تُشكّل تجربة القائد النقابي العمّالي، سامي طه، وكفاحه الطبقي والوطني دِفاعاً عن عمّال فلسطين، ومساهمته في ولادة وبعث حركة التحرّر الوطني في مواجهة الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية وباشوات الإقطاع المحلي، حكاية نضال مجيدة وخالدة، لا تقلّ في أهميتها ودروسها عن تجارب عالمية رائدة حفرت اسمها عميقاً في ذاكرة وتاريخ الشعوب وحركات التحرّر. غير أن ضعف ما يُسمّى «قوى اليسار الفلسطيني»، والتشوهات التي طاولت الحركة النقابية، وانقسام مجالسها الوهمية، وذيليّتها لـ«الهستدروت» (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية) الصهيوني ونظام أوسلو العميل، وأسباباً كثيرة لا حصر لها، تُضفي على ذكرى استشهاد قائد الحركة العمالية مشهداً أكثر قتامة وحزناً، وتحمل، في الوقت نفسه، تحدّياتٍ وأسئلة وربما بشائر من طراز خاص
(سامي طه)

بين الولادة والشهادة
وُلِد سامي طه الحمران في قرية عَرّابة (قضاء جنين) 1911، لعائلة فقيرة وكادحة واضطر، مثل غيره من أبناء الفقراء الكادحين تحت السلطة العثمانية المتداعية والرجعية، إلى البحث عن لقمة العيش في المدينة، فترك مقاعد مدرسته وهو طفلٌ لم يتجاوز العاشرة من العمر. وغادر قريته إلى مدينة يافا، ومنها إلى أحزمة البُؤس وسوق العمل في حيفا، وهناك انخرط الفتى سامي طه مُبكراً في ميادين النضال العمّالي والنقابي، وأسَّس مع رفاقه «جمعية العمّال العرب»، التي كانت نواتها الأولى «عمّال سكة حديد الحجاز» 1925 وأطلقوا عليها اسم «نادي عمّال سكك الحديد الخيري».
خاض سامي طه ورفاقه العمّال في حيفا نضالاً نقابياً وطنياً وكفاحاً يومياً مريراً لسنواتٍ من البذل والعطاء في مواجهة الاستعمار والاستغلال، وفي ليلة 11 أيلول 1947 أطلق «مجهول» ثماني رصاصات قاتلة استهدفت قائد الحركة العمّالية الفلسطينية وهو لمّا يزلْ في ريعان شبابه ولم يُكمل عامه السادس والثلاثين.
اليوم، بعد مرور 76 عاماً على تلك الجريمة، تُصبح مهمة التذكير بسيرة هذا المناضل العمّالي جزءاً من استعادة تاريخ الحركة النقابية الفلسطينية، وتضحيات عمّال وفلاحي فلسطين في مواجهة الاستعمار والصهيونية، وطبقة الباشوات من الإقطاع الرجعي. ومن الواجب أن تُشكّل درساً ومحطة هامّة تُعيد الاعتبار للدور الثوري الريادي الذي قامت به الحركة العمّالية العربية في فلسطين، منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي. فضلاً عن أهمية تسليط الضوء على المقدّمات التي أسَّست إلى واقع التهجير والتشرد (النكبة المستمرة) منذ عام 1948.
شارك سامي طه ورفاقه في الدّفاع عن حقوق العمّال الفلسطينيين، ونشِطوا في كل المجالات والساحات على امتداد أرض فلسطين من النهر إلى البحر، في المصانع والمزارع والموانئ والمستشفيات والقطارات ومخازن السلاح ومعسكرات الجيش البريطاني.
وبتاريخ 10 نيسان 1946 دعت «جمعية العمّال العرب» إلى إضرابٍ مفتوحٍ للمطالبة بحقوق العمّال، في بيانٍ أعدّه وقرأه سامي طه، ورضخت حكومة الانتداب لكل مطالبها. هذا الإنجاز النقابي والسياسي الكبير أكسب الجمعية وقائدها سامي طه، ثقةً واسعة وشعبية كبيرةً على المستوى الوطني والقومي، غير أنه كان أحد أسباب اغتياله أيضاً.
