الدين ليس حقلاً محايداً في الحياة الاجتماعية بل مشحون في كل مركّب من مركباته الثلاثة (الإيمان والشريعة والطقوس). رغم أن منطلقات الأديان ومآربها واحدة من وجهة النظر الفلسفية إلا أنها بين المتدينين تشكل أدوات تجميع وهمية: طائفية ومذهبية من جهة، ومعاول هدم وتفريق بين مكونات المجتمع والشعب الواحد المُنتمي إلى أديان وطوائف عدة من جهة أخرى.
يحضر الدين بكثافة في حياة الشعوب الما- قبل حداثية (التقليدية) من ساعة الولادة إلى ساعة الممات، ولحضوره أهمية كبيرة في محاولة الإجابة على الأسئلة الوجودية التي تراود الفرد والأفراد والجماعات المختلفة. ويعتبر حضوره خطراً في الحياة الاجتماعية والسياسية لأنه يؤدي إلى استقطابات مجموعاتية من طائفية ومذهبية تحرف حراك المجتمع عن مساره الصحيح، وخير دليل على هذا حال أمتنا العربية التي أفقدتها غالبية الحركات الدينية الإسلامية السياسية بوصلتها الصحيحة وحرفت مسارها من التنوير إلى التخلّف، ومن عدوها الصهيوني إلى أعداء من الواجب الموضوعي أن يكونوا حلفاء وأصدقاء، ومن بناء المجتمع إلى تدميره عبر التجييش الطائفي والمذهبي. وأخطر مظاهر هذا التحول ما يحدث أمام أعيننا اليوم في سوريا والعراق من تهجير المسيحيين والأيزيديين وكل من يخالفهم وجهة النظر. وما المأساة التي تعيشها المجتمعات العربية إلا نتاج التوجه المقدس- غير العقلاني للدين وتدريسه في المدارس والجامعات التي تعيد إنتاج التمذهب والطائفية وأنظمة الإدارة والحكم المختلفة (في العائلات والبيوت والمدارس والجامعات ومؤسسات المجتمع والدولة). وبما أن المدارس والجامعات أهم الحلقات التي تُنتج المعرفة والوعي الذي يدير هذه المؤسسات، يتوجب النظر في كيفية إصلاحها أولاً. وبما أننا نتاج هذا النظام، أي منهج تدريس الدين في المدارس والجامعات فإننا سنحاول أن نجمل إشكالياته في ما يلي:
التلقين: تُدرس الأديان عن طريق التلقين أي حفظ النصوص والفرائض التي لا تتلاءم عادة مع سنّ الطلبة.
يجب اعتبار الدين جزءاً
من الفكر الإنساني وتاريخه، وليس منفصلاً عن الإنسان
والتلقين يؤثر في الصحة النفسية وقدرات الطلبة لأنه يمنع الخيال والإبداع.
الغيبية: تدرس كل الأمور التي تتعلق بالعقائد مثل وجود الله الواحد الأحد أو مثلث الأقانيم والملائكة والشياطين، الأمر الذي يترك خوفاً في نفوس الطلبة لأنهم يدركون أن المقولات والمخلوقات الغريبة التي تُصدر عن الدين أكبر وأعظم وأقوى من الإنسان، خصوصاً الطلبة صغار السنّ.
التمييز بين المجموعات الدينية: تفصل المدارس بين الطلبة في حصص تدريس الدين، أي فصل الطلبة المسيحيين أثناء درس الدين الإسلامي وبالعكس. الأمر الذي يشكل فصلاً تعسفياً بين الطلبة من دون أن يكون بمقدورهم استيعاب هذا الفصل ومآربه. هذا ناهيك عن أن كل دين في غرف الصفّ المتجاورة يقول بأنه دين الحقّ وأفضل من بقية الأديان.
تفكيك مجتمع الطلبة: ما تقدم يؤدي إلى تفكيك مجتمع الطلبة إلى مجموعات طائفية ومذهبية، بحيث تتمترس كل طائفة ومذهب في قناعاتها غير المُستندة إلى العقل والمنطق، ومن شأنها (أيضًا) أن تحترب (كما حدث في لبنان والعراق وسوريا)، مع أن بقية أرجاء الوطن العربي ليست بعيدة من هذا الاحتراب- التدمير الذاتي.
لا يختلف الأمر في كليات اللاهوت والشريعة والدعوة وأصول الدين المتوسطة والجامعيّة، التي يدرس فيها أتباع كل دين (وأحياناً) طائفة في كليّة منفصلة. وفي العادة لا نجد طالباً واحداً من ديانة مختلفة في واحدة من هذه الكليّات. تؤهل هذه الكليات دعاة ورجال دين من قسس وأئمة مساجد ضمن المنهج نفسه المتبّع في المدارس. والمثير فيها أنها تهاجم كل فكر لاديني من دون أن تستثمر دقيقة واحدة في التعرف عليه من الداخل.
وعندما يتم تدريس مساق في مقارنة الأديان، لا يتعدى الأمر قراءة الأديان الأخرى من وجهة نظر الدين الذي تنتمي له الكليّة التي تدرس الدين المقصود، الأمر الذي لا يسمح بالتعرف على الأديان الأخرى كما يراها أتباعها ويشوهها أيضاً. هذا ما خَبِرَه كاتب هذا المشروع أثناء دراسته «أكاديمية الدراسات اللاهوتية» و»الدراسات الإسلامية المعاصرة» في جامعة القدس العربية.
وينطبق الوضع الذي وصفناه أعلاه على وسائل الإعلام المختلفة.
