منذ سنين، في العديد من الأوساط الثقافية في أوروبا وأميركا، نشهد شغفاً متزايداً بالفنون عامة، والمشهدية منها خاصة، المرتبطة بالحضارات الآسيوية الكبرى. شغف يندرج على ما يبدو باهتمام أوسع يشمل كلّ ما يتعلّق بالشرق الأقصى، من اليوغا إلى الفنون القتالية، من البوذية إلى طب وخز الإبر الصيني، المعروف بالــ«Acupuncture»، من مسرح الـ«نوه» الياباني، البالغ الغموض، إلى نظام التغذية الشائع تحت اسم «مايكرو بيوتيك»Macrobiotique، من الــ«فنك شوي» Feng Shui، علم بناء وترتيب المساكن بالتناغم مع طاقات الطبيعة، إلى غيرها من النُظم الثقافية والمعرفية. فما سبب هذا الاهتمام الغريب إذا اعتبرنا التعالي المعهود عند الغرب بالنسبة إلى كل ما له علاقة بباقي الشعوب؟
في البداية، ما الذي يميز هذا الشرق المدهش في روحيته، وفي مقاربته وتعبيره عن الأشياء، كما في كينونته، عن المفاهيم الغربية المتعددة، التي كانت تُعدّ، حتى الأمس القريب، بسبب السيطرة الاستعمارية، النموذج الحضاري الأول والوحيد؟ ولماذا، في مطلع الألف الثالث، يبدو للبعض أن هذه الحضارات الشرقية تختزن قيماً قد تكون خلاصية، أو، على الأقل، قد تمثل أساليب وطرقاً إبداعية مميزة ونادرة من المفيد الاهتداء بها.

لتعيين الموضوع، وعلى سبيل المثال والمقارنة، يجب التذكير بأن المسرح الذي ابتكره الغرب كان، منذ انطلاقته، منذ خمسة وعشرين قرناً، مأساة للإنسان ومساحة للحياة، يعبّر فيها الوعي البشري عن نفسه بوساطة الكلمة (To be or not to be…)، أو الموقف، أو الصورة الواقعية في مضمونها والمتجلّية في المشهد. في المقابل، مسارح الشرق الأقصى، في الهند مثلاً، غالباً ما هي دراما كونية يظهر فيها، في إطار وأسلوب تحكمهما الرموز، آلهة تتجسّد كلما اهتز نظام الدنيا، أو شُوهت الشرائع، وذلك لمقاومة الشرّ، ونصرة الخير، وبعثه من جديد... أو، كما في اليابان، دائرة للموت يجنح إليها قلّة من الأحياء ليلاقوا أشباحاً من أزمنة غابرة.
في اعتقاد المطلعين، يعود اهتمام الغربيّين إلى أن أزمة في المفاهيم والقيم تسود القارة العجوز، كما تمددها الأميركي. لكن، هل هذا هو العامل الوحيد لهذا الولع؟ أم أننا أمام ظاهرة عابرة تنتظر ظاهرة أخرى لتخلفها، أم أمام افتتان ميل إلى الغرابة يميّز بعض الفنانين والمثقفين في الغرب؟
في القرن الماضي، أقرّ ستانيسلافسكي، ومييرهولد، وآرتو، وبريشت، وغروتوفسكي، وغيرهم من كبار المبدعين بتأثير مسارح الصين، واليابان، وبالي الإندونيسية عليهم. كما كان، قبل خمسين عاماً، قد سبقهم إلى ذلك الفنانون التشكيليون الانطباعيون، حين اكتشفوا، بحماسة وورع، الرسوم اليابانية المطبوعة Estampes japonaises، وبعدما أصبح هذا الشرق الذي بقي زمناً طويلاً بعيداً وغامضاً، موضع اهتمام وفضول كبيرين.
بهدف التعرّف على الخاص بالفنون الآسيوية، وتحديداً المشهدية منها، التي تعنينا الآن، ومقارنتها بما أنتج الغرب من تعابير مماثلة، علينا أولاً حصر وتحديد هذه الفنون، كما الثقافات التي تُجسّدها، في إطار نظرة شمولية للحضارات تُظهِر خاصّية كلّ منها، وتحدد علاماته الفارقة.
باختصار شديد، مع العلم أن في الاختصار هنا خطر الانزلاق في التجريد، أو اختزال الموضوع على نحو يفقده معناه، يجب الإقرار بأن في العالم ثلاث مساحات حضارية جامعة طبعت بخصوصياتها الألفية الماضية، ثلاثة أشكال يمتاز كل منها بنظرة مختلفة للإنسان في علاقاته مع الكون، قد يأتي تحديدها كالتالي: الغرب، عالم الإسلام، وانطلاقاً من الهند، الشرق الأقصى على تنوعاته المتعددة.

