في مقدّمة الثلاثية (الإصدارات الجديدة للكاتب تحت عنوان «زيارة جديدة لتاريخ عربي»: «عبد الناصر كما حكم» (كتاب من جزءَين) و«البعث كما حكم») إجابةٌ على سؤال كيف تخلّقت، لكن الأهمّ هنا هو سؤال: ماذا ابتغت؟ لمَ؟ لأن موضوعيها: ناصر و«البعث»، ما فتئا ماثلَين أمامنا ولابثَين معنا، لا كفعل ماضٍ بل كمضارعٍ، لا بل وكمستقبل. كمُّ ما خطّه كثرٌ حولهما مهول، اختلط فيه الغث بالثمين؛ مع غلبة نسبية للأول، سواء لجهة النقصان أو البهتان أو التزوير والاختلاق.في المقابل، طفت فوق سطح الحوار العربي العام على مدار العقود الستة إلى السبعة الفائتة، بل وانغرزت في ثناياه، ظاهرتان ناشزتان: واحدةٌ نحَت إلى التقديس، مستبطنةً منه وفيه سبيلاً لصدّ غائلة المعتدين على رموز متبنّيها. وأخرى سعت إلى التجريح والنَّيل من رموزٍ عادتْها، وسيلةً لتصفية الحساب معها، من جهة، ولدرء عودة انبعاث رسالاتها، من جهة أخرى.
عندي أن الظاهرة الأولى تأخذ من رصيد تلك الرموز ولا تضيف إليها؛ ثم هي لا تُقنع أجيالاً لم تعاصرها، أي الرموز، أو تعرف عنها ما استحقّت. أمّا الثانية، فصادحةٌ صراخاً وتجديفاً؛ وإنْ أثبتت شيئاً فالحاجة أن تكون مقاربة المسائل، رموزاً ونهوجاً ومسارات، موضوعيةً كفاية وإنْ منحازة، فذلك ما يضع كل ذي مأرب في جحره.
يعرفني الجميع قومياً عربياً دون سابق - أو لاحق - انخراطٍ حزبي، وأعرِف نفسي حريصاً على أمانة تفكيري وصدقية تحليلي ما استطعت. دفعني كل ما سبق إلى الانتقال من الردّ والتعليق والمقال - عبر ربع قرن - إلى الكتاب، كونه الأقدر على أن يكون وعاء تحليل وصفيٍ مركّز. ولعلّ ما دفعني لانتظارٍ طال عن المتوقّع كان تفضيلي صدور مؤلّف «الأوراق الخاصة لجمال عبد الناصر»، بكتبه الستة، ليقيني بتوفّرها على دواخل لازمة؛ وبعزم استنطاق بعضها، عالي النوعية، في جدلية دالّة، تمفصلت فيها مع ما خطَّطت. صحيح أنها الأوراق الخاصّة، وليست الأرشيف الرئاسي أو الدبلوماسي أو العسكري لمصر، إلّا أنها وفَت بالغرض على خير ما يرام.
وطبيعي أن يقارب جزءا عبد الناصر التسعمئة صفحة، وأن يقترب جزء «البعث» من خمسمئة صفحة، فقد حفَل أحد الأوّلَين بمادّة متراكبة على، ومتصلة بـ، موضوعات البعث؛ فضلاً عن مركزية دور الرجل في حياة العرب عبر سنوات 55-70، وما انفكّ يلوح.
لقد شاعت طويلاً مقولة أن واحداً من أبرز خصائص العرب تبارز دور الفرد غلّاباً ومهيمناً على صنع الحوادث وسيرها، قياساً لباقي الأمم – وفي الغرب خاصة– والتي يخفُت فيها دور الأفراد لصالح المؤسّسات، فلا تعرف السياسات تبديلاً إلا بتبدّل بُنى المؤسّسات – بالانتخاب – لا بصعود أو هبوط فردٍ مهما علت قيمته أو شمخت قامته... أو هكذا الشائع!
لكنّ استعراضاً سريعاً لتاريخ أفراد طبعوا القرن العشرين ببصماتهم يرى أي ناظر كيف كان لروزفلت الأميركي، وستالين السوفياتي، وتشرشل البريطاني، وماو تسي تونغ الصيني، وديغول الفرنسي، وتيتو اليوغوسلافي، أكبر الأثر في صنع التاريخ وفق رؤاهم، وكيف أن نهج جلّهم تبدّل، وفق زوايا تباينَ انفراجها وتَفاوتَ أوقات قربها أو بعدها، بغيابهم عن المشهد.
