على مشارف انتهاء السنة الرابعة من اندلاع الأزمة التي عصفت بلبنان، بكل أشكالها ومضامينها السياسية والاقتصادية والمالية والمؤسساتية، يُجدَر التوقف عند المحصّلات والنتائج. وقبل ذلك، ينبغي القول إنّ محطة 17 تشرين الأول 2019 كانت نقطة انعطاف وليست انطلاق؛ فقد سبقها صراع ونزاع وتوتر، بدأ أبرزها عام 2011 تحت عنوان «الشعب يريد...»، والتي تواصلت وتصاعدت مع وبسبب أزمة النفايات وسواها من الأزمات في عامَي 2016 و2017، إلى أن بلغت الأزمة مستوى انعطافياً عبر مسار من التدهور، فالانهيار، فالانتفاضة الشعبية الواسعة والكبيرة، في 17 تشرين الأول عام 2019.التوقّف عند الأسباب والمحصلات (بعد الأزمات) ليس عند حكامنا أمراً تلقائياً، على غرار ما يحصل في الظروف والأماكن ذات الشروط الطبيعية لممارسة السلطة وإدارة الشأن العام. إن صياغة خلاصات ومحصّلات الأزمات والتجارب هي علامة صحية وضرورية في مسار السعي للتجاوز والتصحيح المحدود أو الشامل (ليس فقط بعد الأزمة، بل أثناء حصولها أيضاً). والعكس صحيح طبعاً، حين يجري إهمال ما ينبغي صياغته والأخذ به من الدروس والعبر: لعدم الوقوع في الأخطاء السابقة ولتفادي الأزمات مجدداً.
ليس من مبالغة أو تحامل في القول إن السلطة، بكل أجنحتها وتفرّعاتها في الموالاة والمعارضة، لم تكلّف نفسها عناءَ البحث في أسباب الأزمة وفي المسؤوليات عن حدوثها وتحوّلها إلى كارثة! نقصد بذلك أنه لم يتم التوقف من قبل أحد من أطرافها، بشكل جدي، حول الأسباب الحقيقية للأزمة، أي تلك الكامنة في الخلل القائم في النظام السياسي وفي الممارسات التي جعلته يستعصي على أي تطوير أو إصلاح، بما في ذلك الإصلاحات التي أُقرَّت في تسوية «الطائف» عام 1989، ومن ثمّ تحولت بنوداً ملزمة في الدستور اللبناني. ليس هذا فقط، بل إن الممارسة، في تحققها على امتداد عقود متلاحقة، قد دفعت بالسلبيات إلى حدِّها الأقصى. لقد تمت، بشكل مثابر، إضافة وتكريس أعراف تكامَلَ فيها وعبرها النظام و«المنظومة» اللذان ولّدا الهدر والفساد وتحاصص موارد الدولة وتعطيل المحاسبة والرقابة. وفي امتداد ذلك، تعميم الطائفية والعصبيات والزبائنيّة (الأدوات الأساسية للبورجوازية الكبرى للهيمنة على السلطة والمؤسسات) على كل الحقول والميادين والمؤسسات بما فيها الأطر المكرسة، مبدئياً، للتمثيل الشعبي والنقابي والثقافي والقطاعي والتربوي والإعلامي والرياضي. وفي هذا السياق، كان يتعاظم ويتعمّق الارتباط بالخارج، ليس من ضمن تفاعلية إيجابية في تبادل المصالح، بل عبر تبعية تغذّت بعوامل طائفية ومذهبية وعرقية وفئوية، ما دفع التحاصص إلى المدى الأقصى من خلال إنشاء وتنامي دويلات على حساب عافية الدولة والولاء للوطن، وأيضاً على حساب السيادة والوحدة الوطنية، أي على حساب سلامة علاقات اللبنانيين بالدولة، وفي ما بينهم، وبينهم وبين الخارج.
سياسة الإنكار هذه تنطبق على الجميع، ممّن وحّدتهم المصالح الفئوية في بعدَيها الطبقي والسياسي، الداخلي والخارجي، والتي تحولت سياسة «رسمية» للطبقة الحاكمة التي اكتفت، كبديل عن التقييم الجدي والعميق، بتقاذف المسؤوليات عن الأزمة، لتحسين المواقع، من دون الاقتراب من الأسباب الجوهرية الكامنة في النظام وفي المنظومة التي نشأت في كنفه ودفعته، في الممارسة دائماً ولا تزال، نحو الأسوأ!
