في الجدل السياسي اللبناني، تتضافر أسباب عديدة تهبط بهذا الجدل إلى مدارك غير بنّاءة وغير نافعة، منها الطائفية، والشعبوية...وصولاً إلى الاستلاب للخارج. وبمعزل عن مجمل تلك الأسباب وغيرها، سيكون من المجدي مقاربة قضية ترابط الجبهات (وحدة الساحات) في الحرب الدائرة حالياً في المنطقة مع الكيان الإسرائيلي، لكن من زاوية الأمن القومي اللبناني ومصالحه.في هذا الموضوع قد نجد رأيين اثنين:
الأول، النأي بالنفس عمّا يجري في فلسطين والمنطقة، بهدف عدم تعريض لبنان لمخاطر الانخراط في الحرب مع إسرائيل.
الثاني، الانخراط في مواجهة إسرائيل، ليس فقط نصرةً لغزة، وإنّما أيضاً لمنع إسرائيل من تحقيق انتصار قد تستثمره على مستوى المنطقة في لبنان وغيره.
بناءً على هذا الاتجاه الثاني، فإنّ الانخراط الحالي في مواجهة الكيان الإسرائيلي هو مصلحة لبنانية، كما هو مصلحة فلسطينية، وعربية، وقومية، وإسلامية، ومسيحية... وسيكون لهذه الحرب كلفتها، لكن إن نظرنا إليها من زاوية الأمن القومي اللبناني فقد نجد من مستلزمات هذا الأمن الانخراط في مواجهة هذا الكيان وحربه على فلسطين.
وبيان ذلك في بُعدين: بُعد عامّ، وبُعد خاصّ.
في البُعد العامّ، لا بدّ من القول: إنّ جوهر فكرة ترابط الجبهات وتوحيد الساحات هو جوهر عقلاني، يقوم على السعي إلى استجماع جميع عناصر القوّة المتاحة في مواجهة تهديد مشترك؛ فعندما تكون هناك جهات متعددة تواجه تهديداً مشتركاً، سيكون من المنطقي والعقلاني أن تسعى هذه الجهات إلى التعاون في ما بينها، بل والتحالف، لمواجهة هذا التهديد المشترك، وخصوصاً عندما يكون التهديد خطيراً وكبيراً، وهذا ما مارسته الدول في التاريخ، وفي الحرب العالمية الثانية في مواجهة ألمانيا النازية، وهذا ما تفعله الولايات المتحدة الأميركية عندما تواجه تهديداً ما، وهذا ما يفعله الكيان الإسرائيلي نفسه في مواجهته للمقاومة ومحورها في المنطقة.
وعليه، لا نحتاج إلى كثير بيان في البُعد العامّ لوضوح مدى عقلانيتها وجدوائيتها، بمعزل عن تفصيل أو آخر فيها.
أمّا في البُعد الخاصّ، فتوجد مجموعة من الدول والقوى العربية والإسلامية في المنطقة، ترى في الكيان الإسرائيلي تهديداً مشتركاً، من حيث كونه كياناً عدوانياً، توسعياً، احتلالياً، مدعوماً من الولايات المتحدة والغرب عامّة. وإنّ ما يقرب من الثمانين عاماً من عمر هذا الكيان، وما انطوت عليه من أحداث ومجازر وحروب، مدّة كافية لتأكيد طبيعته العدوانية، بما في ذلك حرب الإبادة الحالية في فلسطين المحتلة. ولذا، من حقّ -بل من واجب- جميع الدول والقوى والجهات -بما فيها لبنان ومقاومته- التي تستشعر الخطر من هذا الكيان وتهديداته المختلفة، أن تتعاون في ما بينها، وأن تسعى لاستجماع جميع عناصر القوة لديها لدرء تلك التهديدات، والعمل على إزالتها وتحييدها، حيث إنّ العمل على مواجهة تلك التهديدات كجبهة واحدة، يعدّ من أهم العوامل التي تساعد تلك الدول والقوى على تحقيق جملة من أهدافها ومصالحها، والتي منها: (1) تحقيق مستوى أعلى من ردع هذا الكيان وعدوانيته (2) عدم السّماح له بالاستفراد بأي جبهة على حدة (3) منعه من تحقيق أي انتصار على أيّ من الجبهات (4) التأسيس لإلحاق الهزيمة به، وإيصاله إلى حالة من الانسداد الوجودي أمام عدوانيّته واحتلاله.