لقد استطاع روزفلت، بجلَد مشهود، أن يرسي عقداً اجتماعياً جديداً في أميركا، والتي اعتادت قبله على نهج آدم سميث دون قيد أو شرط، ثم انكبّ على تغيير مزاج أمّته الانعزالي ليلج بها الى حرب كونية وفق توقيتاته التي استوفت شرط وصول حليفه البريطاني إلى حافة الجثو توسّلاً لإنقاذه.
في حالة ستالين، فلقد بنى قاعدة صناعية وعلمية نقلت الاتحاد السوفياتي من تخلف نسبي بالقياس لأوروبا إلى مشروع ندّ بامتياز، ثم داس بأقدام أمنه كل معارضٍ أو احتماله بقسوة لم تأبه بالثمن الإنساني مهما غلا. لم تمض أعوام ثلاثة على رحيله إلّا ووجدنا نهجه قد تعرّض لا للتغيير فقط وإنما للتشهير، وعلى يد صنائعه من أعوان.
طفت فوق سطح الحوار العربي العام على مدار العقود الستة إلى السبعة الفائتة ظاهرتان ناشزتان: واحدةٌ نحَت إلى التقديس وأخرى سعت إلى التجريح والنَّيل


أما تيتو، فقصة بذاتها: لقد وحّد سلافاً متبايني الإثنيات في كينونة سلافية (مع إضافة تركية-ألبانية مسلمة) ظنّها استقرّت على مبدأ الوحدة معه بل وبعده، لكنّ عقداً لم يمضِ على رحيله إلّا وتبعثرت تلك الكينونة أشلاءً وتلاشت مِزقاً.
وديغول الذي استهلّ عودته للحكم، عام 58، بشنِّ أعتى حرب مسلّحة على ثورة الجزائر، أوصلتها إلى الهزيمة العسكرية مع بدء العشرية السابعة من القرن، كان ذاته من عرف حدود الفوز مفضّلاً استبدال الاحتلال العسكري بثقافيٍّ استلب الهوية ووعي الذات. تعرّض للاغتيال مرّتين من متطرّفي بلاده، ومن كولونها الجزائري، دون أن يُلين ذلك عريكته أو يفتَّ من عضد عزمه على إخراج فرنسا من وهدة الاحتلال، لا بل مضى لينأى بها عن مظلة الأطلسي وتبعاته مفضّلاً استقلالية متعاظمة مسنودةً بظهير أوروبي، ثم ليتناءى عن ربيبٍ كان ذات يوم رفيق سلاح - أي إسرائيل - اعترافاً منه بحقائق القوة العربية ووعدها، فقطع إمدادات السلاح عن الربيب إلى حين خروجه من الحكم، ربيع 69.
أمّا ماوتسي تونغ، الذي له في تاريخ الصين الحديثة مثلما لستالين في روسيا، فما إن رحل عن الدنيا إلّا وكان الخروج عن النهج في الإِثر عبر ضرب ما دعي بعصابة الأربعة، وبضمنها أرملته. والشاهد أن الصين بعده غير ما كانت عليه أيّامه، وإن بقي احترام رمزيته التاريخية محفوظاً.
ثم هناك تشرشل، الذي، بمفرده تقريباً، استطاع تغيير مزاج المؤسّسة البريطانية من عدم الاشتباك مع ألمانيا بين الحربين، بل والسعي إلى تفاهم معها - دعك عن استبطان رغبة تحالف عند بعض شرائحها، أي المؤسّسة – إلى الانخراط في حرب ضروس ضدها وفق معادلة صفرية لا تقبل التهاود. تَغيّر النهج بتشرشل من «السلام في أوقاتنا» إلى «الحرب الآن الآن وليس غداً». والحال أن ملهم «الديموقراطيين» العرب - تشرشل - ارتكب حماقة زجّ بلاده بحرب ضد ألمانيا، عام 39، فتردّت من إمبراطورية إلى دولة من الدرجة الثانية إثرها. في المقابل، فإنّ المستبدّ النموذج - ستالين - فاز فوزاً مبيناً في «الحرب الوطنية العظمى»، بازّاً به كل مجايليه من الديموقراطيين.
