تطبيع المشروع الصهيوني في المنطقة ممارسة قديمة قدم الصهيونية نفسها، ربما تعد اتفاقية فيصل ـــــ وايزمان الحجر الأساس لها (1). تلتها ممارسات بعض القيادات الفلسطينية الانتهازية والتنافسية، مثل حضور افتتاح الجامعة العبرية عام ١٩٢٥ برفقة آرثر بلفور وصاموئيل هاربرت، والوقوف خارج الخيار الشعبي لمصلحة القوة الاستعمارية ضد المقاومة والإضراب والتنظيم. وتبنّي بعض من كانوا يتقوّلون بالماركسية قرار التقسيم في سياق تبعيتهم الميكانيكية للدولة الستالينية، والتفاهمات مع الاستعمار خلال الخمسينيات، وصولاً إلى خطاب الحبيب بورقيبة في أريحا عام ١٩٦٥ باعتباره دعوة رسمية للقبول بوجود «إسرائيل» كدولة جوار.
تبعه قبول منتقدي بورقيبة قرار مجلس الأمن ٢٤٢، وبرنامج النقاط العشر عام ١٩٧٤، ومبادرة السادات عام ١٩٧٧، والمبادرة السعودية للسلام عام ١٩٨١، والانفتاح على مصر «المباركية» رغم تماهيها مع مصر الساداتية عام ١٩٨٢، ومن ثم إعلان دولة فلسطين، المستند إلى قرار التقسيم ومرجعية الأمم المتحدة كحد أقصى عام ١٩٨٨، فمؤتمر مدريد عام ١٩٩٢، فاتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣، ملحقاً بها اتفاقية وادي عربة عام ١٩٩٤ ومشروع الشرق الأوسط الجديد ـــــ القديم، القائم على الاندماج الاقتصادي الإقليمي المتقدم على الأطر السياسية، وعلاقات التطبيع التجاري والسياحي من عُمان وقطر وحتى تونس والمغرب، وقرارات المجلس الوطني الفلسطيني عام ١٩٩٦ و١٩٩٨، التي تنازلت عن بنود تدمير الكيان الصهيوني في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، والمبادرة العربية للسلام عام ٢٠٠٢. ويضاف إليها دور تركي مبادر إلى إنجاز مشروع السلام، وصولاً إلى تصالحية قوى إسلام سياسي صعدت إلى سدة الحكم أو كادت، وانتهاءً بأنظمة ادعاء المقاومة والممانعة في سوريا وليبيا، التي لم تتوقف عن إطلاق نداءات استغاثة من انتفاضات جارفة، وذلك من خلال توجهها إلى القوى الإمبريالية لمقايضة بقائها بأمن «إسرائيل» (2).
جميع هذه العناوين هي ممارسات تطبيعية مع الصهيونية، حيث يعني تطبيع الكيان الصهيوني في المنطقة قبول وجوده كحالة دائمة. ونجاح مسعاه النهائي في انتزاع الاعتراف بمشروعيته من خلال إزالة أي تهديد على كيانه، وحصرها في بنود الخلافات القابلة للحل سياسياً، والمضي معه في شراكات تنهي حالة الصراع إلى حالة علاقات دول يعترف بعضها ببعض. التطبيع إذاً عملية بنائية في المقام الأول، تتطلب إقراراً بمرجعية لها حقائق ومسلمات ومنطلقات محددة يجري صياغة السياق من حولها. وتبقى الخيارات المستقبلية ضمن هذه العملية بالتالي محصورة في أفقها، ضامنة للمشروع الأساسي الذي أنتجها، وهو الكينونة الصهيونية المتمثلة في دولة الاحتلال ومشاريعها المستقبلية بعدما حسمت ماضيها. وهو ما يعني بالتالي حرمان شعوب المنطقة حقها في أرضها، وفي تكوين خياراتها الحرة.
نهج التطبيع حتمي تماماً للأنظمة العربية القائمة غير القادرة على طرح تحد حقيقي أمام الوجود الصهيوني في المنطقة، حتى وإن توافرت الرغبة الغائبة أيضاً. يعود هذا إلى طبيعة الدول القُطرية العربية الفاقدة إمكانات التحرر على أسس مادية، فهي دول جرى تصميمها استعمارياً لتبقى تابعة للمراكز الإمبريالية بأنواعها. تحكمها شرائح كومبرادورية تتكئ على دعم خارجي وتنفذ أجنداته وتتماهى معها، وتفتقر إلى تمثيل شعبي يملي عليها خياراتها. فهي وإن ادّعت غير ذلك، فلا مصير لها إلا يمر من بوابة تطبيع دولة الاحتلال.
