بهذا العناد غير المسبوق يعيد الفلسطيني إلى الطبيعة ديالكتيكها رغم أنف «السيستم». العلاقة مع نقيض الشعب الفلسطيني هي تناحرية في جوهرها و تشكّلها، والطبيعة تغلب التطبيع مهما طال أو علا. وكل شيء يتغيّر، ينقلب ضدّه. فالحصار ظل احتكاراً فلسطينياً لا ينافسه فيه أحد، أينما وجد الفلسطيني وجد معه الحصار. الآن، وعلى نسج العمليات العسكرية للتحالف الصهيو-أميركي وهدي المقاومة الباسلة والإسناد العابر للحدود السياسية من لبنان إلى اليمن والعراق إلى أوروبا وأميركا والكون كله، ينهض سؤال الحصار بقوة، فمن يحاصر من؟ هذه المقابلة بين منتهى القتل والتدمير ومنتهى العناد والصمود، والنتائج التي تتمخض عنها، هي الاستثناء المتحول إلى قاعدة. قاعدة تصلح للتعميم كونياً، فقياس قوة الحدث إنما يتمثّل في حجم التأثير ومداه، وفي النتائج التي يرسيها على المديين المتوسط والبعيد.
ما يحدث في غزة لم يشهد له العالم مثيلاً. العين التي ترصد هذا المستوى المنقطع النظير للتوحش الصهيو-أميركي، العين التي تشهد ديناميات مقاومة لا تتراجع بل تترقى، كلما زاد التوحّش ازدادت تجدّداً وتجديداً، إيلاماً وقدرةً، معادلة السرعة الطردية هذه تفضي إلى تيئيس العدو من إمكان قهر المقاومين، وهي تَجُبُ ما قبلها لتوجب ما بعدها. وقد شغلت المعادلة الطردية بين شدة التوحّش وبأس المقاومة، الكثير من المراكز البحثية والمفكّرين والمحللين كما المراقبين في كل المجالات لا سيما السياسية والعسكرية والأمنية والاستراتيجية، غير أن ما يستحق الاهتمام هو هذا التناغم أو التعارض بين الأهداف المعلنة والخفية، الظاهرة والكامنة أو الممكنة، وهذه المراقبة اللصيقة والتحديدات المتغيرة على مدار الساعة للمخاطر والفرص.
أمام هذا القدر من الدمار الذي طال مئات الآلاف من الشقق والبنى التحتية، المؤسسات التربوية والثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية والدينية (تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الكلفة الأولية لإعادة اعمار غزة تتجاوز الـ30 مليار دولار وقد تصل إلى 40 مليار، والمدة الزمنية تصل حتى 80 سنة)، فإنّ الحرب العدوانية على غزة، المقاومة الأسطورية لها، وطول أمد المعركة، فرضت معادلة جديدة تضاف إلى عناصر استثنائية المعركة. غاية الأمر، أنه في الحروب السابقة سؤال الإعمار كان يشغل الطرف المعتدى عليه، وقد مثّل ذلك واحداً من شروط القيادة السياسية للمقاومة في عملية التفاوض، جديد «الطوفان» أن هذا الهم لم يعد همّاً فلسطينياً فقط، بل هو عنوانٌ جدّيٌ للطرف المعتدي، فالخسائر المحققة تفرض عليه التفكير في ما بعد انتهاء العدوان، وتحديداً الخسائر المباشرة في جبهتي القتال في غزة وفي الشمال الفلسطيني على التماس مع المقاومة في لبنان.
والمطروح فعلياً، أو المطلوب منطقياً، عند مراكز التفكير السياسي وصناعة القرار وبحسب منطق الخسائر والأرباح هو التالي:
الجانب الفلسطيني: إعادة إعمار ما هدّمته الحرب،
الجانب الصهيوني: بحسب طبيعة الضرر إعادة الإعمار (الخسائر المباشرة) وإعادة البناء (تأثير النتائج على المديين المتوسط والبعيد).
جديد «الطوفان» أن هذا الهم لم يعد همّاً فلسطينياً فقط، بل هو عنوانٌ جدّيٌ للطرف المعتدي


غير أن الثابت المؤكد كحقيقة منبثقة من الجدل في الوسط الصهيوني، أن هناك ضرراً كبيراً لحق بدولة الكيان الصهيوني، وهذا الضرر يحتاج إلى انشغال وتركيز في اليوم التالي كمرحلة لاحقة للعدوان على غزة، عندما يستسلم التوحّش أمام إرادة، فعل، وجبروت المقاومة. أي إن هناك تقابلاً بين ضرورتين حيويتين للطرفين المباشرين للصراع، فالضرورة الفلسطينية تتحدّد من خلال الاستجابة للحاجة الملحة لإعادة إعمار غزة. الخسائر كبيرة والكلفة عالية، وبالتأكيد فإنّ الطرف الفلسطيني لا يستطيع وحده أن يحمل كلفة إعادة الإعمار. ومن واقع الحروب العدوانية السابقة، وانطلاقاً من استخلاصاتها، يمكن وضع عملية إعادة الإعمار ضمن السيناريوهات التالية:
1- توفّر مظلّة دولية تتبنّى كلفة إعادة الإعمار في حالة ضعف أو تراجع المقاومة والتوصّل إلى تسوية في غير صالحها.
