ربما كان الاعتراض الأخير من بعض الجهات اللبنانية على إعلان لبنان مشاركته حكومة وشعباً في الإضراب العالمي تضامناً مع غزة، هو أحد الأشكال المعبّرة بوضوح عن حجم التناقض في عواطف ومواقف اللبنانيين إزاء ما يجري في فلسطين المحتلة منذ نحو شهرين ونيف.هذا التعارض على هذا الشكل الراقي من التضامن العالمي يمكن اعتباره هبوطاً إنسانياً كبيراً وأخلاقياً خطيراً في سياق عام، بدأ منذ تم رفض التعاطف حين بدأ تنفيذ عملية «طوفان الأقصى» في غزة وما تلاها من عمليات إبادة مستمرة.
مع العلم أن هذا الفريق نفسه كان حريصاً أن يكون حاضراً في التضامن مع دول عديدة في مصائبها؛ في فرنسا عندما ضربها الإرهاب واستهدف مجلة «شارلي أيبدو» عام 2015، وكذلك عندما احترقت كاتدرائية نوتردام دي باري عام 2019.
لقد أصرّ هذا الفريق على أن يكون غير مُحتفٍ بعملية 7 تشرين الأول، التي اعتبرها المحتفون إيذاناً بتحرير فلسطين وإيقاظاً للقضية الفلسطينية بعدما انتهت إلى ثلاجة أوسلو والسلطة الفلسطينية المرتهنة، وكذلك بعدما غيّبتها كلياً مشاريع التطبيع التي أخذت طابعاً دينياً من خلال الاتفاقات «الإبراهيمية» لمعظم دول الجوار العربي، بعدما رهنت الأردن ومصر باتفاقيات الاستسلام تحت عناوين السلام، فيما اعتبرت سوريا، وكذلك لبنان، العاصيين الوحيدين.
غير المحتفين هؤلاء، كانوا أيضاً غاضبين ضمناً، بعدما تبلورت الأجواء عن انحسار كل ما وعدت دولة الاحتلال نفسها به أخيراً، من خلال هيمنتها على الاقتصاد التكنولوجي في دول المنطقة، وكذلك استعداداتها لتكون مرفأ المنطقة حيث عبور التجارة العالمية بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهو الرد الأميركي على مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، كما وعد هذا أصحاب العقول الضعيفة بالسلام المنشود. وهؤلاء الغاضبون جميعاً، لم يغيّروا شيئاً من مواعيد مهرجاناتهم أو احتفالاتهم بالإنسان وكذلك الحيوان، غافلين عن أطنان البارود والمتفجّرات التي تُرمى على غزة وما تخلّفه من تدمير ومجازر، وهذا الكلام ينطبق على اللبنانيين وكذلك المشيخات الخليجية.
لقد خلطت العملية الأوراق، وفرملت اتجاهات التطبيع في المنطقة، وأوقفت المهرولين إلى ما يعتبرونه سلاماً منشوداً، لو سألوا عنه مصر ومعبرها، والأردن والغور، والضفة وسلطة أوسلو، المقيّدة بالمساندة أمنياً لسلطة الاحتلال، فيما الاعتقالات وأعداد الشهداء تتزايد وإفراغ الأحياء بالاستيطان يسير قدماً.
هؤلاء جميعاً، هالتهم إعادة إحياء قضية فلسطين على طاولة التفاوض مجدداً، ولكنّ الثمن كان غالياً جداً. هيروشيما جديدة، لم تُبْقِ بناء أو مستشفى أو دار عبادة مسيحية أو محمدية.
في ظل هذا المشهد كان لبنانيون أيضاً، على حدود فلسطين، يعيشون أجواء حرب ونزوح وشهادة، ورغم ذلك استمرت لامبالاة البعض ورفض التعاطف، حتى مع أبناء كيانهم الواحد.
الحجة التي علّل بها هؤلاء سلوكهم أنهم مع «ثقافة الحياة» بمواجهة «ثقافة الموت». هذا بالنسبة إلى لبنان، أمّا بالنسبة إلى التعاطف مع الغزيين، فقد علّلوا موقفهم بالموقف السلبي من الفلسطينيين خلال وجودهم في لبنان، ويربطونه بالذاكرة المجتمعية، والارتكابات التي تمّت سابقاً أثناء الحرب الأهلية التي عاشها لبنان لسنوات.