وأمّا أن الديمقراطية كانت ستقي عبد الناصر من الهزيمة، فهو لعمري من محرّكات الشجن: أظنّ بول رينو، رئيس وزراء فرنسا، عام 40، كان ديموقراطياً حينما سُحقت عظام دولته تحت جحافل النازي، وأظنّ تشرشل كان ديموقراطياً عندما خرجت فلول قواته من دنكرك، ذات العام، وهو يبشّر بالدم والعرق والدموع دفاعاً عن الجزيرة البريطانية، ولا أعرف ترومان إلّا ديموقراطياً عندما هُزم في كوريا، عام 50، وجونسون سليلاً لروزفلت عندما انكسر في فييتنام، بدءاً بشباط 68. لا علاقة طردية بين الديموقراطية والنصر، ولا عكسية بين الشمولية والهزيمة. تلك مسألة تحكمها حسابات القدرة والتنظيم والمعلومات والحلفاء والمسرح، وليس ما يرطن به ليبراليون جدد، ولا سيّما من شبّوا على الشيوعية ثم اكتهلوا في رحاب القصور والمخابرات... فنالوا الحسنَيين.
في كل تلك الحالات، كان لمغادرة أولئك العظام مسارح بلدانهم وأقاليمها والعالم، بالموت أو بالتغييب أو بالتقاعد، وقع مهولٌ في نفوس بني أوطانهم، بل والبشرية جمعاء في حالة بعضهم. لكن الوقع لم يتطور إلى يُتمٍ إلّا في حالة العرب مع... جمال عبد الناصر. فرادة حالة عبد الناصر حاكماً لوطن من أوطان أمّته، وقائداً لأمّة عابرة لتلك الأوطان، متخطّياً سلطات حاكميها، استحقّت وقفةً محمّلة بالدلالات:
- إنّه المصري الأول الذي خرج من حدوده، بعد انحباس داخل تلك الحدود دام قرناً وسدسَه، متوجّهاً شطر الشام. ثم انداح سلطان قيادته عبر العالم العربي كلّه متجاوزاً سُلط أقطاره، لا بالقسر بل بالنداء، ولحينٍ استمر خمسة عشر عاماً (55-70) لم تستطع حتى هزيمة 67 أن تبتره كما أمِل شانّوها. هو الذي أتى بمصر إلى العروبة وأدخل العروبة إلى مصر.
- إنه في انتشاره العربي ارتطم بحائط صلد من عداء الإمبرياليتين، القديمة منها والجديدة، عداءٌ راوحت موجاته وأساليبه وأدواته، لكنها كلها أجمعت على طلب رأسه، لِما في داخل ذاك الرأس من مشروع نهضة وتوحيد ربَط القطري بالقومي.
- إن اختلال موازين القوى بين قدرات مصرِه وتلك القوى كان كفيلاً في نهاية المطاف بإضعافه بالنقاط، ثم طرحه أرضاً بما لاح وكأنه ضربة شبه قاضية.
- إن قلّة خبرة المصريين (وهم من طال قبوعهم داخل حوض الوادي ما ناف عن قرن) في شؤون محيطهم العربي ساهمت في سوء إدارة ملفّات خاض فيها عبد الناصر بصائب عزم.
- إنه قاد انقلاباً عسكرياً تحوّل، من فوق، إلى مشروع ثورةٍ لم تكتمل نصاباً، لا بل وأخذها هادمٌ من صلب نسيج بانيها إلى تلاشٍ مريع بعد زهاء عقدين. صحيحٌ أن عبد الناصر من أصول عسكرية، لكن الجيش لم يكن الحاكم، برغم تبارز جيب قيادته في حشايا النظام حتى الهزيمة، وتصفيته إثرها. ولعل من سقيم ما قيل وما زال أن «عسكر دولة يوليو» قد قبضوا على زمام مصر لعقود سبعة، فيما الحقيقة أن نظام - لا مشروع - عبد الناصر قد دالَ منذ يوم 7 نوفمبر 1973، وكل ما لحق ذلك التاريخ، ولتاريخه، هو من جنس الثورة المضادة ليوليو برمّته؛ فانثالت الأنورية.
لجهة «البعث»؛ ليس من حزب لعب دوراً قومياً فارقاً، ما بين النكبة والوحدة، أكبر من دور «البعث»، هذا أولاً. وثانياً، فهو من كان له كبير الدور في الدفع لقيام وحدة مصرية-سورية. لكن الأهم أنه حكم قطرين متلاصقين لما مجموعه 35,5 سنة
في العراق، ولما ينوف عن ستة عقود، وما زال، في سوريا. وعليه، فتناولٌ رزين لكل تلك الأدوار، من دون عسفٍ ولا تماه، هو غبّ الطلب. ولعمري كمِ الموضوع معقدٌ، لِما حدث لـ«البعث» من انفجارات وتشظّيات جعلت منه أبعاثاً أو أحزاب بعثٍ، لا واحداً.