لم تعبأ الطبقة الحاكمة بما ارتكبته من أخطاء وجرائم، وما سببته من خراب ومآسٍ وإفقار للأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني المقيم والمغترب، وهي لا تزال مستمرة في سياساتها وعلاقاتها وفئويتها وتوحّشها واستخفافها بالمواطن وحقوقه من دون محاسبة أو عقاب. وشجّع الطبقة الحاكمة على ذلك عوامل عدة، من أهمها عدم نهوض المتضررين، وهم بالملايين، للدفاع عن حقوقهم ولمحاسبة ومعاقبة المسؤولين عن الانهيار الشامل والكوارث والمخاطر القائمة والمحدقة. وتتحمّل مسؤولية أساسية في هذا العجز الشعبي، القوى التي حملت تقليدياً، لواء التغيير وصاغت له برامج وأطراً وجبهات. لكنها في مرحلة تعاظم الأزمة، تخلّت عن دورها وواجبها في صياغة الرد الشعبي الضروري والإنقاذي، من خلال مشروع وإطار وبرنامج وأولويات وخطة مواجهة لإسقاط الطبقة السياسية المرتكبة ومعها نظامها ورموز منظومتها التي تمكنت، بالمناورة والتضليل وباستخدام مؤسسات الدولة ومواردها وأجهزتها، من التغلب على الحراك الشعبي المنتفض والمفتقر إلى ما ذكرنا من مشروع وقيادة وأولويات وخطة.
في السياق، وفي نطاق ما تقدّم ذكره من الخلل في العلاقة بين الداخل والخارج (الذي تتجلى إحدى مظاهره الفاقعة الآن في معركة رئاسة الجمهورية) غذّى التدخل الخارجي أسباب الأزمة وفاقم ولا يزال كوارثها، عبر ضغوط قديمة وجديدة، جهدت، بكل الوسائل، لتوظيف هذه الأزمة في خدمة أهدافها. لقد لعب الطرف الأميركي، خصوصاً، دوراً محورياً خطيراً في تشتيت الانتفاضة الشعبية، وفي تشويه أهدافها، وفي تضييع المسؤوليات عن الانهيار والكوارث القائمة والقادمة! قادت واشنطن، مباشرة، عبر سفارتها وموفديها، وعلى الصعيدين الداخلي والإقليمي، حملة ضارية لتحميل المقاومة مسؤولية الأزمة، ما شوّه الوقائع وزوّر الحقائق وأعفى المجرم الحقيقي من مسؤولياته في حصول الانهيار الكبير وفي نهب وإفقار الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. جنّدت واشنطن، بالتضليل وبالضغوط وبالإغراءات، أوساطاً واسعة في خدمة خطتها، بما في ذلك بعض اليسار المتحوِّل تحت تأثير ضراوة الأزمة، أو الضخ الإعلامي الشامل المأجور، أو تحت تأثير الإغراءات والمصالح الصغيرة. ويجري الآن، بشكل وقح وفاجر، استغلال النزوح السوري بهدف توظيف ما يفرزه من ضغوط إضافية على الوضع اللبناني، من أجل تغذية وإشعال فتنة (تشكل جزءاً من المرحلة الراهنة في المخطط الأميركي بشأن لبنان) وتطيح ما تبقى من عوامل الصمود في مواجهة الضغوط الأميركية والصهيونية وأهدافهما في لبنان وسوريا وفي المنطقة. هذه الأهداف أكثر من واضحة: استكمال مسلسل إضعاف كل مقاومة ضد الهيمنة الأميركية، وإغراق المزيد من البلدان العربية في أزمات لا تنتهي، للسيطرة عليها من قبل واشنطن، ولجرّها إلى التطبيع مع العدو الصهيوني!
إعادة تقييم المسار والمواقف، واستخلاص الصحيح والضروري بشأن الأزمة، مدخل إجباري للتصحيح والمعالجة ولاستعادة زمام المبادرة قبل فوات الأوان. المعارضة الوطنية مطالَبة، تكراراً، بالقيام بواجبها في هذا الصدد!
* كاتب وسياسي لبناني