2- أن يفرض على المجتمع الدولي تحمّل الأعباء، في حالة خروج المقاومة بانتصار واضح، والانتصار الواضح هنا يعني الانتصار بالسياسية واستثمارها وتحوّل المقاومة إلى أمر واقع لا يمكن القفز عنه وعن رؤاه ومواقفه.
3- أن يتخلّى المجتمع الدولي، لا سيما أقطابه البارزة، عن تحمّل المسؤولية ضمن استراتيجية ضع الجرح يتخثّر؛ المقصود هنا تحويل عملية الإعمار إلى عملية ضاغطة تُحدث شرخاً بين المقاومة وبيئتها التي تنتظر الاستجابة لضروراتها.
اليوم التالي لم يعد يوماً يطرح على الطاولة الفلسطينية، هناك أيضاً ضرورة ذات طابع وجودي واستراتيجي عند دولة الكيان الصهيوني. إذ إن التحديد هنا هو حول الخسائر والأضرار، التفنيد أو التمييز بين الخسائر والضرر يعود إلى تبيان أو تحديد الكلفة، أكثر من ذلك، في الثقة بالقدرة على معالجة الأمر على مستوى الدولة ومجتمعها. فالخسائر المباشرة التي يتحدّث عنها قادة العدو، الباحثون، المفكرون، الفاعلون على المستوى السياسي والاقتصادي، يتعلّق بإعادة النازحين، وبطبيعة الحال تهيئة الظروف لهذه العودة ومعالجة أثر الحرب على الاقتصاد الصهيوني (تشير التقديرات إلى حوالي عشرة مليارات دولار)، وقد سبق لدولة الكيان الصهيوني أن كانت أمام أوضاع شبيهة بدرجة أقل أو أكثر (أكتوبر 73، اجتياح 82، حروب 2006، 2020...الخ)، يكفي أن تتخذ الحكومة إجراءاتها وتصرف موازناتها وينتهي الأمر.
غير أن هناك ضرراً كبيراً لحق بالكيان الصهيوني، يكاد يكون من النوع الذي يحدِث عطباً كبيراً ويستحيل معاجلته، كل موارد الدولة المادية والروحية لا تستطيع التعامل معه. إذ إنّ القيادات الصهيونية الحالية لا تستند إلى عناصر القوة اللازمة من أجل إعادة البناء، يستلزم ذلك قيادات استثنائية وتحظى بالقبول والتأييد الشعبي الكامل وهو الأمر غير المتوفر ولن يتوفر.
ثمّة حقيقة تفرض نفسها على إيقاع الماهيات، تأخذها إلى أقصى التطرّف من حيث التشكّلات النهائية، فالحرب لم تنته بعد، ما يعني أن تعداد الخسائر ما زال مستمراً، وكذلك الأمر في قياس مدى وحجم الضرر الناتج عن طول أمدها. وبما أن الوعي يسبق الممارسة، فإنّ وعي الخسائر وتحديد الضرر الحالي كما ستنتهي إليه نهاية الحرب، سيحدّد القدرة على التعامل معهما. وقد تكشف الحقائق عن أعطاب كبيرة من النوع الذي يتغوّل ويتعاظم.
إنّ حسبة موارد القوة اللازمة لاستراتيجية الترميم، الإصلاح، إعادة البناء، فإنّ الكفة تميل استراتيجياً للمصلحة الفلسطينية، هذا إذا توفّرت قيادة استثنائية واستراتيجية قادرة على الاستثمار. والاستثمار هنا يعني قبول تحدّي الدخول في سباق بين استراتيجيتين: (1) استراتيجية إعادة إعمار غزة التي قد تفتح الباب لإعادة إعمار سياسي فلسطيني، (2) واستراتيجية إعادة البناء الصهيونية.
ما تقدّم يشير إلى ديالكتيك طردي وعكسي بين حالتين تغرف كلاهما من المورد نفسه، التاريخ والصراع الوجودي وتراجيديا الحروب المستدامة، آثارها، تمظهراتها وانعكاساتها، على مستوى الوعي والانتماء، التفكير والسلوك، وهناك في اللاوعي تتجمّع الانطباعات، مشاعر الغضب وخيبة الأمل، الإذلال والقهر، الخوف والرعب، والتي ستحقق في سيرورتها النهائية ميولاً واتجاهات ومواقف مهزوزة، لا منتمية، يغلب عليها الشك بالذات والآخر من بيئة الكيان نفسها.
وعليه ينبني الاستخلاص الأكتوبري الهادم للتوازنات؛ كلّما تقدّم الإنجاز الفلسطيني تقدّم المأزق الإسرائيلي، كلّما تقدّم الفلسطيني انحدر الإسرائيلي، وهذه بحد ذاتها من الصعب الاعتراف أو التسليم بها على مستوى العقل، إذ إنها تخالف المنطق الرياضي، عناصر القوة عند الكيان الصهيوني، المستند إلى كل قدرات السيستم السياسية، العسكرية، المالية، الأمنية والإعلامية، يقابلها مجتمع غزة المحاصر.
إنّ رصد الخط البياني لتطوّر الكيان الصهيوني يشير إلى تسارع كبير في الانحدار، والاستخلاص بنهائية الانحدار يقوم على أن إيقافه يتطلّب قدرة هائلة على صدمه، وهي وظيفة السيستم الذي هو نفسه يعيش تحت ظلال الفشل عن تأمين مقومات إعادة إنتاج نفسه. باختصار شديد التكثيف، بين الدولة المارقة والكيان المؤقت لا يقدر السيستم إلا على إدارة السقوط.

* كاتب وباحث فلسطيني