[إلى الصديق سليم تماري]
تمهيد
من المعلوم لأصحاب الاختصاص ولغيرهم أن حجم الكتابة التاريخية باللغة العربية، إسلامية كانت أم مسيحية، لا يضاهيه اتساعاً، في عصور ما قبل الحداثة، سوى لربما التواريخ الصينية. وإذا أضفنا إلى هذه التواريخ كتب الطبقات والسِيَر، والتي صنّفها التراث مرادفة للتاريخ، فلربما بلغ عددها الإجمالي عشرات الألوف. وعلينا أن ننتظر مرور سنوات وسنوات قبل أن نعرف حجمها الحقيقي، فالعديد منها لا يزال مخطوطاً ينتظر التحقيق العلمي.
عثمان حمدي بك (1902)

وفي الزمن الحديث، عمد بعض المستشرقين في الغرب، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، إلى طرح النظريات النقدية حول هذا التراث التأريخي الهائل الحجم، وذلك بدءاً بنقد الحديث النبوي، والحديث كما نعلم هو صنو التاريخ. وفي السنوات الأخيرة، بدأنا نشهد هذا النقد والتجريح، وبمزيدٍ من النشاط، يتجه صوب المصادر التأريخية العربية الإسلامية المبكرة، أي في قرونها الثلاثة الأولى تقريباً، فيما لم تنل بعد المصادر اللاحقة زمنياً ما يشابهها من سهام النقد. وتتوجّه تلك السهام خصوصاً نحو ابن إسحاق (توفي 767 م) وجيله، وصولاً إلى الطبري (توفي 923 م). أمّا من تبعهم من المؤرخين، كابن الأثير مثلاً (توفي 1233 م)، فهم لم يخضعوا بعد لما يسمّيه الصديق سليم تماري «مِبضَع الناقد».
ويتخذ هذا المشروع النقدي الاستشراقي أشكالاً عدة، فليس من السهل أن نلخّصه ونحلّل ما ورد فيه من آراء ونظريات. والسبب أن هذا النقد يستند إلى منابع فكرية متعدّدة، لعل أهمّها ما يلي:
أولاً، نظريات في النقد طُبّقت بدءاً بالقرن التاسع عشر على العهدين القديم والجديد في الكتاب المقدس.
وثانياً، نظريات في النقد الأدبي الغربي الحديث والمعاصر.
أحاولُ في ما يلي أن أتطرّق إلى بعض النقاط الأساسية التي يثيرها هؤلاء النقّاد الغربيون، ثم أن أقيّمَ جدواها، فهي لم تحظَ بعد بما تستحق من دراسة وتحليل في الوسط الثقافي العربي.

نظريات جون وانسبره ورهطه
ولعل أوّل من أدلى بدلوه في هذا البئر، هو المؤرخ الأميركي البريطاني، جون وانسبره (1928-2002)، الذي طلع علينا في سنتين متتاليتين بكتابين، أحدهما صدر عام 1977 بعنوان «دراسات قرآنية: مصادر ومنهجيات تفسير الكتب المقدسة»، والآخر عام 1978 بعنوان «الوسط الطائفي: محتوى وكتابة تاريخ الخلاص في الإسلام». لن ألتفت طويلاً إلى الكتاب الأول وحجّته الرئيسية أن القرآن الذي بين أيدينا لم يُجمع في الجزيرة العربية، بل في العراق في العصر العباسي وبعد مرور قرابة قرنين من الزمن على وفاة الرسول. وقد دُحضت هذه النظرية بالكامل، في العقد الثاني من هذا القرن، حين اكتُشفت أجزاء من القرآن في الجامع الكبير في صنعاء، والتي أكّد الفحص الكربوني أنها تعود إلى القرن السابع للميلاد، الأمر الذي أعادنا بثقة إلى الرواية الإسلامية التراثية.