قبل ذلك التاريخ، وبعده، تعرّض سامي طه إلى الملاحقة والاعتقال أكثر من مرة، كلّها على يد قوات وشرطة الاستعمار الإنكليزي وخاصة عامَي 1937 و1938 (الثورة الكبرى)، وذلك بسبب مواقفه السياسية ونشاطه النقابي الوطني، ومناهضته لسياسات الاستعمار الإنكليزي والاستيطان الصهيوني اليهودي في فلسطين. كان طه يقود المواجهة المستمرة ضد «الهستدروت» الصهيوني، والتصدّي لمحاولات «عبرنة سوق العمل» واستهداف لقمة عيش العمّال العرب وسلبهم مصدر رزقهم. كما شكّل تياراً جذرياً وبديلاً ثورياً لنهج «المفتي» (الحاج أمين الحسيني) التقليدي الذي ظلّ يحاول تكريس نفسه زعيماً وممثّلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني.
هذا النضال النقابي، وفي ظروف معقّدة وصعبة، وأمام جبروت الاستعمار الإنكليزي، وحركة صهيونية قادمة من الغرب ومتقدّمة تنمو وتعزّز قدراتها في كل المجالات، وأسباب أخرى كثيرة، دفعت سامي طه إلى ميادين العمل السياسي المباشر. فتَوجّه ضمن الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر لندن 1947، الذي ترأّسه جمال الحسيني، وعرض موقف الشعب الفلسطيني من التطورات في فلسطين، بما فيها مسؤولية الاستعمار البريطاني عن تسهيل ودعم حركة الاستيطان والهجرة إلى فلسطين. كما شرح موقف «جمعية العمّال العرب» الجذري من المشروع الصهيوني، الأمر الذي أغضب بريطانيا وقادة الحركة الصهيونية، ولكن فتح الطريق واسعاً أمام نقلةٍ نوعيةٍ كان يمكن للحركة النقابية الفلسطينية أن تقوم بها على المستويين العربي والأممي.

قائدٌ ثوري وسياسي أيضاً
كان سامي طه قائداً عمّالياً وجماهيرياً وسياسياً لا يساوم، ويفهم الترابط الوثيق بين النضال الطبقي والنضال القومي في الحالة الفلسطينية. وفي المؤتمر العام الثالث لجمعية العمّال العرب، الذي حضره 120 مندوباً يمثّلون 120 ألف عاملٍ وعاملة، ومن 65 فرعاً في فلسطين، ركّز في تقريره على العلاقة الضرورية بين الحركة الوطنية والحركة النقابية في فلسطين، داعياً العمّال إلى المشاركة بقوة في التحالف مع الفلاحين والنضال الثوري والتحرري المسلح في الدفاع عن الأرض والتصدي للهجرة الصهيونية إلى جانب تطوير نضالهم النقابي المطلبي.
وانتهى المؤتمر بتبني مجموعة اقتراحات تاريخية وهامة، منها:
رفض مشروع قرار تقسيم فلسطين الذي كان يناقَش في دوائر الأمم المتحدة، وضرورة إنشاء صندوق مالي تُسهم فيه الشعوب العربية لشراء الأراضي في فلسطين، كي لا تباع لليهود الصهاينة، ودعم الفلاحين وتعزيز صمودِهم. كما تبنّى المؤتمر إقامة دولة عربية فلسطينية ديمقراطية في عموم فلسطين، واعتبار اليهود العرب الذين كانوا يقطنون فلسطين حتى عام 1918، (قبل وعد بلفور) ومن تناسل منهم مواطنين لهم كلّ الحقوق وعليهم كلّ الواجبات. ويمكن القول بأن هذه المقرّرات ستشكل أول وثيقة وطنية وسياسية ناضجة تقدّمها طليعة الطبقة العاملة الفلسطينية.

من قتل سامي طه؟
تعدّدت الروايات حول هوية قاتل سامي طه، هذه الحقيقة تذكّرنا بشخصيات كثيرة جرى اغتيالها في فلسطين والشتات، ثم توزّع دمها على «القبائل» (ناجي العلي أُنموذجاً) غير أن هذه الحقيقة تؤكد، من جهة ثانية، وجود معسكر كبير وأعداء كثر للحركة العمالية الفلسطينية: هل قُتِل طه بأوامر مباشرة من «مفتي فلسطين» الحاج أمين الحسيني؟ هل قتلته عصابة تابعة لطبقة الإقطاع والباشوات؟
شهادة القاتل صبحي شاهين، أحد أعضاء الأجهزة المحسوبة على «الهيئة العربية العليا» في حيفا، تفيد بتورط «الهيئة»، إذ أدلى شاهين بشهادة مشفوعة بالقسم للمؤرّخ الفلسطيني عبد القادر ياسين، في سجن طُرة في مدينة القاهرة بتاريخ 22 آب 1959، واعترف بأنه قام بجريمته بأمر مباشر من «المفتي»، وهذا ما سيؤكّده القائد الوطني الكبير، ورفيق درب سامي طه، الراحل أبو ماهر اليماني، في مقابلة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية، حول اغتيال سامي طه (الصفحة 173، منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية، المجلد الرقم 18 العدد 69 شتاء 2007).
