قَلّما يَستحضر الإسرائيليون تعاليم القَبَالة (أو القبلانية الصوفية) في نهاراتهم بمثل ما فعل أسلافهم من قبل. بالأصل، كانت أولى مهام الحركة الصهيونية إعادة إنتاج ثالوث «اليهود-الله-الطبيعة» بنحو مختلف. ممارسات «الميركافا» القبالية التي نشأت في القرون الأولى بعد الميلاد، بهدف الوصول إلى مقام «موكب العرش الإلهي» (شيء شبيه بمقام «عند ربّهم» لدى الصوفية) أحالتها الصهيونية دباباتٍ حِرفتُها القتل. قصص القبالة الشعبية، مِن نحو خلق «الغوليم» أو «الخادم الحامي» كانت هدفاً للصهيونية التي أرادت تهميشها كذلك. في بحثه عن الصهيونية والغوليم، يتطرّق الباحث الإسرائيلي نيتزا دوري إلى أدبيّات الغوليم بُعيد نشوء إسرائيل. كانت قصة الغوليم (التي سنأتي على شرحها) مصدرَ إلهامٍ لقصصٍ وأغانٍ مختلفة، وكانت مهمّة الصهيونية في هذه الأغاني إعادة إنتاج مفهوم الغوليم الصوفي وفقاً لتصوّرٍ يفرض على الطفل اليهودي الاعتماد على ذاته واستعداء الآخر. يضرب نيتزا دوري مثلاً بأغنية «حارس الحديقة» في قصيدة ليفين كيبنيس والتي تقول: «أنا الفزاعة التي تحرس الحديقة!
أنا أحرس في الأيّام الحارّة، وفي الليالي الباردة،
ولا أحد غيري يفعل ذلك،
رأسي وعاءٌ وعيناي فحمٌ وقدماي عصا،
ويداي غصنٌ، وأنا جناح طائرٍ وزهرة هنا»
كُتبت قصيدة «حارس الحديقة» هذه في وقتٍ كانت الحركة الصهيونية تطمح إلى تكوين نوعٍ جديدٍ من اليهودي الذي يتمسّك بالأرض ويخرج من المنفى ومن غرف دراسة التوراة التقليدية. وكان اليهودي في نشيد «حارس الحديقة» هذا هو الغوليم الساعي إلى حماية اليهود عبر هويةٍ جماعية وروحٍ وطنية مشتركة.

الغوليم والقبالة
يُعدّ غيرشام شالوم واحداً من أبرز شرّاح الكتابات الغنوصية اليهودية، بما فيها كتابات إليعازر العطار الأسرارية. للحاخام إليعازر العطار (1176 - 1238) هذا تعاليمه الخاصة. في تعليقه على آية «لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها» (سفر التكوين 1: 24) يقول أليعازر أن روح آدم الأوّل ليست روحاً متنزّلة مِن أعلى، بل هي روحٌ أرضية نابعة من الأرض في لحظة بهجةٍ إلهية. لذا تصير لأصحاب السرّ من الحاخامات، في لحظات الكشف والنشوة الروحية، القدرة على الخلق الأرواحي، في رأيه، والغوليم هو أحد تخيّلات هذا الخلق الذي يشكّله الحاخامات باستخدام حروف كتاب الخلق التوراتية.
فكرة أليعازر هذه لم يكن يعلم هو نفسه أنها ستمسي فضاءً لخيالات واسعة، بدءاً من القرن الثاني عشر، عندما نُسب إلى إلياهو بعل شيم (1520 – 1583) خلقه غوليماً أصمّاً قَبل أن يميته بإزالة اسم «الله» من فوق جبينه. أمّا النسخة الأشهر من هذا المعتقد، فهي تلك التي ربطت ظهور الغوليم بالحاخام يهودا ليف بن بتسلئيل (1520 – 1606) المعروف بـ«مهرال براغ» في القرن السادس عشر. فالأخير نُسب إليه خلقه كائناً طينياً «شبيه إنسانٍ قبيح الشكل» خدمةً له وحمايةً ليهود براغ من الاضطهاد والتنكيل.
