماً مع روح الدستور الذي نصّ على تقسيم عدد النواب مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، بغض النظر عن عددهم. ولقد حالت كل القوانين الانتخابية، التي وضعت إبان سلطة الوصاية السابقة دون تحقيق ذلك، ولا عجب؛ إذ إن معظم المسيحيين كانوا من المناوئين للوجود السوري في لبنان، وبالتالي كان يجب القيام بكل شيء لإبعادهم عن الحياة السياسية، ومنعهم من أداء دورهم. وبالفعل، فقد أجمع المسيحيون بأغلبيتهم الساحقة على تأييد هذا القانون. تجدر الإشارة إلى أنه لم يسبق للمسيحيين، ولا للأحزاب المسيحية الكبرى ومن ورائهم السلطة الكنسية، أن أجمعوا على مسألة سياسية بهذه الأهمية. ففي المرات القليلة الماضية، كانوا يجمعون على رفض أمر معين، دون تمكنهم من طرح البديل، فهم أجمعوا على رفض الوجود السوري ومن ثم مقاطعة الانتخابات النيابية في عام 2000. إلى ذلك، استطاع التيار الوطني الحر توفير الدعم اللازم لهذا القانون من قبل حلفائه من الطوائف الإسلامية، وأدت مواقف تيار المستقبل المتشنجة إلى إظهاره بمظهر الرافض لإعطاء المسيحيين كامل حقوقهم السياسية، وهذا ما أسهم في تشويه صورته لدى الغالبية العظمى من هذه الطائفة. وقد زاد في الطين بلة ما رافق ذلك من مواقف وتحركات واعتداءات، لم تطاول جنود الجيش اللبناني فقط، بل قيادته أيضاً، وقد تنقلت هذه الأحداث في مختلف مناطق نفوذ التيار الأزرق، من صيدا إلى عرسال، ومن الطريق الجديدة إلى طرابلس، وصولاً إلى عكار.
- لقد شكّل القانون الأرثوذكسي وطرحه في هذه المرحلة بالذات، وقبيل موعد إجراء الانتخابات النيابية، صدمة إيجابية، حركت الحياة السياسية اللبنانية، وأعطتها زخماً لم تشهده من قبل، حتى في عز المرحلة الذهبية من مرحلة التشريع النيابية. فقد استطاع التيار الوطني الحر، بالتزامه ومثابرته في تبني مشروع اللقاء الأرثوذكسي وطرحه، من إقناع حلفائه، وجر ّ خصومه للمشاركة بصورة جدية لمناقشته داخل الندوة البرلمانية، لا بل ذهب أبعد من ذلك ونجح في كسر المقاطعة المفروضة على المجلس النيابي من قبل قوى 14 آذار.
- أدى هذا القانون والتصويت عليه وتبنيه من قبل اللجان النيابية المشتركة، إلى إحداث شرخ داخل قوى المعارضة وشرذمتها، ولا سيما أن هذه القوى لا تملك مشروعاً جدياً يحدث التغيير المطلوب، ويعطي المسيحيين حقوقهم، ويستطيع أن يحظى بأكثرية نيابية تحقق نجاحه. وأكبر دليل على ذلك، المفاوضات الجارية بين المتضررين من القانون الجديد، أي تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، بغية الوصول إلى قواسم مشتركة وبلورة قانون جدي يحظى بالأكثرية.
- أدى تبني هذا المشروع إلى تضييق هامش المناورة، إن لم نقل إلغاءها. ففي السابق، كان يصار إلى طرح قوانين انتخابية، في الربع الساعة الأخير، من دون الارتكاز على كتلة نيابية كبيرة تتبناها وتعمل على تحقيق الأكثرية لها. ومجمل هذه القوانين التي كانت تطرح، كانت تشكل رغم جديتها، نوعاً من الترف السياسي، لا أكثر ولا أقل.
وبالرغم من التسمية المذهبية للقانون الأرثوذكسي، وتبني القوى المسيحية له، فإن دعم قوى ما يعرف بقوى 8 آذار له، أعطاه بعداً وطنياً. وقد انطلقت هذه القوى من دعمها هذا، من مقولة عدم السكوت عن الغبن الحاصل للمسيحيين من جراء تطبيق قانون الستين. وكانت هذه القوى قد أعطت وعداً لسيد بكركي، بدعم أي قانون انتخابي، يحظى بالإجماع المسيحي.
ولعل أبرز الإيجابيات للقانون الأرثوذكسي، هي التحول الكبير في مواقف أكثر من فريق سياسي بالنسبة إلى مبدأ النسبية، وتأييدهم له وإن بشيء من الخجل. فبعد الرفض المطلق للنسبية، واعتبارها شراً مطلقاً، يكرس مقولة هيمنة السلاح. أصبح طرحه طبيعياً، لكن من ضمن قانون هجين، يمزج النسبي مع الأكثري، ويشكل بدعة دستورية.

