من الصعب على من صنع الاعلام الخليجي وعيه السياسي طوال العشرين سنة الماضية أن يستسيغ الحديث عن استهداف الدول الوطنية أو المشاريع التقسيمية للاستعمار أو الهيمنة. فهو لن يرى فيها، من خلال وعيه السياسي المُشوه، سوى مفاهيم قديمة يتمّ استحضارها من قاموس الستينيات والسبعينيات السياسي. لنتذكر صرخة الرئيس المصري السابق محمد مرسي، الشهيرة، في معرض حديثه عن فترة الحكم الناصري «الستينيات وما أدراك ما الستينيات»، وذلك من أجل تبرير استمرار القمع والوقوف ضد «الحراك الشعبي» المطالب بـ«الديمقراطية» و«الليبرالية» و«الحرية» وغيرها من المفاهيم السياسية التي يظهر معها الاختراق النيوليبرالي للثقافة السياسية العربية بقوة تأثير هذا الاعلام، الذي يجهد في ترسيخ سرديات مُختلقة يطرحها على شكل يقينيات غير قابلة للنقاش.
هذه السرديات المريحة ـــ إذا ما استعرنا تعبير عامر محسن ـــ تجد قابلية للتلقي، سواء لدى عدد من «المثقفين» الذين لا يحبذون طرح الأسئلة العميقة والإحاطة بكل جوانب الاشكاليات المطروحة، أي تبنيها عن جهل معرفي، أو لدى مثقفين آخرين يستمرون في تأطير الجمهور العريض لهذا الوعي المشوه. وهؤلاء منخرطون عن وعي في مشاريع سياسية معينة. مثلاً ما يختزل ما حدث ويحدث في الجزائر في العقدين الأخيرين في قوالب جاهزة تم تسويقها لتتحول لدى البعض الى بديهيات، يُصبح تبنيها شرطاً أساسياً لأي نقاش: «حكم العسكر»، «من يقتل من؟»، «النظام الفاسد»، «عجز الرئيس»...
إبراز الأسباب الموضوعية التي تُدخل الدولة في الجزائر في دائرة الاستهداف من قبل مشروع الهيمنة الاستعمارية والتي نُلّخصها في ثلاثة عوامل: تراثها الثوري وطابعها الاجتماعي ودور جيشها الوطني، يتطلب بناء مقاربة تعتمد على فهم المضمون النيوليبرالي لهذا المشروع، الذي يتمحور حول ضرب الدور المركزي للدولة في الاقتصاد ومعاداة أي نزوع نحو الاستقلال وعلى تحليل الخصوصية التاريخية للجزائر.
تتميز دولة الجزائر في كونها تشكلت نتيجة عمل ثوري تحرري ضد استعمار استيطاني عمل لقرن و32 سنة، بكل قوته، لإلحاقها بمركزه عبر محو تاريخ وثقافة ووجود سكان الأرض الاصليين. هذا العمل الثوري تسبب بقطيعة جذرية مع النظام الكولونيالي ومستوطنيه. عندما تتشكل دولة وطنية ضمن هذا السياق الفريد في تاريخ حركات التحرر الوطنية، بل وأن ترسم حدودها بفوهات بنادق مُجاهديها (فشل الفرنسيون من خلال مفاوضات إيفيان في اقتطاع الصحراء الجزائرية) لا من خلال «أقلام الاستعمار التقسيمية» (كما حدث، مثلاً، في المشرق حيث رسم الاستعمار الفرنسي والبريطاني حدود كياناته الحالية وخلق في قلبه الكيان الصهيوني)، تكون أكثر حرصاً على حماية استقلالها وسيادة قراراتها الوطنية ومتميزة في مقاربتها لكثيرٍ من القضايا العربية ومعادية للاستعمار.
خشية من إعادة إنتاج التراث التحرري الجزائري الناجح

هذا الاستعمار يخشى إعادة إنتاج هذا التراث التحرري الجذري الناجح في أي منطقة في العالم يوجد فيها مستعمر استيطاني عنصري وسكان أصليون يرفضون الخضوع، كما في حالة جنوب افريقيا سابقاً وفي الحالة الفلسطينية حالياً (يبقى النموذج الجزائري صالحاً يمكن الاستفادة منه من أجل التأسيس لعمل ثوري وطني فلسطيني حقيقي). لا يمكن تحليل هذا التراث الثوري من دون دراسة سوسيولوجيا الثورة الجزائرية بالاستناد إلى كتابات مالك بن نبي وفرانتز فانون، وهي أهم ما كُتب على الاطلاق. الثورة الجزائرية هي، في الأساس، ثورة ريفية ليس فقط من خلال العبء الكبير الذي تحمّله الفلاحون في حرب التحرير، بل لأنّ البيئة الريفية هي الأرضية الخصبة التي احتضنت مشروع الحركة الوطنية ومن خلالها أسست لنظرية ثورية. هي في حقيقة الامر، بسيطة في محتواها لتمحورها حول فكرة الاستقلال التام. ولمحاولة فهم طبيعة هذه البيئة، لا بد من دراسة أوضاع الجزائر قبل احتلالها في 1830.