«تاريخ الخلاص»
وتناول كتاب وانسبره الآخر موضوع المصادر الإسلامية التاريخية المبكرة، والذي هو ألصق بموضوعنا هنا. وبعد البحث والتدقيق، أتى بنظرية مفادها أن هذه المصادر لا تعدو كونها ما سمّاه صاحبنا «تاريخ الخلاص أو النجاة». ماذا يعني ذلك؟ يعني أن تلك المصادر في مجملها «تفسّر التاريخ على نحو غائيّ ومنحاز» كما يقول. وهذا الصنف من الكتابة التاريخية ليس له
سوى محرّكٌ واحد، هو الله الذي يحرّك مجرى التاريخ باتجاه واحد نحو نهايته وغايته، الأمر الذي يُسبل على هذا التاريخ ما يشبه شبكةً من الخطوط الخارقة للطبيعة، إذ يصبح كل حدث تاريخي حقيقياً ورمزياً في الوقت ذاته، أي يرمز إلى الخطة الإلهية الكبرى. لذا نحن لا نتعامل هنا مع تاريخٍ «موضوعي حقيقي»، أي تاريخ ما جرى، بل مع تجلٍّ إلهيّ يتلطّى وراء التاريخ: أي كيف نجا من نجا وكيف هلك من هلك.
لكننا حين نتفحّص هذه النظرية الفضفاضة، ولو سلّمنا جدلاً بصحّتها في ما يختصّ ببعض مؤرّخي فجر الإسلام، نجد أنّ عدداً من مؤرخي الأديان التوحيدية الأخرى في عصورهم المبكرة، أي اليهودية والمسيحية، قد مارسوا هم أيضاً «تاريخ الخلاص والنجاة». فالخلاص والنجاة لهما أهمية مركزية في الأديان التوحيدية، وما قد يُقال عنها يُقال أيضاً عن الإسلام كدين. إذاً، لماذا نُخصّص التأريخ الإسلامي المبكر بهذا النعت إن لم يكن الهدف منه إظهار غرائبية الإسلام وشذوذه وفصله عن محيطه الديني وتراثه؟ وفي يومنا الحاضر، نجد ذات النزعة نحو إبراز عجائبية الثقافة العربية وفرادتها في ما يُكتب في بعض صحافة الغرب وأوساطه الأكاديمية عن السياسة والمجتمع في العالم العربي، وكأنها ثقافة خارجة عن المألوف.
في المحصلة، يقول لنا أصحاب هذه النظرية إنه ينبغي لنا أن نرمي بكل هذا التراث التأريخي في سلة القمامة، لأن ما يتضمّنه من حوادث موثوقة ليست سوى شذرات مبعثرة لا قيمة سردية لها ولا يمكن نسجُ تاريخٍ حقيقي منها. وإذا أردنا أن نستخدم لغة الحاسوب، فقد نقول إن هذه المصادر الإسلامية المبكرة مصابةٌ بفيروس يجعلها غير صالحة للاستعمال. إذاً، ما العمل؟
الحجّة الأهم التي يجدر البحث فيها بشيءٍ من التفصيل هي مقولة التباعد بين المصادر المدوّنة ومنابعها الأصلية، وهي حجة ما زالت رائجة حتى عند من يرفض التشكيك الجذري بهذه المصادر


ما العمل؟ المصادر غير الإسلامية
خلّف جون وانسبره بعض الأتباع الذين طوّروا نظرياته (واحتفت به إسرائيل على نحو لافت). ولعل باكورة إنتاج هؤلاء جاءت في كتاب اثنين من تلامذته، هما باتريشيا كرونه ومايكل كوك، صدر عام 1977 بعنوان «الهاجرية: تكوين العالم الإسلامي». يجيب هذا الكتاب عن السؤال أعلاه (أي، ما العمل؟) بأنه علينا أن نتوجّه نحو المصادر غير الإسلامية والمعاصرة لفجر الإسلام، كالمصادر اليونانية واللاتينية والسريانية والفارسية والأرمينية وغيرها، كي نحصل على تاريخٍ موثّق لفجر الإسلام.
اصطدم هذا الكتاب بموجة من النقد لم يصمد أمامها طويلاً، بل لا نجد أي أثر لنظرياته حتى في كتابات هذين الكاتبين اللاحقة. لنا أن نسأل: هل كانت تلك المصادر غير الإسلامية خالية حقاً من فيروس «تاريخ الخلاص» كي نمنحها ثقتنا الكاملة؟ غير أن الكتاب الذي قطع الشك باليقين في هذا الحقل، هو كتاب روبرت هويلاند الذي كتب رسالته للدكتوراه، وتحت إشراف كرونه بالذات، وصدرت الرسالة عام 1997 في كتاب بعنوان: «أن ترى الإسلام كما يراه الآخرون: استعراض وتقييم للمصادر المسيحية واليهودية والزرادشتية حول فجر الإسلام». وجاء في خاتمته ما يلي:
«على امتداد هذا الكتاب، سعيتُ أن أبيّنَ النظائر وأوجه الشبه بين المصادر الإسلامية وغير الإسلامية، ويبدو لي أن هذا النهج يمثّل حجة قوية تؤكد أن تلك المصادر غير الإسلامية تتطابق في الغالب مع المصادر الإسلامية».
لماذا إذاً هذا التشكيك الجذري بقيمة المصادر الإسلامية المبكرة إذا كان ما جاءت به من معلومات تتطابق «في الغالب» مع ما جاء في المصادر غير الإسلامية؟