السلبيات

ويبقى السؤال المطروح: هل القانون الأرثوذكسي هو قانون انتخابي عصري، يلبي حاجة الشباب ويرضي تطلعات النخب الفكرية والثقافية، وينتج سلطة سياسية عصرية، تحدّ من المدّ الطائفي وتُرسي دعائم المواطنة الحقيقية، بمفهومها العلماني والديموقراطي، وتجعل من لبنان دولة حضارية بكل ما للكلمة من معنى؟
قد يقول البعض إنّ القانون المذكور هو قانون قديم يعود تاريخه إلى عهد المتصرفية، حيث إن المسلم كان ينتخب المسلم، والمسيحي ينتخب المسيحي. وهذا ما قد يؤدي إلى تجذّر البعد الطائفي وحتى المذهبي، ويؤسس لحروب أهلية وطائفية في المستقبل القريب. وإن مرشحي الطوائف، ونوابها سيتشكلون من الفئة الأكثر تطرفاً من هذه الطائفة أو تلك.
النقطة الثانية من السلبيات، هي أن اعتماد قانون كهذا سيؤدي حكماً إلى غياب الوسطية عن الساحة السياسية، وإلى زوال ما يمكن تسميته كتلة النواب المستقلين، في ظل التجاذب السياسي الحاد بين قوى 14 و8 آذار. وبالتالي إن نشوء أي مشكلة أو خلاف سياسي حول النقاط الخلافية سيتعذر حلها، وذلك لعدم وجود قوة ثالثة يمكن أن تشكل مدخلاً للحلول الاستثنائية، على الطريقة اللبنانية.

الحلول والضوابط

بغضّ النظر عن المواقف السياسية لهذا الفريق أو ذاك ومحاولة تفصيل البعض قانوناً انتخابياً على قياسه، يتبين لنا:
أنّ القانون الأرثوذكسي، وإن كان يشبه قانون المتصرفية بنتائجه، فإنه قد اختلف عنه اختلافاً كلياً، نظراً إلى اعتماده مبدأ النسبية. هذا المبدأ الذي يؤيده ويجمع عليه كل علماء القانون الدستوري؛ إذ لا وجود للديموقراطية والتمثيل الصحيح إلا باعتماد مبدأ النسبية بالكامل.
إن اعتماد أي شكل من أشكال القانون الأكثري، لا يعبّر تعبيراً صحيحاً عن الإرادة الشعبية.
أما المزج بين القانون الأكثري والقانون النسبي ضمن المجلس الواحد، فيُعَدّ نوعاً من الهرطقة الدستورية، فكيف يتساوى نائب منتخب على أساس المحافظة، مع آخر منتخب على أساس القضاء؟
لكن رغم أن القانون الأرثوذكسي يعطي لكل طائفة حقها، فإن اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة، مع اعتماد مبدأ النسبية، يعطي لبنان حقه ويعطي اللبنانيين كل اللبنانيين، حقهم بوطن ديموقراطي علماني. إن اعتماد مبدأ الحزبين، مع إمكانية وجود أحزاب صغيرة، كالخضر والوسطية، هو السبيل لتطبيق النظام النسبي. ومن حسن الحظ فإن وجود فريقي 8 و14 آذار والتفاف اللبنانيين حولهما، أو انقسامهم لا فرق، يشكل ظاهرة صحية، تعبّر عن لاطائفية في الخلافات السياسية، ويمكن أن نعدّ ذلك بمثابة حزبين كبيرين. ولا بد لنا هنا من التذكير بأنّ اللبنانيين في ما مضى كانوا دائماً منقسمين سياسياً بين دستوري وكتلوي، ومن ثم بين حلف ونهج، ولقد شكّلت سنوات الحرب استثناءً لذلك، فانقسم اللبنانيون انقساماً طائفياً، وكان ما كان.
إن معظم الدول الديموقراطية الحديثة تعتمد النظام النسبي في الانتخابات النيابية، وذلك بسبب الانقسامات السياسية الحادة التي تعصف بها. ومن الملاحظ أنه لا وجود لأحزاب تستحوذ على الأكثرية المطلقة من عدد الناخبين. من هنا كان لا بد من اعتماد النسبية، وذلك بغية تمثيل الجميع، كل حسب عدد الأصوات التي يحصل عليها. واستباقاً للمشاكل والخلافات التي يمكن أن تحصل، وذلك نظراً إلى التقارب في عدد الأصوات التي قد يحصل عليها كل فريق، وضع المشترع في هذه الدول ضوابط قانونية، من شأنها المساهمة في حل المشاكل التقنية، كعدم القدرة على تشكيل حكومة تحظى بثقة الأكثرية، أو حتى حل المشاكل الميثاقية، التي قد تظهر بعد صدور النتائج. ومن هذه الضوابط وأهمها، تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية، ولا سيما تلك المتعلقة بحل المجلس النيابي، وذلك بعد تحديد الأسباب الموجبة. إن على رئيس الجمهورية، وهو المؤتمن على الدستور، أن يؤدي دور ضابط الإيقاع، الذي يضبط عمل السلطات، ولا سيما التشريعية والتنفيذية منها، وهذا الدور المحوري كانت تقوم به سلطة الوصاية. أما الفارق بين سلطة الوصاية، وسلطة الرئاسة فهو فرق شاسع، فسلطة الوصاية كانت تمارس دوراً غير شرعي، حتى ما قبل الانتخابات وخلالها، أما دور الرئاسة فشرعي ويمارس بعد صدور النتائج حصراً، وذلك بغية السهر على حسن عمل المؤسسات وتناغمها مع الميثاق والدستور. وهكذا يتضح بما لا يقبل الشك، أن تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية لا تقل أهمية عن إقرار قانون جديد للانتخابات.
* كاتب لبناني