تتقدم مشاريع التطبيع عملياً بدعم سياسي ضمن المنظومة القائمة، تشرف عليها بيروقراطية الدولة المضبوطة أمنياً، وتحظى بدعم مادي من شرائح النخب الاقتصادية الموكل لها التنفيذ العائد بالربح، وبغطاء اجتماعي من قبل أطر تمثيلية مفرغة من مضمونها الشعبي، أو أنها أطر غير قادرة على تغيير هذا الواقع. تطرح هذه المنظومة بالتالي فرصاً سياسية واقتصادية لتجديد بنية السلطة، في ظل افتقاد المجتمع القدرة على إنتاج سياقات بديلة، وجرى تفريغ التناقض داخل المجتمع بدلاً من التناقض مع الاحتلال. تنتج هذه البنية الفوقية خطاباً وممارسة سياسيين مغايرين، وتنتج تدريجياً وعياً مغايراً بالاحتلال، يقفز عنه إلى ما بعده دون انتهائه.
ليس الحديث هنا عن الرغبة في التطبيع، فالموقف المُدّعي أن الكيان الصهيوني كيان احتلال تكون علاقتنا معه علاقة صراع وتفكيك هو موقف يدين التطبيع جملة وتفصيلاً من حيث المبدأ، ويشرعن من أدوات المقاومة ما يكفل دفع النضال ضده إلى الأمام. لكن ليس كل تطبيع رغائبياً؛ وهو ما يحتم علينا كأطر وأشخاص مناهضين للتطبيع التعرض له بعد التأكيد على الثابت الأساسي: كل تطبيع سواء كان رغائبياً أو لم يكن، يقوّض مسار التحرر الحقيقي.
أولاً، محور بناء مفهوم التطبيع ينطلق من أن البناء الاقتصادي هو محرك الدفع الفعلي باتجاهه، حيث تفاقمت الأزمات المالية الحكومية التي أدت إلى اعتناق السياسات النيوليبرالية، التي وفرت مداخيل للإنفاق الحكومي لطالما رعت علاقات السوق الحر من اتفاقيات التجارة والتدفقات النقدية غير المقيدة. وهي سلسلة من الظواهر أخذت تترسخ في المنطقة تدريجياً. في هذه المواكبة للنظام الاقتصادي العالمي القائم على التكتلات، يأتي اقتصاد الكيان ببنيته المتقدمة هيكلياً على اقتصادات المنطقة كمركز إقليمي يضبط حركة رأس المال واستغلال الموارد وخارطة الصناعات القطاعية، بما يضمن استمرار مركزيته التي تعفيه من مواجهة تناقضاته الوجودية والداخلية. كل هذا يجري بينما الصراع السياسي على الأرض لم يحسم، حتى من وجهة نظر دعاة التطبيع في مقابل السلام (3).
يجب على سبيل المثال دراسة مدى اندماج الاقتصاد الأردني في اقتصاد الكيان الصهيوني، والاقتصاد الرأسمالي العام، المنتج للهيمنة والظلم والتبعية، وأثر ذلك في التمويل الحكومي وفي هيكل الأسعار، بحيث إنه من غير الممكن أن يكون أي نشاط اقتصادي في الأردن قائماً اليوم دون المساهمة والتأثر بحالة التداخل هذه. إن هذا الواقع تحديداً هو ما يحتم بالضرورة على المنخرطين في مقاومة التطبيع تبني فكر مقاوم لكامل المنظومة المنتجة لسياق التطبيع، فالواقع ليس «ستاتيكياً» قابلاً لتطورات منعزلة بعضها عن بعض، بل يتطلب فهم البنية الكلية للكيان الصهيوني وروافد التغذية التي تصب في مصلحته.