الشفهي والمدوّن
وجاءت موجة ثانية من القدح والنقد لهذه المصادر، ومع بعض التبسيط، على النحو التالي: كانت العلوم الإسلامية في بداياتها شفهية الطابع وليست مدوّنة، فالحفظ لا التدوين هو الذي كان السمة البارزة لتلك العلوم، وكان للتدوين معارضون كُثُر، إلى أن انتصر التدوين في القرن التاسع ميلادي والثالث للهجرة. ويُقال لنا إن عصور الحفظ والذاكرة هذه قد ألقت بظلالها على عصر التدوين مع ما فيها من اضطراب وتشويش هما من صميم طبيعة النقل الشفهي. كما يُقال لنا أيضاً إنه لا يمكن لنا أن نثق بصحةِ مصادر بعيدة بقرون عدة عن منابعها الأصليّة.
لنلتفت أولاً وبسرعة إلى مقولة «عصر الحفظ وعصر التدوين». لم يصمد هذا التمييز طويلاً في الأوساط العلمية، فكان أوّل من فنّده العالم الكبير الراحل يوسف العِشّ في المقدمة التي كتبها في تحقيقه عام 1949 لكتاب «تقييد العلم» للخطيب البغدادي (توفي 1071م.) وتبعه في ما بعد عالمان ألمانيّان هما غريغور شولر وهارالد موتزكي، وأثبتا أن الحفظ والتدوين كانا متلازمين منذ البداية. لن أتطرّق هنا إلى التشويش الذي يُقال إنه يواكب النقل الشفهي، فالأمر لا يزال مصدر نقاش مستفيض عند علماء الاجتماع المعاصرين، لكن لا يبدو لي أن ثمّة إجماع عند هؤلاء على انعدام فائدته كمصدر موثوق للمعلومات.

التباعد بين المصادر وينابيعها
والحجّة الأهم التي يجدر البحث فيها بشيءٍ من التفصيل، هي مقولة التباعد بين المصادر المدوّنة ومنابعها الأصلية، وهي حجة ما زالت رائجة حتى عند من يرفض التشكيك الجذري بهذه المصادر، كما في كتاب فرد دونر الصادر عام 1998بعنوان «روايات بدايات الإسلام: بدايات الكتابة التأريخية في الإسلام». يقول لنا أصحاب نظرية التباعد ما يلي: لم يوجد في مكة أو المدينة في عصر الرسول، أو في العصر الذي تلاه، من يمكن لنا أن نسمّيه مؤرخاً معاصراً للأحداث، كما كانت الحال مثلاً مع ثيوسيسيدس اليوناني (القرن الخامس قبل الميلاد) أو تاسيتوس الروماني (توفي حوالى 120 م.) وغيرهم كثيرين. وما بين أيدينا من أخبار حول ذاك العصر هي روايات يُقال إنها تعود إليه، لكنها ترد في الواقع في مصنّفات وكتابات تاريخية جرى تدوينها في عصور تبتعد عن الأحداث بقرن أو أكثر من الزمن. وعلى سبيل المثال، لا يصحّ أن نتخذ تاريخاً صدر في القرن الواحد والعشرين كمصدرٍ أساسي وأصيل لحوادث جرت في القرن التاسع عشر.
ولأول وهلة يبدو الأمر وكأنه مبدأ تأريخي لا غبار عليه، أي إن المصادر الموثوقة للأحداث ينبغي أن تكون معاصرة لها وتأتي من شهود عيان إذا أمكن. لكن دعنا نتفحّص ما نعنيه بمصدرٍ «معاصر».