في ضوء ما سبق وصفه، تحاول هذه الورقة تقديم طرح لتطوير برامج تدريس الدين بغية التوصل إلى تحقيق الأهداف التالية:
1 ــ إعداد مدرسين لتدريس الأديان من وجهة نظر عقلانية تعتبر الدين وما ينتج منه موروثاً حضارياً ناتجاً من الفكر الإنساني.
2ـــ وضع خطة لتدريس الدين في المدارس مع الحفاظ على وحدة المجتمع وأهدافه الوطنية والقومية وعلى مبادئ الديمقراطية والتعددية في التعليم والمجتمع.
3ـــ نزع فتيل الطائفية والمذهبية وجعل المواضيع والمفاهيم والقيم الدينية عقلانية تُفهم وفقاً لمنطقها التاريخي والحياتي.
4ــ تزويد المدرسين بأدوات جديدة ونقدية لتدريس ومناقشة مواضيع الدين والإيمان الشخصي بعيداً من التشنجات والمشاعر السلبية ضد الأديان والطوائف الأخرى.
5ــ إضفاء الشرعية على تناول ومناقشة الدين من دون ضغوط أو قمع أتباع الدين المعني والأديان الأخرى.
6ــ إعداد كتب تدريس الدين وفقاً للأسس والمبادئ التي سنستعرضها في الفقرة التالية (التي سيختبرها مدرسو الأديان) إذ سيقومون بتطوير هذه الكتب وفقاً لتجاربهم مع الطلبة وفقاً للأسس والمبادئ التالية:
ـــ يجب اعتبار الدين جزءاً من الفكر الإنساني وتاريخه، وليس منفصلاً عن الإنسان ونشاطه وفكره وتاريخه.
ـــ يجب تدريس الدين في إطار نشأته التاريخية وتطوّره. ويتطلب هذا تناول الكتب التي تؤسس للديانات الثلاث من خلال المواقع المتساوية والاحترام على المستوى العقلي. ويجب الامتناع بشدّة عن اتخاذ مواقف تحابي أو تتضهد أيّا من الأديان والكتب المذكورة. لأن كل موقف تجاه أو ضدّ أي دين وكتاب يعتبر موقفاً معادياً للديمقراطية والقيم التربوية، ومن شأنه أن يؤدي إلى نتائج سلبية تُسهم في تعزيز التوترات الطائفية والمذهبية.
ـــ ضرورة القول بقبول الآخر وحريّة اعتقاده والتعددية الفكرية والتوازن الاجتماعي البعيد من التوترات والتشنجات الدينية والطائفية والمذهبية المختلفة.
ــــ يجب منح المدرسين والمدرسات وجهات نظر مختلفة عن نشوء الدين وتطوره. فعندما تتوفر لدى المدرسين (والطلبة فيما بعد) وجهات نظر عدة عن موضوع واحد، فإن هذا سيمنحهم القدرة والشرعيّة على التفكير.
ــــ ضرورة تطوير فهم الدين ودراسته وتدريسه في الفترة السابقة للديانات اليهمسلامية، أي من الفترة الميثولوجية لثلاثة أسباب:
الأول- لا تتمتع هذه الفترة بقداسة خاصة لدى المؤمنين والمتدينين. والثاني- تحتوي هذه الأساطير على معظم الأسس التي تستند إليها الأديان. مثل ورود قصة الخليقة في الميثولوجيا البابلية والأديان اليهمسلامية، وورود المرأة الحيّة كرمز للخطيئة في الميثولوجيا البابلية واليهودية والمسيحية. هذه القصص والمبادئ من شأنها أن تدفع الطلبة إلى التفكير وعدم التوقع أو محاباة رواية دينية على أخرى ليصبح الموضوع الإيماني معرفيًّا أيضاً. والثالث- يمنح تدريس القصص والأفكار السابقة للأديان اليهمسلامية شرعيّة نقاش القصص والأفكار الشبيهة بها كي نقف على أهمية القدرة والفكر الإنسانيين على الاستمرارية في إطار القطع والوصل.
ـــ يجب اعتبار كل دين وحدة مستقلّة قائمة بذاتها، تمرّ داخلها سلسلة هممة وجسر يوصل القصص والأفكار ومبادئ من الميثولوجيا تسربت بعد ذلك إلى اليهودية والمسيحية والإسلام. أي رفض فكرة أن هذا الدين يَجِبُّ الأديان الأخرى أو أنه جاء لتصويبها. ولن ننسى أيضاً الميثولوجيا البابلية والكنعانية التي تسربت إلى الديانات اليهمسلامية كافة. وتتبنى الديانتان الإسلامية والمسيحية ذات الرواية عن مريم العذراء وتتقاطعان كثيراً حول أهمية المسيح. وتفترق الأديان أيضاً في العديد من القصص والقضايا فعلى سبيل المثال: الـ»مشيح» اليهودي ليس المسيح المسيحي والإسلامي، ولوط اليهودي والمسيحي ليس هو لوط الإسلامي. وهنالك العديد من القصص والقضايا المشتركة والمُفرقة أيضاً يجب على المُتلقي فهم أسبابها وليس المرور عليها من دون طرح أي سؤال حولها. يستهدف هذا الطرح مدرّسي ومدرّسات الأديان في المدارس المختلفة. إضافة إلى رجال الدين ومقدمي البرامج الدينية في وسائل الإعلام وكل المهتمين والمهتمات بفهم الدين من وجهة نظر علمية تُعنى بالدرجة الأساسية بإعلاء شأن العقل والأنا المفكّرة البعيدة من التوتر والتشنج الطائفييّن.
معاً من أجل فكفكة جذور الطائفية!
هذا الطرح عبارة عن فكرة لمشروع بحاجة إلى طاقم مدرك لأهمية فكفكفة جذور الطائفية وتحييد الدين عن الحياة العامة.
* باحث في مقارنة الأديان ــ فلسطين