يرى الباحث في علم الاجتماع الجزائري محمد بوخبزة (اغتالته الجماعات المسلحة عام 1993) في كتابه «اكتوبر 1988 تحول أم قطيعة؟»، أن المجتمع الريفي الجزائري (الذي يشكل غالبية الشعب) تميز باندماجه في أنماط تنظيم اجتماعية مستقلة عن سلطة المركز في العاصمة (سلطة الداي التركي أو ما يسمى البايلك)، التي انحصر حضورها في المناسبات الدورية لجمع الضرائب. غياب المؤسسات العامة التابعة لسلطة المركز لم يسمح بتشكل وعي فردي أو جماعي يقبل بها. تميزت هذه الأنماط من التنظيم بالقدرة على إدارة العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع الريفي، من خلال سُلّم قيم لا يكون فيه لوجود الفرد من معنى خارج سياق ارتباطه بالجماعة التي ينتمي إليها. هذا ما بلور استقلالية تامة عن كل رموزها المُجسّدة في ممثلي إدارتها المحليين أو ما يُسمى بـ«قبائل المخزن»، ذات الوظيفة الأساسية المحددة في جباية الضرائب. جسّدت «الزوايا»، كمؤسسات دينية ذات وظيفة اقتصادية واجتماعية وثقافية محورية، «نخبة» هذا المجتمع الريفي التي تحمي «مصالحه» وتُميزه. على هذا الأساس يمكن تفسير ضعف علاقة «الانتماء» بين الأفراد في الريف وبين سلطة المركز، مقابل تميز العلاقة في المدن، حيث الانتشار الكثيف لأجهزة الادارة المركزية بالطابع المباشر الخاضع لقواعد التعامل العادية بين الادارة والهياكل المختلفة للمجتمع المديني.
في هذا السياق التاريخي جاء الاستعمار الفرنسي عام 1830، لا ليفرض سلطة مركزية مرفوضة من غالبية الشعب فحسب، بل ليستبدلها بسلطة عنصرية لخدمة مصالح «المجتمع الاستيطاني الجديد» الذي بدأ يستقرّ في البلاد بقوة الإبادة (إبادة قبيلة العوفية الكبيرة نموذجاً) ومصادرة الاراضي واستئصال الثقافة المحلية. هنا بدأت المقاومات الشعبية النابعة من الثقافة المحلية للمجتمع الريفي (المقاومات الشعبية الجزائرية في القرن 19، انطلقت من الزوايا الصوفية)، محاولةً تغيير الواقع المُستجد والتي استمرت إلى بداية القرن العشرين، حيث استنفذت هذه المقاومات كل وسائلها العُنفية وفشلت في تغيير الواقع الاستعماري. ثم بدأ التفكير في انتهاج الطرق السلمية السياسية، قاد ذلك «النخب المدينية الليبرالية» التي ناضلت من أجل حقوق المواطنة والمساواة بين الجزائريين (الأهالي) وبين المستوطنين أو «الاصلاحية»، التي حصرت تناقضها مع الاسلام الشعبي الجزائري باسم «الاصلاح ونبذ البدع»... وصولاً إلى بروز فكرة إسقاط المشروع الكولونيالي في الجزائر الثورية، من جديد، التي خرجت من رحم معاناة المهاجرين الجزائريين في فرنسا المنحدرين من أصول ريفية غالباً. في هذا الوسط امتزجت الأفكار الاشتراكية وتجارب النضال النقابي مع «ثقافة الرفض» المتأصلة لتُنتج مع مصالي الحاج مساراً تصاعدياً من النضوج السياسي والايديولوجي، امتدّ من أواسط العشرينيات إلى حين تفجير الثورة في الفاتح من شهر تشرين الثاني من سنة 1954، التي يظهر في بيانها الأول ذلك المزج بين الافكار التقدمية وبين الثقافة المحلية في عبارة «الهدف من الاستقلال هو إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية».
مثّل الاسلام الشعبي الجزائري إطاراً وطنياً جامعاً وقوة دفع معنوية للثورة حيث كانت كلمة «مسلم»، التي قرنتها الحركة الوطنية بكل هيئاتها، كـ«الكشافة الاسلامية» و«اتحاد الطلبة المسلمي»، منذ الثلاثينيات تعبيراً عن هوية وطنية لأصحاب الأرض الاصليين. وكذلك الأمر بالنسبة لوصف المقاتل في جيش التحرير الوطني بـ«المجاهد» مثل اسم الجريدة الناطقة باسم الثورة (جريدة المجاهد)، التي لم تكن تحمل ذات الدلالة التي حُمّلت لها بعد ذلك.