في دراسته «المختارون سيصبحون قطعاناً» (2005) يفتتح جوناثان غارب نصّه باستعارةٍ مِن غيرشام شالوم: «التصوّف اليهودي سيظهر مرّة أخرى، والقصّة لم تنته بعد». يعلّق غارب على نبوءة شالوم بالقول: «لقد تحقّقت نبوءة شالوم بالفعل، لكنّ التصوّف اليهودي اليوم مزيجٌ من التصوّف الشعبي والرأسمالية». الإشكالية عند غارب أن شعبويّة رهاب الآخر في براغ، ما بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، هي نفسها ما يُعيد بناء الخيال الصوفي اليهودي اليوم. قصصٌ مِن مثل خلق الغوليم و«الميركافا الروحية» هي بالتحديد ما يصنع مخيّلة جماعات «حباد» و«غوش إيمونيم»، وهي بالضبط ما يصنعُ اليوم الخيالَ السياسي الإسرائيلي. نخطئ إذا ما وصفنا إسرائيل بالتحوّل نحو المسيحانية - وهي مقولة رائجة عند باحثين كثر في الشأن الإسرائيلي. إسرائيل مسيحانيةٌ مِن قبل ولادتها. كان شلومو غورن (الحاخام العسكري الأكبر منتصف الستينيات) يقسّم التاريخ إلى ثلاث مراحل: الأولى من يوشع بن نون إلى خراب الهيكل، ثم الشتات كمرحلة ثانية، فقيام إسرائيل كمرحلة ثالثة «وهذه هي الفترة المسيحانية» بحسبه.
وهكذا، فإن «إسرائيل/ الغوليم» التي أنتجتها الصهيونية الأولى، والقادرة على الدفاع عن اليهود طوال مرحلة الانتظار المسيحاني، هي غير إسرائيل الراهنة التي يديرها مناحيم مندل شنيرسون مِن قبره مثلاً (الأخير كان يعلن لزوّاره «موت ظلال المسيح» وأنّ ظهور الأخير ليس إلا عملنا مِن أجل الجماعة اليهودية).
يتمّ التعبير عادةً عن هذا التحوّل في إسرائيل عبر السؤال الذي لا ينفكّ كتّاب «هآرتس» يطرحونه بصيَغ مختلفة: ما هي عاصمة إسرائيل؟ تل أبيب أم الخليل؟ (أي مشروع إسرائيل الـ48 أم إسرائيل الاستيطانية؟). السؤال عن جغرافية العاصمة مرتبطٌ أساساً بالسؤال عن هوية العاصمة، وهوية إسرائيل نفسها. ما هي هوية إسرائيل المقبلة؟ إنّ عقوداً من التضخّم المترافقة مع عقودٍ مِن سياسات الخصخصة اليمينية، أنتجا قطاعاتٍ شعبويّة بهويّاتٍ قاتلة. أفكار مائير كاهانا كانت مفيدةً في تثبيت القطاعات الأكثر فقراً في الضفة الغربية، لكنّ أفكار كاهانا قد تمسي قاتلةً لليهود أنفسهم عند أوّل انتكاسة. وهلوسات الغوليم الشعبويّة يعي معناها يهود تل أبيب العلمانيون جيّداً. أيّ انتكاسةٍ سياسية ستفجّر تناقضات «الهوية الغوليمية» برمّتها.
يُقال إنّ إلياهو بعل شم، وبعدما خلق غوليمه بمساعدة كتاب الخلق، نما الأخيرُ وتعاظمت قوّته بشكلٍ أخاف اليهود. حتى إذا ما أراد بعل شم إعادته تراباً سقط عليه وقتله. في إسرائيل يعرفون معنى ذلك ودلالتَه. ثمّة غوليم استولدته الصهيونية يترنّح اليوم بعد «طوفان الأقصى» منذراً بالسقوط، لكنّ حذرهم هذه المرّة أنه سيسقط مِن أعالي المستوطنات في الخليل على رأس «الدولة» في اليوم التالي لنهاية هذه الحرب.

* كاتب