شهد ربع القرن الأخير تغيّرات عميقة في الواقع الدولي: من القيم والمفاهيم، إلى تعريف الصراع وموضوعه، إلى اللاعبين فيه وماهيتهم، إلى المعادلات التي تنبثق تباعاً. توزّعت أسباب هذا التحوّل بين موضوعي وسياقي استتباعي وإرادوي. ويمكن الادّعاء بأنّ 25 أيّار كان تعبيراً عن بداية مسار من التحوّل ستتوالى فصوله دونما توقّف. فالمتقاتلون فيه هم تعبيران عن تمخّض لمسارين نقيضين: المقاومة بما تمثّله من نموذج مكثّف للمشروع الإيماني التحرّري وأحد أبرز نواتجه التاريخية، والصهيونية بما تمثّله من خلاصة مكثّفة للمشروع الغربي بثقافته وقيمه «الحداثوية». الصراع هنا ليس سياسياً ولا عسكرياً فحسب، ولا اقتصادياً، إنّما في جوهره هو صراع على أصل منظور تفسير الحياة. هو صراع بين الوهم والحقيقة، بين الأخلاق والقوّة، بين إرادة الشعوب وتجاوزها، بين المادية والواقعية (ليس بالمعنى الغربي).بحث التحولات هذه أمر يسترعي التأمّل للأثر الخطير في حركة التاريخ ومساره المستجدّ:
- أولاً، خطاب المواطنة: بمعزل عن خلفية الطرح، يمكن اعتبار نظرية المواطنية، ومتلازماتها من خطاب الحرية والديموقراطية والحقوق والواجبات...، نقلة مهمة في مقاربة الغرب لنظرية الدولة والمجتمع الدولي. اعتبرها المرجعية الفكرية الضرورية واللازمة للتقدّم، فابتعد نوعاً ما عن مرجعيات معيارية سابقة كالعرق والقومية واللغة. إنّ هذا الانتقال بذاته (من التجسد المادي إلى الفكرة والثقافة) أمر مهم بمعزل عن إخفاقات التطبيق وتحيّزاته والغرض من الفكرة. فالفكرة والثقافة هما ما يميّز حركة التاريخ وتطوّره ويعطي قيمة ومعنى. لكنّ الغرب اصطدم بأمرين: هل خطاب المواطنة وتدويله سيلاقي السياسة -أي سياساتهم للقرن الجديد- أم سيكون عبئاً عليهم ويظهّر مفارقاتهم التاريخية ويساهم في تهافت طرحهم وإخفاق سياساتهم! وثانياً قدرتهم على تحديد ماهية الفكرة التي يتبنّون تعميمها ومدى انسجامها مع نظريتهم لنسبيّة القيم؟ الجميل أنّه بعد ثلاثة عقود بات حلفاؤهم من العرب والمسلمين هم الذين لا يؤمنون بالمواطنة وأعداؤهم وخصومهم هم الذين يأخذون برأي الشعب ويؤمنون بالإرادة الشعبية، وأهمّ حلفائهم هم الذين لا يعترفون بحق للشعب الفلسطيني في دولته بينما الذين يقاومون في سبيل تكريس ثنوية الحقوق والواجبات حيال أوطانهم هم أعداؤهم! هكذا وقعت المقاربة الثقافية الغربية ورؤيتهم السياسية الاستراتيجية للقرن المقبل (القرن الـ21) في مفارقة تاريخية غير مسبوقة.
- شهدنا حالة من التأرجح في رؤية الغرب والاضطراب في استخدام القوّة الخشنة والناعمة رغم ادعاء تكاملهما (الحرب الذكية). لم يهتد الغرب بعد إلى المنهج النظري لإعادة ترميم ذاته. يتحرّك بالمفرّق. أخيراً، لوحظ عودة عند بعض أعلامه لمنظور توينبي في التحدّي والاستجابة، لكن سرعان ما ظهر قصوره عن التماشي معها؛ فهل يمتلك القدرة على الاستجابة العالمية للتحدّيات، أم أنّ استجابته نسبية. بمعنى: مختلفةٌ باختلاف الساحات والثقافات، أم استجابة واحدة من خلال النموذج الأميركي الغربي؟ فتكون أميركا قد وقعت في المفارقة التاريخية بين فلسفتها النسبية واستجابتها الأُحادية لكل المشكلات، إلى أن وصل التشظّي إلى داخلها التي لم تعد هي ذاتها قادرة على أن تستجيب لأسئلته وحاجاته، خصوصاً بعد أن حلّ العالم فيها بعدما حاولت أن تحل فيه.
ترى الغرب يتأرجح ويتقلّب باحثاً عن «ركيزة» بينما الوقت يدهمه ويستفيق على حقائق محدودية «ركيزة» القوّة الصلبة وأثرها -وتلك النصف صلبة والناعمة- عن تحقيق أهدافه. «العصا» التي استخدمتها الحضارة الغربية في القرن الماضي تراجعت فعاليتها. و«الجزرة» لم تعد متوافرة حتّى لشعوبها قبل غيرهم. أمّا «النموذج»، فهو اليوم بالٍ بنظر شارعهم وليس فقط بنظر شعوب عندها ما يكفي من اعتداد بنفسها وتاريخها وتراثها وبدأت تنتج قصص انتصار وتقدّم. العالم بجميعه يرى اليوم نموذجاً غربياً يعاني أزمة إبداع في الخطاب واضطراباً في عرض القيم الحاملة له ويستغرق في مستوى الأتمتة والآلة والأداتية دون غيره من المستويات، وأقلّ ما يقال أنّه يحتاج إلى ثورة ثقافية غير متوافرة عناصرها ولا قيادتها ولن تتوافر.