ثانياً، لا بدّ من وضع أدوات مقاومة التطبيع ضمن فلكها الصحيح. فمثلاً: المقاطعة بشقها الأول المقاطع لكل التعاملات السياسية والتجارية والثقافية مع الكيان، وبشقها الثاني المقاطع للأطراف الثالثة المتعاملة مع الاحتلال تسقط في إشكالات مفاهيمية كبرى. تذكر أدبيات حركة المقاطعة العالمية (4) أنها دعوة موجهة منذ عام ٢٠٠٥ من قبل قوى المجتمع المدني الفلسطيني لمقاطعة وحصار وسحب الاستثمارات من «إسرائيل»، إلى أن تمتثل لقرارات الشرعية الدولية «وتقر بحقوق الفلسطينيين المشروعة». وهذه بلا أدنى شك دعوة إلى التطبيع فعلياً معلقة على شرط ما، حيث يختلف أصحاب هذا الطرح بين حلول الدولة الواحدة والدولتين، وهي تطبيع في حالتها الأفضل القائمة على الدولة الواحدة، حيث يجري تقزيم الصراع السياسي من حق شعوب المنطقة، في توليد خياراتها الحرة إلى صراع مواطنة في دولة فصل عنصري، قادرة على البقاء بأغلب بنيتها بعد اعتناقها مبادئ الديموقراطية المنشودة. وهي حالة فريدة من نوعها ننتقل فيها إلى سياق ما بعد كولينيالي، رغم بقاء المشروع الكولينيالي نفسه قائماً، حيث جرى تقزيم أفق الصراع معه من كينونة إلى صيرورة. الصراع في فلسطين والمنطقة من حولها ليس صراعاً على دولة أو على شكلها، وليس صراعاً على مواطنة، بل هو صراع لإنهاء الظلم التاريخي المتمثل في الكيان الاستعماري الصهيوني ومشروعه ونتائجه.
هذا التقزيم هو الذي ينتج السياق الذي يعاد فيه اختراع فلسطين ثانيةً، بعدما جرى اختراعها في اتفاقية سايكس بيكو. وهو نفس السياق الذي يكتشف لبنان ذاته بعد الطائف وبعد الحريري أنه حقيقة غير قابلة للنقض، ونفس السياق الذي ينظر فيه بعض اليسار إلى جذور الدولة الأردنية منذ عصور الإنسان القديم (5). وهو نفسه أيضاً الذي دفع ببشار الأسد ليقول إن لسوريا حضارة تعود إلى آلاف السنين (6). هكذا يعاد اختراع ذواتنا وهوياتنا في قمة انتصار مشروع الاحتلال من حيث قبولنا وجوده وتحوير وعينا بأنفسنا بما يلائم ذلك تحديداً، تجاوزا على سبيل المثال للوعي الشعبي، الذي أفرز قراراً في المؤتمر السوري العام المنعقد في ١٩١٩/٧/٢ في دمشق ينصّ على «أننا نرفض الادعاءات الصهيونية لتأسيس دولة يهودية في ذلك القسم من جنوب سوريا المسمى فلسطين، ونحن نعارض أي هجرة يهودية إلى أي جزء من أجزاء البلاد» (7).
فأي خطاب هذا الذي نحمله ونعمل من خلاله؟ هل نحن في صدد التمييز بين منتجات مستوطنات الأرض المحتلة عام ١٩٦٧ ومنتجات مستوطنات عام ١٩٤٨ على قاعدة شرعية بعضها ولا شرعية بعضها الآخر؟ هل نطلب من الأطراف الثالثة بمقاطعتنا لها إن تواطئت مع الاحتلال أن تدفع باتجاه الحل المكفول في الشرعية الدولية؟ هل الحل المكفول في الشرعية الدولية مرحلة تكتيكية أم وجهة نهائية؟ ومن أجاب عن هذا السؤال الأخير تحديداً؟ وما هي قاعدته الاجتماعية؟ وهل هذا الأمر مطروح أساساً لتداول ديموقراطي تحسمه أغلبية، أم أنه شأن وجودي قيمي هوياتي يمثل الانتقاص منه انتقاصاً من التكوين الإنساني للمعنيين بالأمر؟