■ ■ ■


الغرب بدايةً، وهو مجال مألوف للجميع، يمكن إدراك حضوره والتماس مميزاته كل لحظة بفعل سيطرته المادية، العلمية والثقافية على العالم بأثره، وذلك منذ ثلاثة قرون. من الواضح أن هذا الغرب، في ادراكه للأمور، ومراجعه الأخلاقية وأنظمته القانونية، هو امتداد للمغامرة الإغريقية التي انطلقت في القرن الخامس قبل الميلاد واستمرّت عبر الإمبراطورية الرومانية، قبل أن تطفئ القرون الوسطى لوقت مشاعلها. إنه يحمل بصمات ووصوم حضارة مادية بمعنى أنها جعلت الإنسان محور الخليقة واختزلت الكون بحدود ذكائه. للمرة الأولى في تاريخ البشرية، أقدم شعب ما، في مقاربته للواقع، وعلى أثر فترة طويلة من التطور الإيديولوجي، الاجتماعي والسياسي، على التخلي، في الأمور الحسية، عن كل ما يتعلق بمفاهيم تحتكم إلى قوى فوق الطبيعة Surnaturelles. إن الماورائيات التي كانت محور تصرفات البشر، أُهمِلت لمصلحة قوانين صارمة من صنع الإنسان. قوانين رسّختها الخيارات الذاتية للأفراد من جهة، ومن جهة ثانية متطلبات الحياة المشتركة. فمنذ القرن الخامس ق.م. في أثينا، أنهت منظومة اجتماعية تحكمها سلطة قضائية ديمقراطية نظاماً قبلياً لتكرس أفضلية الفرد وقيمه الدنيوية.
إن الإغريق، في نزعتهم للإحاطة بالواقع، قاموا بتصنيفه في ترتيبين ثنائيين: عالم الآلهة التي لا تلبث أن تتلاشى في شطحات شاعرية أو في هجاء لاذع («حوارات الآلهة» للوقيانوس الصوميصاتي Lucien de Samosate)، وعالم الظواهر، الواقع الذي لا يأخذ بالحسبان سوى ما يمكن رؤيته، إدراكه، قياسه، وإعادة صياغته. في اعتبارهم وهْم أو خَيال كل ما لا يخضع للعقلنة، قام هؤلاء الإغريق بحجب ما كان... محجوباً، فباتوا حائرين بين ما يستطيعون التماسه وما بقي بالنسبة إليهم غامضاً، مجهولاً، فوضعوا كل العوامل والتجليات التي لم يتمكنوا من تفسيرها في خانة الحتمية والقدر. هكذا وجد الفرد نفسه في حالة تناقض أو انفصال، لا بل صراع مع الكون (ماركس يتحدث عن استلاب Aliénation)، في موقف صدامي مطبوع بالعبثية. عالم مقسوم ومقسّم يجد شبيهه ولسان حاله في رموز نموذجية، أفراد منفصمي الضمائر، فجاءت التراجيدية، بالرغم من كونها مولّدة من الطقوس الديونيزية Dyonisies، فناً صدامياً، وأوديب الملك المثل الأكثر دلالة على الإنسان الغربي المتخلّي في محيط بات غريباً بالنسبة إليه.