الذاكرة البشرية وانتقالها
من الجليّ أن الذاكرة الإنسانية يمكن لها أن تتمدّد في المستقبل أو الماضي عبر العشرات، بل والمئات من السنين. فإذا تخيّلنا إنساناً ينقل أخباراً عن جدّه، والجدّ ينقل أخباراً عن جدّه، ثم تخيّلنا ذاك الإنسان ينقل تلك الأخبار إلى أحفاده، نجد أن قوس الزمن هذا قد يتخطّى المئات من السنين.
ولعل هذا المثال فيه شيءٌ من التجريد، فليتّسع صدر القرّاء لهذا المثال الشخصي. ولدتُ أنا في عام 1938، وولدت والدتي رحمها الله في عام 1897. لذا، فإن أي أخبار قد أنقلها عنها في يومنا الحاضر، أي في عام 2023، وهي أخبار عن الحياة الاجتماعية في بيروت في أوائل القرن العشرين مثلاً، هي أخبارٌ عمرها اليوم ما يقارب مئة وعشرة أعوام. لكن روايتي لا تنتهي هنا، فقد كانت والدتي في طفولتها شديدة التعلّق بجدّتها لأمها، وتُمضي في ضيافتها الأيام الطوال فتقصّ عليها حكايات عن مجتمع بيروت في أوائل القرن التاسع عشر وأواسطه. هذه إذاً روايات عمرها اليوم ما يقارب مئتي عام. وماذا لو نقلتُ أنا تلك الروايات إلى أحفادي مثلاً؟
لذا، حين يُقال لنا إنه من الصعب، بل من المستحيل، أن نثق بصحة روايات بسبب بعدها لمئةٍ أو أكثر من السنين عن منابعها، نجد أن هذه المقولة تخالف بوضوح ما تفعله مجتمعات عدة في الشرق والغرب ما زالت إلى اليوم تنقل تاريخها، عائلياً كان أم أوسع، من جيلٍ إلى جيل، وتثمّن عالياً تلك الذكريات التي تنتقل من فمٍ إلى فم.
ذلك لا يعني بالطبع أن هذه الروايات كافة جديرةٌ بالتصديق، فالذاكرة البشرية، وبالإضافة إلى ما يعتريها من تشويش، كثيراً ما تكون عرضةً لابتداعِ «الميثية» عند ناقل الروايات. لكن هذا لا يعني أيضاً أن نرميها في سلة القمامة، فقط لأنها بعيدةٌ في الزمن عن ينابيعها. لنعود إلى المثل العائلي الوارد أعلاه: إذا لم يكن لديّ اليوم سبب جوهري للتشكيك في روايات جدّة أمي حول بعض عادات بيروت الاجتماعية في أواسط القرن التاسع عشر، وإذا لم تكتنف تلك الروايات ما يشبه التحيّز أو ابتداع الأساطير، وإذا واكبها تصديقٌ من مصادر أخرى، وجب عليّ أن أتعامل معها كما أتعامل مع أي مصدر تاريخي آخر، أي بالفحص والتدقيق. لكن انعدام المعاصرة ليس بحد ذاته سبباً لإهمالها. والتحجّج بانعدام هذه المعاصرة لا يزال شائعاً اليوم عند كثيرين ممن تناولوا مصادر تاريخ فجر الإسلام من المستشرقين، والتي يستخدمونها كحجةٍ بديهية للتشكيك في صدقيّة تلك المصادر. من هنا، علينا أن نحدّد بالضبط ما نعنيه بالمعاصرة، فالمعاصرة لفظةٌ يلزمها التأويل ويكتنفها بعض الغموض، وهي لا تدلّ على زمن شهود عيان فقط، كما في الأمثلة أعلاه.

* أكاديمي فلسطيني