في كتابٍ شهير له، «حالة ما بعد الحداثة»، يحاجج جون ليوتار بأنّ جوهر القوة في العالم المعاصر يقوم على التحكّم بدفق المعلومات، لا من ناحية السيطرة على الاعلام وانتاج المعرفة فحسب، بل ايضاً بالمعنى التكنولوجي البحت للكلمة: من يمسك بالاتصالات مع الاقمار الصناعية، من يحدد بروتوكولات الانترنت، وبشكلٍ أساسيّ، من يقدر على «تعليب» الكم الهائل من المعلومات المتناثرة التي تحيط بنا، وأن يصنع منها سرديّات متكاملة ومفهومة، وأن ينشرها بين الناس.
كلّ هذه الخطوات تكلّف كثيراً من المال، ولهذا تبقى عملية «صنع الحقيقة»، من البحث العلمي الى الاعلام، ميداناً حصرياً لمن يملك القوة والثراء، ومسخّرة أساساً لخدمتهم.
في المجال السياسي، تعمل القوة على مستويين: اخفاء حقيقة الأحداث اثناء حصولها، وكتابة تاريخٍ يناسبها حين تمضي الايام وتظهر حقائق الماضي. هكذا، خلال حرب افغانستان في الثمانينيات، لم يكن أحدٌ من متابعي الاعلام الدولي (والعربي) يعرف عن الدّعم الاميركي للمجاهدين، والتمويل الخليجي، و»مكتب الخدمات»، وحين صارت افغانستان نسخةً فقيرة عن السعودية، قرّر اكثر الاعلام الغربي أنّ الخلل يكمن في الاسلام وتعاليمه.
وبما أنّ منطقتنا تنحو لتصير «افغانستان الجديدة»، على أكثر من مستوى، ولأن تكرّس أرض الشام والعراق كموطن «اللعبة الكبرى» لهذا القرن - أي الصراع في النقطة التي تلتقي حولها حدود القوى الدولية - فإنه ليس من الغلوّ أن نفترض أننا ما زلنا نجهل الكثير عن بواطن ما جرى على الأرض السورية خلال السنوات الماضية، وأن الحقيقة لن تخرج الى العلن الّا حين لا يعود لها تأثير.
ليس من المعيب لمن صدّق سرديّات الاعلام المهيمن عن سوريا أن يعترف بأنّه قد خُدع، وأن ينظر الى مصدر القوة الحقيقي، اولئك الذين اضرموا هذه الحرب القذرة وكان لهم القرار في مسار الأمور، والذين لا تهمهم حياة الناس في هذه الأرض أو مصائرهم. العودة الى البديهيات والتفكير من جديد انطلاقاً من تحديات اليوم، وان انطوى ذلك على اعترافٍ بالخطأ، يظلّ أجدى من أن ينشغل المرء - والوطن يحتضر- في تزييف تاريخٍ يناسبه. السردية التي ترعاها الامبراطورية هي «نظرية المؤامرة» الحقيقية.
4 تعليق
التعليقات
-
عامر محسنو من أهم إستنتاجات ليوتار إنو "حوسبة" المجتمع و تحولو الى مجتمع "ما بعد الصناعي" جعلوا من المعرفة العلمي مجرد "سلعة معلوماتية"... و هذا بالتأكيد ما يوصل إلى الإستنتاجات المتعلقة بالسيطرة على هذه "السلع"!
-
قانون جائر أفضل من غيابقانون جائر أفضل من غياب القانون ونظام جائر أفضل من غياب النظام ومن الفوضى . من وقت اللي الكاسكاد اشتغل عرفنا أنو مكمّل وواصل عنا ، وأنو رايحين ع الخراب والأمريكي ومن خلفه الاسرائيلي وأشباه الرجال العرب مارح يفوّتوا الفرصة للانتقام من سوريا ، نظرية المؤامرة موجودة من زمان وشاركناهم بالتأمر على انفسنا بأننا لم نمتلك عناصر القوّة للوقوف بوجه هالنظرية اللي الإعلام بيحكي فيها من زمن بعيد . حاججنا معارضين مخضرمين ودفعوا سنوات من عمرهم في السجن حول نهاية غير سعيدة بل وقاسية جدا لأي حراك سيجري في سوريا إن بدأ واستغربت جدا تجاهلهم المقصود لألف باء ثورات التغيير ،، فكان شعار إسقاط النظام !! كيف يمكن لإنسان إسقاط النظام وماذا يمكن أن يحلّ مكان النظام حينها غير الفوضى ، وكيف يمكن التصديق أن الغرب لن يتلقّف ماسيجري على طبق من ذهب وهو ينتظر فرصة سانحة كهذه !! لعلهم أدركوا اليوم أن دروب الثورات ليست معبّدة بالنوايا الحسنة عند من كانت نواياه حسنة في البداية ، بل هي مليئة بالحفر والخنادق ( اللي إجا الأمريكي قعد معهم فيها بنفس الخندق ) ورغم أنو الثمن كان غالي جدا جدا ولكن على أمل أن تكون هالـ " الثورة " عملت توعية عن متطلبات الثورة الحقيقية واللي لايمكن تبدأ إلا بثورة فكرية وثورة ع التخلف والجهل والطائفية وتأصيل مفهوم المواطنة بعقول الناس حتى نسد الذرائع الداعشيّة للأمريكي ولغيرو
-
الإعتراف بالخداع في حالة الأوطانرأيي في الموضوع : عندما يتعلق الأمر بعلاقات تربط بين أفراد نقول : ليس من المعيب ان يعترف الإنسان بالخطأ او بالخداع ان اكتشف ذلك . أما عندما يكون الحديث عن موت و دمار وطن ( بحجم الغالية سوريا ) يكون المطلوب من المعترف أن يسخر حياته المتبقية في كشف الخداع و محاربته و تغليب الحقيقة عليه ...هذا في أدنى مستوى ، أما في أعلى مستوى فيكون المتوقع منه أن يقدم على الإنتحار الجسدي او الفكري . لا تؤاخذوني على قسوة الرأي ، فهي بحجم الألم .
-
شكرا رفيق عامرشكرا رفيق عامر