- انقلاب في مجمل التصورات والقيم الغربية والنظرية: فبعد أن كان العالم يتّهم الغرب في النفاق كناتج الافتراق بين النظرية والتطبيق، بات اليوم يرى التشظّي والانقلاب على الذات، أي على النظرية. يكفي أن نراقب أهمّ أصلين من أصول الليبرالية والديموقراطية كيف ينقلب الغرب ونخبه عليهما:
الحرّية، تُقمع حتّى داخل حرم كبريات جامعاته التي عوّل على خرّيجيها ليكونوا سفراءه إلى الخارج. بل أصبح اليوم نخب الغرب ينظّرون لحرّية بفهم جديد؛ حرّية لا تقوم على أساس الفردانية بل للمجتمع ومؤسساته حرّياتها أيضاً. هكذا رأى فرانسيس فوكوياما الحرّية الغربية أخيراً. بينما يقوم الاتحاد الأوروبي بتسويغ وضع يده على الأصول الروسية وليس فقط تجميدها أو استثمارها باعتبار أنّها ملك بوتين شخصياً ونظامه وليست ملك الشعب الروسي، متجاوزين الحق الأوّل للإنسان بزعمهم، أي حق التملك، والذي بني عليه النظام الغربي برمّته.
أمّا الديمقراطية الليبرالية، التي افترض أنّها نهاية التاريخ، فتراه هو نفسه يعيد النظر فيها بعدما تعثّرت في الغرب وشهد العالم تراجعاً في تبنّيها وفق النموذج الغربي. ولعلّ الانتخابات التي تجري اليوم في الغرب بقي منها الأسلوب أو الطريقة (الديموقراطية) وذهبت الفلسفة فيها أدراج الرياح خصوصاً في ما يسمّى دول الديموقراطيات العريقة.
- ينتقل العالم في رؤاه ومنظومته القيمية إلى إعادة النظر في العلمانية: حتّى الغرب نفسه تراه يتنكّر اليوم بزيّ العلمانية لكنّه لم ولن يقبل بانضمام دولة بأكثرية إسلامية إلى فضائه رغم كل محاولات تركيا ودأبها لنيل زعيمها هذا «الشرف». بل الاتجاه العام هو لإبعادها والحفاظ على النقاء المسيحي، أو بكلمة أدق العلمانية المسيحية.
- أمّا محورية الصراع وفهمه، فتنتقل تدريجياً من موضوعة القوّة المادية التي حكمت المدارس السياسية في الغرب منذ الحرب العالمية الأولى مع المدارس الواقعية إلى ما هو جديد. وكما يظهر تباعاً، فالصراع في حقيقته صار على الكرامة الإنسانية والعدالة؛ الاقتصاد والسياسة والحقوق ليست مطلوبة بذاتها بل هي مطلوبة لعلاقتها بكرامة الإنسان. الكرامة هي ذاك الموضوع الذي يشقّ علينا تعريفه نظرياً لكنّنا نعيشه ونحسّه. والشعور بالمشاركة والتقرير جزء أساسي في كرامته، والتحرّر السياسي للفرد والمجتمع ربّما يفوق الاجتماعي والاقتصادي. فهل يدرك الغرب هذا التحول؟ وهل فهم بالضبط غاية خطاب المقاومة؟
- وليس آخراً، فإنّ الغرب ونظريته، فضلاً عن استراتيجياته، قد قامت على موضوعة الدولة، فالديموقراطية لا يمكن تعريفها إلا على قاعدة الدولة، والمجتمع المدني أيضاً، والأمن مرتكزه وقاعدته الدولة، وتعريف الهوية والذات والآخر يمرّ عبر الدولة - فما العمل بينما بعض اتجاهات الغرب وسلوكه يجرّ القاطرة إلى الحوكمة بديلاً عن الحكومة فيضعف ما هو سياسي، ويعيد نقض الهوية وعناصرها بإخراجها عن الثابت الجغرافي إلى العولمي. وماذا عن تماسك الدولة فيما المجتمع يتشظّى. المشكلة التي فعّلها الغرب ذات يوم في حركته التوسّعية عند الآخرين ليُباعد بين المجتمع والدولة ويعمّق أزمة الهوية المجتمعية ويفكك وحدتها باستثارة التناقضات، تراه يعاني هو منها اليوم ويتجرّع غصتها، مع فارق مهم أنّه بينما نحن نمتلك بعض الحصانات المنبثقة من التقاليد والدين والقيم الإنسانية يخوض هو المواجهة بافتقاده لكثير من ذلك.
أمّا من يرى أنّ العقلانية ستكون معبره المتجدد لتجاوز أزماته، فيجب أن يتذكّر أنّ الغرب محكوم للاعقلانية؛ العقلانية تعاني هجوماً ضارياً (الهجوم على العقل) منذ عقود. النزعة المادية لا يمكن أن تقبل أن تعيش مع العقلانية على سقف واحد. هذا بعض ممّا يواجهه الغرب، ويشير إلى أنّه مسار مفتوح يتطلّب الخروجُ منه الاعتراف بمحدودية نموذجه ومحدودية مقبوليته عند الآخرين واضطراب منظومته القيمية وعدم اتّساقها مع سياسته العالمية.

* باحث لبناني