ما من مسألة شغلت المخيّلة الاستراتيجيّة الصهيونيّة منذ التخطيط لقيام إسرائيل بصفتها دولة استيطان كولونيالي، مثل الأمن الوجودي للمستوطنين الذين بلغ تعدادهم الذروة مع تدفّق المهاجرين اليهود السوفيات. وليست صدفة أن يتم التركيز على طريقة استهداف الفدائيين نظام الأمن الذاتي لمستعمرات جنوب فلسطين في السابع من أكتوبر، كأن العمل لتفكيك بنية القلعة الصهيونية يجعل المستوطنين يشعرون بعدم الأمان وبالتالي التفكير جدّياً بالمغادرة نهائياً.وفي إطار التلميح لهذه المعضلة أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان مطمئناً إلى غياب نيّات هجوميّة لدى قيادة المقاومة الفلسطينيّة في قطاع غزّة، أن «ما حدث اليوم لم تشهد إسرائيل مثيلاً له»، وتعهّد بأن الآلة العسكريّة الإسرائيليّة سوف تسحق حركة «حماس» بقوّة لا سابق لها.
ويتبيّن الآن، عقب أشهر من الحرب الإسرائيليّة التي بلغت مستوى الإبادة الجماعيّة للشعب الفلسطيني، أن نهج الحرب الشاملة في قطاع غزة لم يفلح في نزع «التهديد» المتمثّل في حركة «حماس» تمهيداً لإعادة الثقة للمستوطنين الذين أخلوا مستعمرات غلاف غزة، فيما أسفر دخول المقاومة اللبنانيّة المعركة إسناداً للمقاومة الفلسطينيّة في غزّة عن إفراغ مستعمرات الشمال من مادتها البشريّة الحيويّة.
وفوق ذلك، فإنّ التلميح للجوء إلى السلاح النووي من جانب مسؤولين إسرائيليين، لا يمكن أن ينفع في علاج مشكلة الأمن الوجودي لإسرائيل، والدليل على ذلك مسارعة القوى الغربية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة الأميركية، مرّتين على التوالي، إلى التحرّك لسدّ مشكلة الإمداد العسكري-الأمني لإسرائيل:
المرة الأولى، في مواجهة «طوفان» الفلسطينيين وهجوم 7 أكتوبر واندفاع الجيش الإسرائيلي إلى الحرب البرّية في غزّة، وذلك استناداً إلى جسر جوّي-بحري تديره الإدارة الأميركيّة لإمداد الكيان الإسرائيلي بالسلاح والذخيرة بصورة متواصلة.
والمرّة الثانية، في مواجهة الإيرانيين، إذ قرّروا دخول المعركة لمعاقبة إسرائيل على تعرّضها لقادة الحرس الثوري في دمشق. واعتبر الأميركيون وأطلسيون آخرون أنه لا بدّ من تولي عملية التصدي لعاصفة الهجوم بالصواريخ والمُسيّرات الإيرانيّة على إسرائيل والتي تجاوزت محظوراً أميركياً.
وفي هذا السياق إيّاه، يجب أن لا ننسى عامل الهجرة الإسرائيليّة المعاكسة التي تطاول قطاعات ديناميّة من جيل الشباب تفتّش عن مناخات سلميّة للعيش ولكنّها تصطدم ببيئة فلسطينيّة وإقليميّة عالية التوتر نتيجة سياسة الاحتلال والاستيطان، من جهة، والاعتداء على الجوار العربي والإسلامي من جهة أخرى.
وهنا حدِّث ولا حرج عن أسطورة الردع الإسرائيلي وانكشافها تحت وطأة «طوفان الأقصى»، وهو الأمر الذي يقلب صورة إسرائيل من قاعدة متقدّمة للنفوذ الغربي في الشرق الأوسط إلى محميّة أميركيّة عاجزة عن قلب اتجاه الهجرة المعاكسة وسط تجذّر حركة التحرير الفلسطينيّة واشتداد العزلة الدولية لإسرائيل التي تتعرّض للمرّة الأولى للطعن في شرعيّتها أمام محكمة العدل الدولية.

* كاتب وصحافي لبناني