من الأهمية في هذا المجال التذكير بحقيقة نشوء حركة عمّالية ثورية في فلسطين أصبحت خلال أعوام قليلة مؤثّرة، لا تهدّد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية فحسب، بل تهدّد قيادات فلسطينية تقليدية، وتقدّم بديلاً لدور الإقطاع ومشروعه السياسي أيضاً. غير أن هذه الحركة العمّالية العربية الوليدة لم تجد من ينصرها من «القوى الاشتراكية» إذ كانت «الحركة الشيوعية» في تلك الفترة تعمل لحساب الحركة الصهيونية، فأكثرها من المستعمرين اليهود، وكانت من أشد خصوم «جمعية العمّال العرب» وقائدها الصلب سامي طه.
وبرغم القمع الإنكليزي وتزايد قوة العصابات الصهيونية، ظلّت الحركة العمّالية الفلسطينية تنمو ويزداد عدد أعضائها، وتواجدت في معظم مدن فلسطين. صحيح أن دورها في عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين كان محصوراً في متابعة الشؤون والحقوق العمّالية والتنظيم النقابي، لكن لم يمر عقدٌ واحدٌ حتى ظهرت الطبقة العاملة الفلسطينية قوة سياسية وجماهيرية ستقوم بدور ريادي وكبير على المستوى القومي، وبخاصة في إضراب 1936، فأسّست لجاناً شعبية ومحلية وتولّت تنظيم الجماهير وتقديم الدعم، ومثّل سامي طه جمعية العمّال في «اللجنة القومية»، التي أشرفت على الإضراب وهو في سن الخامسة والعشرين.
واصلت الحركة العمّالية العربية نموّها وتعزيز دورها بقيادة سامي طه. تجسّد ذلك في مؤتمر يافا 1943، إذ عُقد مؤتمر عمالي حاشد مطلع نيسان 1943 حضره مندوبون عن عمّال معسكرات الجيش البريطاني العرب (قُدّر عددهم آنذاك بـ 28 ألف عامل، وانتخب المؤتمر سامي طه رئيساً له. وكانت «الهستدروت» قد حاولت ركوب الموجة فدعت إلى إضرابٍ عام، إلا أن سامي طه استطاع إقناع المندوبين بعدم التجاوب مع مخططات «الهستدروت» ومقترحها، لإثبات استقلالية الحركة العمّالية العربية وقرارها الوطني.

الدروس والشهادة
وسواء صدقت رواية وقوف «المفتي» وراء اغتيال سامي طه أو لا، فالأكيد هو وجود ما يشبه «الاتفاق الضمني»، الذي جرى بين «كل الأطراف المعنية في الصراع» على التخلّص من قيادة الحركة العمّالية الفلسطينية. ولم يكن اغتيال سامي طه، وقبله ميشيل متري (1931)، واستهداف قادة «جمعية العمّال العرب»، بالقتل والاعتقال والنفي، إلا تعبيراً عن خوف بريطانيا والحركة الصهيونية، و«جماعة المفتي» من ولادة تيار ثوري عربي جديد (سوف تواجه حركة المقاومة في فلسطين والشتات سياسات الاغتيالات التي تسعى إلى «قطع الرؤوس الحامية» كما أطلقت عليها غولدا مائير وكما يهدّد نتنياهو اليوم).
سيرة وتجربة سامي طه تؤكدان أن الحركة الصهيونية، المدعومة من بريطانيا، لم تأت إلى فلسطين من أجل عقد «تحالف طبقي بين العمّال اليهود والعرب»، بل كانت، ولا تزال، حركةً استيطانية عنصرية وأداة للإمبريالية، هدفها اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه بعد السيطرة على السوق والعمل والأرض والثروة والصناعة وكلِّ شيء.
وتقول لنا قصة الشهيد سامي طه الكثير عن ولادة تحالف وطني وجبهة موحّدة بين كل طبقات الشعب في مقاومة فلسطينية (نقابية وشعبية ومُسلّحة) تجسّدت في ثورات وانتفاضات كبرى، في مواجهة الاستعمار والصهيونية، إذ تحالفت فيها الحركة العمّالية بقيادة «جمعية العمّال العرب» مع الثورة المسلحة 1936 – 1939 بقيادة الشيخ عز الدين القسام ورفاقه.
تعلّمنا هذه التجربة الثورية أن دخول الحركة العمّالية النقابية العربية في فلسطين على خط النضال القومي والأممي والمجال السياسي، كان في أعلى مستوياته بقيادة سامي طه، وشكّل نقلةً نوعيةً للنضال التحرري الفلسطيني والعربي، إذ لم يسبق أن تمكّنت أي حركة نقابية عمّالية في أي بلد عربي من المشاركة في القيادة السياسية للحركة الوطنية على هذا النطاق الواسع.
وتعلّمنا تلك التجربة الرائدة أيضاً أن غياب «الحركة الشيوعية» عن ساحات ومعارك الدفاع عن فلسطين في مواجهة الاستعمار الاستيطاني، وعدم مشاركتها في النضال المسلح، كان لهما أثرٌ سلبيٌّ على نظرة الفلسطينيين إلى «اليسار». وما سيزيد الطين بلّة تلك الجريمة/الخطيئة التي وقع فيها الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية والعديد من الأحزاب الشيوعية حين اعترفوا بقرار التقسيم 1947، وبـ«دولة إسرائيل» في عام 1948، خلافاً لموقف الطبقة العاملة الفلسطينية، فضلاً عن جريمة ثالثة لا تقلّ خطورةً تمثّلت في مُحاولة تسويق الكيان الصهيوني كمشروعٍ «تقدّمي»، يحمل «بذوراً اشتراكية» إلى درجة جعلت شاباً ومثقفاً ثورياً مثل غسّان كنفاني، يعتبر الشيوعية في فترة شبابه المبكر جزءاً لا يتجزأ من معسكر العدوّ (غسّان كنفاني – مقال المعسكرات المعادية ومخططها لمقاومة الوحدة، المجلد الخامس - الدراسات السياسية ص 131).
هاجمت «الهيئة العربية العليا»، التي تساوي اليوم «منظمة التحرير الفلسطينية»، بشدّة وعنف، مقررات المؤتمر الثالث للحركة العمّالية الفلسطينية واعتبرتها منافساً لها، كما هاجمت سامي طه عبر الصحف والمنابر الفلسطينية المحسوبة على طبقة الباشوات.
وبعد فترة قصيرة على ذلك المؤتمر اغتال مجهول القائد الوطني والعمالي سامي طه بتاريخ 11 أيلول 1947 في مدينة حيفا. وأعلن العمّال الإضراب العام في كل فلسطين. وانطلقت تظاهرات شعبية وأقيم له في حيفا مهرجان تأبينيّ مهيب. وشاركت في جنازة سامي طه شخصيات وطنية ودينية من مختلف الهيئات الفلسطينية والعربية (باستثناء «الهيئة العربية العليا» التي لم يحضر من طرفها أي أحد).
وإثر هذا الاغتيال اجتاحت البلاد موجة من الحزن وشيَّعته مسيراتٌ جماهيريةٌ غاضبة وحاشدة في قرية بلد الشيخ في قضاء حيفا، حيث دُفن جثمانه الطاهر على مقربة من قبر القائد العربي الكبير الشيخ الشهيد عزّ الدين القسام.
وأخيراً، وفيما نشهد اليوم مرور 30 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو الخياني في 13 أيلول 1993، يمكن لنضالات الحركة العمّالية وتاريخها المجيد، وشهادة سامي طه، أن تكون مصدر إلهامٍ ثوريٍّ وفكريّ، يجدّد دور العمّال والطبقات الشعبية في المقاومة الفلسطينية. فلا بدّ من بثّ روح الثورة في نضال الطبقة العاملة في مشروع التحرير، ومواجهة الكيان الصهيوني. ولا بديل عن إعادة بناء الحركة النقابية الفلسطينية على قاعدة وحدة عمّال فلسطين، وتحالف الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في التغيير والتحرير، وباعتبارها الصف المتقدّم في مجابهة الاستعمار والاستغلال وطبقة فلسطينية مأجورة تابعة وعميلة.

* كاتب عربي من فلسطين