ننبري في الأردن، على سبيل المثال، لحملات تقاطع عروض «سيرك» عالمي لأنه سيقدّم عروضاً داخل الأرض المحتلة. ونحتاج للأسف إلى خوض نقاشات مستفيضة لإقناع الناس بهذا الطرح، أو لمقاطعة متاجر تفاخر بصهيونيتها وهي تستحوذ على جزء كبير من الطلب المحلي، أو ملاحقة شحنات من الخضروات على بسطات ومتاجر التجزئة، ومبادرات التطبيع الأكاديمي والفني والرياضي بهدف تجريمها في الوعي الشعبي. الدافع وراء هذه الحملات صحيح دائماً، لكن لا بد من أن نقف عند أسباب محدودية نجاحنا في الحشد ضد ظواهر التطبيع. فالمقاطعة مفرغة من مضمونها إذا لم تكن في إطار مجابهة التطبيع شمولياً. أما المحور الأخير، فيتعلق بترتيب أولوياتنا كشعوب خاضعة مباشرة لهذا الاستعمار. نعم، بنية الكيان تقوم على كامل هيكل المنطقة لا على نمط احتلالها العسكري المباشر لفلسطين فقط. انطلاقاً من هذه القناعة، تبرز الإشكالية هنا في صياغتنا لأدوات نضالية تتجاوز المقاطعة كأداة ضغط إلى مربع العمل المبادر إلى الاشتباك، فكيف لنا أن نعزز من بنائنا الاجتماعي العضوي في المنطقة باعتباره الحاضنة الشعبية المنتجة للعمل المقاوم الفعال، دون تعزيز الهيكل الفوقي صاحب السلطة والمستفيد من التطبيع، والمؤدي في النهاية إلى تفريغ الجهد من مضمونه؟ يبرز هذا السؤال من واقع أن الكيان الصهيوني لا يمانع خوض صراع اجتماعي طبقي يجري الاعتراف فيه بموقعه كسلطة، وذلك تحديداً من حيث ثقته في إمكاناته المادية على خوض هذا الصراع، بعدما جرى تعديل شروط الصراع المرجعية، بحيث لم يعد صراعاً وجودياً، بل على طبيعة هذا الوجود (8).
تتجلى هذه الأشكال عموماً في مساهمات فردية أو جماعية تحمل عناوين يجمعها مبدأ «العمل من داخل النظام»، مثل الأنشطة التضامنية والتعاونية والشعبية، التي تقفز عن هذا الواقع تحت مبررات تسبقه في الأولوية حسب البعض. وهي البناء الاجتماعي والحق في التجذير من خلال استغلال الفضاء العام، منها مثلاً أيّ دخول إلى الأراضي المحتلة على نحو لا يتطلب اعتراف الكيان بنفسه كسلطة احتلال، كالدخول لإقامة حفلات فنية في الأوساط الفلسطينية، (9) أو السياحة الدينية، (10). القناعة هنا أن هذه الممارسات لن تفرز واقعاً مغايراً بل مختلفاً ربما، وهي تنتج في ظل غياب إطار شعبي قادر على طرح خيارات تغيير حقيقية تنخرط فيها قطاعات واسعة من أصحاب المصلحة في مجابهة التطبيع. المطلوب اليوم التنبه إلى هذه التناقضات لدى صياغة أجندات عملنا.
* كاتب أردني
هوامش:
1- رابط ويكيبيديا عن الاتفاقية http://ar.wikipedia.org/wiki/اتفاقية_فيصل_وايزمان-
2- أكثرها رسميةً تصريحات رامي مخلوف في ٢٠١١/٥/١١، ومعمر القذافي في ٢٠١١/٣/١٠
3- فضل مصطفى النقيب: اقتصاد إسرائيل على مشارف القرن الحادي والعشرين
4- www.bdsmovement.net
5- هشام البستاني، الأوهام القطرية لليسار الاجتماعي الأردني، مجلة رأي آخر، يوليو ٢٠١٠
6- خطاب بشار الأسد بدار الأوبرا في دمشق بتاريخ ٢٠١٣/١/٦
7- هشام البستاني، الذاكرة المفقودة: من اختراع "فلسطين" إلى اكتشاف "لبنان"، مقاربات، ٢٠٠٥
8- المقولة المضادة لهذه القناعة هي أن اليمين الصهيوني في تصاعد وهو صاحب خطاب تناحري، وهي صحيحة إن أبقينا المساحة الفلسطينية كمرجعية للصراع، وهذا شعار السلطات الفلسطينية والعربية التي تعمل على إعادة تشكيل الوعي بفلسطين ضمن مشروع استكمال شرعية الدولة القُْطرية في المنطقة، والتي قد لا تمانع شرعنة “إسرائيل” أيضا ما دام المنطق التجزيئي عاملا في إعادة الإنتاج الهوياتي.
9- الحركة الشعبية الأردنية لمقاطعة التطبيع تحذر من الانجرار وراء المبررات الواهية للتطبيع مع العدو الصهيوني، كانون أول ٢٠١٢
10- مجد محسن، حين يرتدي التطبيع عمامة، في المرصاد، أبريل ٢٠١٢