■ ■ ■


الجزء الثاني هو الفضاء الثقافي للإسلام، حيث لم يظهر فيه مسرح بالمعنى المتعارف عليه، أي عرض مشهدي لقصة أسطورية أو خيالية يؤديها ممثلون يجسدون أبطالاً نمطيين، عرض مبني على صراع ينتهي بكارثة ويهدف إلى التعبير عن رؤية البشر لمصيرهم، بعيداً عن أية خلفيّة ماورائية. في الإسلام، كما عند الإغريق، لا نسجّل، في الفن، وجود أية أنواع من الطقوس التي تمثل عامةً صدىً أرضياً لنظام إلهي. من ناحية أخرى، الإسلام يصر على الفصل الصارم بين المؤمن وربّه، فيصور الله ككائن خارق مكانه الرمزي فوق الكون كخالقه وسيد مصيره (مالك يوم الدين)، يستدعي منا الخضوع المطلق (فيما عدا الصوفية التي تحث إلى الاندماج (الفناء) يتوق عبره المريد إلى الانصهار في كلي القدرة، سعي لطالما أثار تحفظ مرجعيات الإسلام الأساسية).
بشكل أو بآخر، نرى الإسلام يشبه الغرب لكونه يثبت هو الآخر حالة من الفصل، بين الخالق والخليقة في الحضارة العربية، وبين الإنسان والكون عند الاغريق، لكنه يختلف عنه من ناحية أن في هذا الدين السامي، المولود في مجتمع شكل فيه الانتماء إلى الأسرة بذوراً لانتماء أشمل، يظل الفرد جزءاً من الجماعة التي باتت، بعد نزول الوحي على الرسول، أمة المؤمنين الكبرى، فالصلاة الجماعية، الشريعة كما الصيام، الحج والصدقة (الزكاة) تهدف إلى تعزيز وحدة المؤمنين وإدارة حياتهم اليومية، فيما رجّح الإغريق رفعة الفرد والمؤسسات المدنيّة. أما المعنى الذي يهمنا هنا، فهو أن الأشكال الفنية الأكثر تعبيراً التي كرستها المجتمعات اللإسلامية هي الفنون التي يمكن تصنيفها في خانة المشاركة Arts de participation، وهي ترتكز خاصة على الموسيقى والغناء كالطرب الذي يبدو أنه كان في الأساس ذا طابع صوفي، يدخل معه وعي المستمع في حالة من الرضى والبهجة تكرس حساسية جماعية، في حركة مناقضة لحالة وعي المواطن الإغريقي مشاهد التراجيدية التي يتجلّى فيها الفرد فتحثه على أخذ مصيره بيده.