ففي العراق، قفز إلى الحكم لشهور تسعة من عام 63، ففتكت عصابةٌ متنفّذة فيه بمشروع الوحدة الثلاثية - بالتعاون مع عناصر سورية مناظرة - وحملت السلاح في الشمال فيما علاقتها بمورّده السوفياتي في الحضيض، لِما رآه من عصفٍ بحليفه الشيوعي المحلّي؛ ثم تصادمت مع الفئة المتعقّلة في الحزب فطار الحكم من أيدي كليهما في طرفة عين. انشطر بعث العراق حينها شطرين، قبل أن ينشطر ثانيةً على نسق الشقيق السوري، في شباط 66، فما عاد هناك بعث واحد مذّاك. أحد أحزابه، القريبة من القيادة القومية، والتي انقلب عليها أهل «شباط»، استأنف القبض على الحكم، صيف عام 68، واستدامته لِما ناف عن ثلث قرن، ولكن عبر مرحلتين: ثنائي البكر - صدام، ثم صدام وحده. خلال النصف الثاني من طورها الأول، بلغ العراق ذروة من نموّ وتقدّم لم يعهدهما من قبل، لكن طوره الثاني ما لبث أن تسبّب، بنسبة غالبة، في نكبتين: الحرب مع إيران، وغزو الكويت؛ ما كفل انتفاع «المهيمن» الكوني من الحماقتين أيّما انتفاع، مكّنه تلواً من احتلال العراق وإسقاط «البعث».
أمّا في سوريا، فقد انفجر «البعث» إلى شظايا أربع على وقع حدث الانفصال الملعون: قومي وقطري واشتراكي ووحدوي، ناهيك بعسكري، لكنّ خلطةً من عسكريين وبعض قوميين ووحدويين بعثيين، حالفت ناصريين، بغية إسقاط الانفصال، فوصلوا معاً إلى يوم 8 آذار 83 (واليوم نحن - دون قصد - في ذكراه الواحدة والستين).
لم تطل مرحلة الائتلاف البعثي - الناصري سوى بضعة أشهرٍ، انتهت بصدام مسلّح فاز فيه «البعث»، المتعدد الأجنحة، وأفضى إلى وأد مشروع الوحدة الثلاثية، وانفراد الأخير بالحكم. لكنه سرعان ما لفظ متمركسيه على خلفية دورهم في سقوطه العراقي، في نوفمبر 63، ثم راح، عبر سنوات ثلاث من حكمه، طغت فيها مظاهر التشقّق إلى قومي وقطري وعسكري، يخبط خبطَ عشواء في الداخل والخارج.
تحالف العسكري والقطري على لفظ القومي في ذلك «الشباط»، الذي امتدّ عهده سنوات أربعاً، داهمته، وغيره، في ثانيها، هزيمة حزيران، فأفضت إلى تباينٍ متصاعد بين أجندتين راديكالية واعتدالية، استعر أواره عبر عامي 68-70، ولم يُحسم إلّا حين غاب كابحه: عبد الناصر.
ولعل المرحلة الأطول والأهمّ للبعث السوري هي عقود الأسد الأب الثلاثة؛ فيها شنّ رئيس سوري الحرب على إسرائيل. حالف السوفيات استراتيجياً وتقاطع مع الأميركيين تكتيكياً. بنى بنىً تحتية بالطول والعرض. حاول ضبّ «الشام» تحت جنحيه: الأخ الأكبر، فنجح لبنانياً ولم ينجح أردنياً أو فلسطينياً. حاول الوحدة مع العراق فلم يستطع سبيلاً. ظنّ بمصر-أنور شريكاً في الحرب والسلم فأثخن الأخير به طعناً. حالف إيران بديلاً عن مصر الأنورية دون أن تذهب علاقاته الخليجية تحت الماء. قاتله «الإخوان» - مؤيَّدين بقوى الإقليم - ففتك بهم. رعى المقاومات رهاناً على خوضها حرباً خارج الأسوار لصالحها وصالحه. وأيضاً هناك شفان عروق نظامه في الداخل خلال عقده الثالث... وذلك غيض من فيض.
أختم بالقول: هي محاولة فيها جِدّةٌ وجدّية، زارت تاريخاً عربياً ليس ببعيد، ووفق مقاربةٍ بعضُ ما فيها صادمٌ بما نفع. كل ما أرجوه منها ولها، قراءةٌ هادئةٌ ونقدٌ رصين.

* كلمة للكاتب، الموسوعي العربي كمال خلف الطويل، في مناسبة إطلاق ثلاثيّته «زيارة جديدة لتاريخ عربي»: «عبد الناصر كما حكم» (من جزءين) و«البعث كما حكم»، ألقاها في خلال حفل توقيع نظّمه أمس في بيروت ناشر الثلاثيّة «مركز دراسات الوحدة العربية»