يغفل هؤلاء أن إرادة مقاومة المحتل، ما من مرة في تاريخ الشعوب كانت ثقافة الموت، بل هي كما قالها أنطون سعادة: إننا نحب الموت متى كان الموت طريقاً للحياة. إنها المقاومة التي تحرر الأوطان، وهذا سياق تعرفه كل الأمم الحية في التاريخ، ها هي الجزائر تدفع ثمن استقلالها مليوني شهيد، وفييتنام تقاوم وتهزم المحتل بعظمته، واليوم أيضاً ها هي دول أفريقية عديدة تنقضّ على المستعمر الفرنسي وتحرر نفسها منه. وكذلك جنوب أفريقيا تحرّر نفسها من استعمار بريطاني ومن نظام عنصري استمر طويلاً إلى أن تحرّرت منه فأصبحت نموذجاً.
أمّا على صعيد ما دعوه رفض مخالفة الذاكرة المجتمعية التي لم تنسَ بعد ارتكابات الفلسطينيين، فهذا أمر يلزمه نقاش، في البداية، لا بد من تحديد من هو مسبّب الوجود الفلسطيني في لبنان. وهو لجأ إلى لبنان بعد احتلال أرضه وعلى أمل العودة سريعاً بموجب القانون 194 الذي أقرّته الأمم المتحدة، ولم تنفذه دولة الاحتلال كعادتها في عدم تنفيذ القوانين الدولية، وهو نهجها المستمر إلى الآن.
أمّا بالنسبة إلى ما يدّعونه بارتكابات الفلسطينيين وأن يأتي على لسان أفراد من عائلات أمراء الحرب اللبنانية، أو المهتمّين بالعمالة والارتهان للعدو أو مشاريعه إلى الآن، فهذا ما يستحق الحوار. كأن يقول البعض منهم، كيف تتعاطف مع من سبّب مجازر وجرائم في لبنان. هذا يسمح لنا بالقول، إنه لم يُكتب إلى الآن تاريخ الحرب الأهلية، من منطلق سياسة لا غالب ولا مغلوب التي يتقنها أهل هذا النظام السياسي، ما يجعل التاريخ توافقياً حتى على التناقضات. ولا بد من الإشارة إلى دور أمراء هذه الحرب في قتل الفلسطينيين من كوع الكحالة إلى كنيسة عين الرمانة، إلى مخيمات تل الزعتر وجسر الباشا وضبيه، ثم مجازر صبرا وشاتيلا...
علماً أن أعداد الضحايا التي دفعها ما يُعرف بالمنطقة المسيحية في التقاتل الداخلي المسيحي هي أكثر مما سبّبته حروبها مع الآخرين. والمحطات عديدة، بدءاً مما اصطُلح على تسميته من قبل بشير الجميل «توحيد البندقية المسيحية»، أو في مجزرة إهدن تجاه آل فرنجية وفي مجزرة الصفرا تجاه جماعة شمعون، وكذلك في حرب جعجع وحبيقة (الاتفاق الثلاثي) أو حرب الإلغاء، وقبلها حرب الجبل وما أدّت إليه من مذابح وتهجير، سببها الخيارات الخاطئة من قبل جعجع، الذي يستمر في هذا النهج.
يبقى أن هؤلاء الذين يحاولون اختصار الطائفة المسيحية بأنفسهم وبعنصريتهم وحقدهم، تنقضه مواقف مسيحيين آخرين متعاطفين يرفضون العنصرية ويؤكدون انتماءهم الوطني وخيارهم التفاعلي مع أبناء الوطن كله. هذا الاختلاف الجلي يستدعي منطقاً آخر، وعقليته آن لها أن تتغيّر ليتم لجمه، وإذا كانت مهادنة رؤساء الطوائف لما يجري من هتك للمعايير الإنسانية، فما عليهم إلا المبادرة إلى نزع حالة الصمت المطبق على الإبادة الجارية. على رؤساء الكنائس المشرقية، الذين لم يتحرّك منهم إلى الآن إلا رؤساء كنائس فلسطين، إزاء صمت مريب من رأس الكنيسة البابوية في روما، الصامت إلى الآن صمت القبور، وهذا التخلي يتناقض كلياً مع معايير الإنسانية والعدالة والمحبة التي من أجلها جاء المسيح، ونحن على أعتاب ميلاده.
إنّ الارتهان الداخلي العميق لخيارات السياسة الخارجية، من أبناء الوطن الواحد، هو انفصال عن المصير الواحد والأمة الواحدة، التي تشغلها الإرادات الأجنبية. وهذا ما يستدعي من النخب الوطنية والحزبية توحيد موقفها. أمّا المستمرون في الرفض للخيارات التوحيدية، فيثبت عليهم يوماً بعد يوم أنهم في صف أعداء الوطن.

* كاتبة لبنانية