«الديموقراطية ـــ الاجتماعية» التي وردت في بيان الثورة الاول، هي في الأساس الخيار الاشتراكي الذي تبنّته الدولة الجزائرية، صراحة، في مؤتمر طرابلس عام 1962 (اتخذ الرئيس بن بلا 1962-1965 قراراً بإلغاء «مهنة» ماسحي الاحذية، لما فيه من امتهان للكرامة وتذكير بالاستعمار) لإطلاق مشروعها التنموي مع الرئيس هواري بومدين (1965 ـــ 1978). عرف المجتمع الجزائري في تلك الفترة تحولات اجتماعية واقتصادية كبرى نتيجة مشاريع الاصلاح الزراعية وتجارب التصنيع والعمل على تشكيل طبقة متوسطة منتجة وتعبئة المجتمع حول أفكار التقدم والتنمية. بعد وصول الرئيس الشاذلي بن جديد إلى سدّة الحكم، قاد عملية ارتداد كبرى في المجتمع باسم سياسة «الانفتاح الاقتصادي» والليبرالية (تُوّجت بزيارته إلى أميركا) وأطلق سياسته تحت شعار «من أجل حياة أفضل» التي استبدلت مشاريع الإنتاج والتصنيع بتغيير النمط الاستهلاكي، بل والسلوكي للجزائريين باستيراد وتكديس كل ما «حُرموا» منه في «الزمن الاشتراكي» من «منتجات كمالية». مثلت تلك السياسة تجسيداً حقيقياً لهيمنة عالم الاشياء ـــ وفق تعبير مالك بن نبي ـــ على عالم الافكار، إلى أن حدث الانفجار الكبير في أكتوبر عام 1988 والذي كان من تداعياته ما وصلت إليه البلاد في سنوات التسعينيات من مواجهة عنيفة تكبدت فيها الجزائر، دولة ومجتمعاً، خسائر كبيرة. وللمفارقة أنه وفي ذروة تلك المواجهة الوجودية، واصل الارتداد عن طابع الدولة الاجتماعي مساره، حيث حوّلت الدولة تعليمات صندوق النقد الدولي إلى «إصلاحات اقتصادية» ذات طابع نيوليبرالي، فقد مئات الالاف من العمال عملهم نتيجتها ودخلت البلاد في إعادة هيكلة لديونها بشروط قاسية. سنة 1999، بوصول الرئيس بوتفليقة إلى الحكم، عادت الدولة إلى طابعها الاجتماعي وبدأت بإطلاق سياسة اقتصادية لامتصاص البطالة وزيادة النمو، من خلال تشكيل هيئات حكومية تمول مشاريع الشباب الاقتصادية (بصفة كلية تقريباً) من خزينة الدولة. كما تكلّفت في بناء بيوت لأصحاب الرواتب الضعيفة وتسلميها لمستحقيها بأجر شهري رمزي، تُسمّى سكنات اجتماعية. فيما تدعم (كمساعدة مجانية)، بنسبة قد تصل الى ثلث كلفة السكن، بالنسبة إلى أصحاب الرواتب المتوسطة. المستفيدون من هذه السياسة الاجتماعية أصبحوا يُشكلون كتلة اجتماعية وازنة هي قاعدة الدولة الشعبية. لن يفهم جمهور الوعي المُشوه أهمية هذه الخيارات الاجتماعية وتداعياتها، لأنها بالنسبة إليه ليست سوى «شراء للسلم الاجتماعي» أو «شعبوية» من أجل البقاء في الحكم. هم بذلك يهربون من حقيقة أن الدولة الوطنية في الجزائر توظف مداخيل نفطها لتنمية اقتصادها ولمحاربة الفقر والبطالة وللتحرر من املاءات أذرع الهيمنة النيوليبراية من هيئات مالية دولية وهذا سبب كاف لاستهدافها.
يعمد «صناع الوعي المشوه»، حين يقفزون فوق ما يُشكل خصوصية للجيش الجزائري إلى اختزال النظام السياسي الجزائري ودور الجيش فيه في قوالب جاهزة هي أقرب إلى الدعاية أو الحرب النفسية من حقائق تاريخية، لسببين: أولاً، كون جيش التحرير (نواة الجيش الجزائري) هو من أسس الدولة وليس العكس كما في تجارب كل الدول العربية، على أنقاض سيطرة كولونيالية جهدت بعنف لمنع أصحاب الأرض الأصليين من مجرد التفكير في الانتظام ضمن إطار مستقل عن هيمنته، وثانياً لصعوبة الفصل بين السياسي والعسكري في تاريخ ثورة اعتمدت الحرب الشعبية، (فبن بلا وايت أحمد مثلاً قادا «المنظمة الخاصة» وهي الطليعة التي تولى أعضاؤها في ما بعد مهمة تفجير حرب التحرير، وهما يُنظر إليهما أثناء حرب التحرير أو في بداية الاستقلال كقائدين مدنيين).
الجزائر مستهدفة اليوم لأنّ تُراثها الثوري التحرري يفضح زيف «ثورات» يُلونها الاستعمار أو يتبناها. لأنها تنحاز إلى شعبها وترفض أن تُسلّم ثرواتها للناهبين. وهي تملك جيشاً وطنياً شعبياً ذا عقيدة عسكرية جوهرها الحفاظ على وحدة دولة رسمت حدودها بتضحيات سلفه، جيش التحرير الوطني.
* كاتب جزائري