■ ■ ■


وأخيراً الشرق الأقصى في كل ما يحتويه من تنوّع حضاري وعقائدي، حيث ما هو مجارٍ طبيعة وما هو فائق للطبيعة، المطلق والنسبي، الشامل والخاص واحد، يتفاعلون ويتناغمون باستمرار. هنا يجد الإنسان نفسه وسط محور لما يمكن تصنيفه بالإلهي. يعبر حبران الذي تتجلى القربة بين روحانيته والفكر الهندي عن ذلك حين يقول: «لا تقل اللهُ في قلبي، بل قل أنا في قلب الله» (النبي). في الهند البرهمانية، كما في الإسلام، يتمثل الفرد دائماً في الجماعة، أكانت الطبقة الاجتماعية المعروفة بالـCaste، أو الأسرة القومية، مع الفرق أن الله في البرهمانية يُعد كائناً علوياً، قدرة كامنة في قلب كل الخليقة، داخل الطبيعة والإنسان أيضاً. أما في الصين، فمحرّك الكون «التاو» Tao، الفائق الوصف، هو المصدر الأول، الواقع المستتر الذي يشمل كل شي ويولد الظواهر.
بالرغم من المتشعبات المتنوعة والمختلفة في ما يتعلق بالتفاصيل، يمكن القول إن آسيا تنظر إلى الكون على أنه واحد متلاصق، وأي ثنائيّة Dualité فيه تُعدّ تعكيراً لهذه الوحدة. هكذا يبدو الإنسان شريكاً في الخلق لكون أفكاره، أقواله، وأفعاله تؤثر في مسيرة هذا الخلق من ناحية المساهمة في تناغمه أو في عدم تناغمه. أما الأعمال الفنية وتحديداً العروض المشهدية التي يقدمها الشرق، فهي، بمكان ما، ذات طابع طقوسي، من دون أن يكون لها صفة الشعائر المقدسة أو الاحتفالية أو لتحلّ مكان هذه الأخيرة. هذه العروض تقام دائماً في توافق مع الكلي وبهدف التناغم معه. في نهاية المطاف، فنون الشرق الأكثر دلالة هي احتفالية في الشكل، تجدد انتماء الكائن البشري إلى الطبيعة الكونية الواحدة الشاملة. (في الغرب مثلاً بإمكانك أن تعزف «السوناتة على ضوء القمر» Sonate au clair de La lune لبيتهوفن، أو «الفصول الأربعة» saisons Les quatre لفيفالدي، أو «رقصة الأموات» La danse macabre لـسان سانس، أو «رتبة الربيع» Le sacre du printemps لسترافينسكي، في أي وقت من النهار أو السنة، بينما بالنسبة إلى عازف الستارة الهندي، هناك فئة من الراغا (أنواع من المقامات) خاصة بالصباح، وأخرى لما بعد الظهر، وثالثة للمساء، وهكذا دواليك... على كل منها أن تراعي اللحظة. وحين يستعيد المسرح الموسيقي ـــ الإيمائي الكاتاكالي Kathakali ملحمة الرامَيانا Ramayana، على العرض أن يبدأ حين يخيم الظلام كي تصادف ذروة المأساة الوقت الذي تبلغ فيه طاقة الأرض الـPrana أشدها (الثانية بعد نصف الليل)، فينتهي كل شيء مع ظهور أولى علامات الفجر وانتصار قوى الخير على الشرّ. كذلك في «النو»، المسرح الياباني، حيث هناك «نو» خاص بفصل الخريف، وآخر بالشتاء والربيع والصيف...).
ما نجده في فنون العرض ينطبق، أيضاً، عملياً، على مختلف المجالات، كالهندسة المعمارية، والطب، والرسم، والخط، والموسيقى، كما على ترسيم الحدائق، والفنون القتالية وغيرها من طقوس الشاي، والقرابين. هدف كل ذلك، الأول والأخير، التعبير، والمحافظة، وتكريس حالة إدراك وتناغم مع شمول الكون.

■ ■ ■


باختصار، في علمنا الآن، منهجان متمايزان للتعبير المشهدي، كل منهما يُفسح عن علاقة خاصة ما بين الإنسان والخلق. الأول، يجسده بامتياز ووضوح المسرح الصدامي الغربي المنشأ، حيث يمثل الفرد فيه محور الدراما وغائيتها. أما النوع الآخر، فيحمل، على نحو عام، دلالات عن رؤى الشرق الأقصى للدنيا، فيتجلى دوره في إنشاد وتجديد نزوع تلك الحضارات إلى التناغم مع ما يمثل الشمول، وتوق الإنسان إلى الاتحاد فيه. هناك طريقة أو نمط ثالث يتوسطهما في المدى الجغرافي، فهو نوع من التعبير الفني الخاص بالمساحة الثقافية للإسلام. إن هذا النوع لا يُعدّ أسلوباً مشهدياً بالمعنى المتعارف عليه، أي التجسيد لحادثة عبر شخصيات محددة، كما لا يمثل احتفالاً ذا طابع طقوسي. إنه في آخر الأمر، فن مشاركة كما أشرنا، يؤدي فيه الطرب والإنشاد الدور الأساس، فيرسخ الانتماء إلى الأسرة عبر حساسية خاصة محورها الإيمان والحياة الجماعية.
في زمن يشهد تداخلاً غير مسبوق ما بين الحضارات، وتتعمم فيه، عبر القارات، العدوى الفكرية، لن يكون مستبعداً ظهور مفاهيم، ولغة فنية عالميّة متقدمة، مرتبطة بقيم سامية جامعة، قد تأتي مناقضة لثقافة النظام العالمي الذي عممه الغرب، وأحادية أنماطه الجمالية والتعبيرية. وما يستجد اليوم من اكتشافات مدهشة في حقل العلوم المعاصرة، تلتقي بجوهرها والمعرفة الدهرية السائدة في الشرق البعيد، وتبشّر بتلاقٍ مرتقب بين هذا الشرق والغرب المتحكّم الآن، حيث «... مهمة القرن الواحد والعشرين هذا ستكون في إعادة إدخال الآلهة»، كما قال أندريه مالرو.
* مسرحي لبناني