وهذا ما يخدم أمن ومصالح جميع تلك القوى والدول، بما فيها لبنان، الذي من مصلحته: إضعاف الكيان الإسرائيلي، وأن يخرج مهزوماً من حربه الحالية، وأن يصل إلى حالة من العجز البنيوي عن تحقيق أهدافه في هذه الحروب وفي غيرها. ومن مصلحته: أن يرفع قوة الردع لديه إلى أعلى مستوى ممكن، وأن تكون جميع قوى المقاومة في المنطقة -بل والعالم- إلى جانبه في مواجهة التهديدات الإسرائيلية له.
وهنا السؤال: ألا يخدم ترابطُ الجبهات ردعَ العدو الإسرائيلي أكثر في مواجهة عدوانه المستديم على لبنان؟ ألا يمنع هذا العدوّ من الاستفراد بلبنان؟ ألا يمنح الدولة مزيداً من أوراق القوة لتحقيق المصلحة اللبنانية؟ ألا ترفد الجبهات الأخرى -في حال الترابط- الأمن القومي اللبناني بالمزيد من عناصر القوة وعواملها؟ ألا يساعد توحيد الجبهات لبنان على تحرير أرضه، وحماية سيادته، وتحصيل حقوقه، وكفّ التهديد عنه؟ ألا يرفع مستويات الردع للبنان ومقاومته إلى مديات غير مسبوقة تُسهم في كبح التهديد الإسرائيلي له؟ ألا يخدم لبنان وقوّته، وقدرته على إلحاق الهزيمة بالعدو الإسرائيلي، أو إفشال أهدافه، إذا ما تعرّضلأي عدوان جديد من قبل هذا الكيان؟
وعليه، إذا نظرنا إلى المصلحة اللبنانية، من دون استلاب أو استتباع أو مؤثّرات خارجية، فسنجد أن مصلحة لبنان وأمنه القومي أن يستجمع جميع عوامل القوّة في مواجهة الكيان الإسرائيلي وأطماعه وعدوانه ووحشيّته واحتلاله، حيث سيكون ترابط الجبهات من أهم تعابير هذه السياسة، وما يخدم أهدافها، وحيث سيكون توحيد الدفاع، على مستوى قوى المقاومة، من أهم العوامل التي ستخدم بقوة استراتيجية الدفاع عن لبنان ومصالحه وأمنه القومي في مواجهة التهديدات الإسرائيلية.
صحيح أنّ استراتيجية التوحيد هذه قد تجعل لبنان يدفع أثماناً ما، عندما تتعرّض أي جهة أو جبهة من الجبهات الأخرى للمقاومة للعدوان، لكن هذه الاستراتيجية ستمنحه، في المقابل، العديد من الميزات وأوراق القوّة وعواملها، عندما يتعرّض للعدوان، حيث لن يبقى لبنان مستفرداً به من ذلك الكيان وداعميه، وستشكّل جميع جبهات الإسناد في المنطقة عامل دعم للبنان وجبهته وموقفه، وعامل ضغط على الكيان الإسرائيلي وداعميه. وهو ما سيدعم بقوة الموقف اللبناني في مواجهة التهديدات الإسرائيلية على اختلافها. وهو ما سيخدم أيضاً المصلحة اللبنانية، ليس فقط على المستوى العسكري والأمني، بل على المستوى السياسي والاقتصادي.
وهذا ما قد يلمسه الجميع في الحرب الدائرة حالياً، وتحديداً عندما نلحظ الأثر الكبير والدور المهم الذي قامت به جبهات الإسناد للمقاومة الفلسطينيّة على مستوى المنطقة في مواجهة العدوانيّة الإسرائيليّة؛ فكيف سيكون الحال في ما لو كان العدوان على لبنان، وكانت المواجهة الأقوى بين المقاومة في لبنان، من جهة، وهذا الكيان وداعميه من جهة أخرى؟
وإن قيل إنّ ترابط الجبهات هذا قد يغري أكثر الكيان الإسرائيلي بالعدوان على لبنان، فالجواب:
أوّلاً، إنّ الأطماع الإسرائيلية قد لا تحتاج إلى ما يغريها بالعدوان، وإنّ العدوانيّة المتأصّلة في الكيان لا تحتاج إلى سبب لممارسة الإجرام.
ثانياً: إنّ وجود الردع ليس عامل إغراء بالعدوان، بل هو سبب للجم العدوان وكبحه، وخصوصاً عندما يرتقي هذا الردع إلى مديات غير مسبوقة، وهو ما أثبتته التجارب المديدة مع هذا العدو.
نعم، ما قد يساعد على العدوان هو ضعف الردع وتراجعه، أمّا تصعيد الردع، والارتقاء به -بما في ذلك توحيد الجبهات- فلا شكّ أنّ ذلك سيضيف المزيد من الأسباب لتعطيل العدوان الإسرائيلي، أو جعله أشدّ صعوبة وأكثر كلفة.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية