جوزيف مسعد، أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا بنيويورك، ومؤلف العديد من الكتب؛ أبرزها «ديمومة القضية الفلسطينية»، «الإسلام في الليبرالية»، «اشتهاء العرب»، و«آثار استعمارية». في هذه المقابلة، يتحدّث مسعد عن مراحل ثلاث للفوقية العرقية الأوروبية في سبيل النهب الرأسمالي للكرة الأرضية، محاجّاً باستمرار انتهاج السياسات العنصرية على المستويات كافة، وإن بتغليفات جديدة. وهو يشير إلى زيف وتناقض خطاب ليبراليي الغرب والليبراليين التابعين، ولا سيما العرب، عند الإشادة بـ«التسامح» مع الثقافات الأخرى. يشبّه مسعد مقاطعة النخبة الليبرالية لروسيا ثقافياً بالمقاطعات الفاشية العنصرية، ويلفت إلى صعود للعنصرية، لدى اليمين، واستمراره لدى بعض اليسار كما في فرنسا، ضد الجاليات الآسيوبة والأفريقية واللاتينية في أوروبا والولايات المتحدة. يعتبر مسعد أنّ الأسس الأيديولوجية للحركة الصهيونية منذ انطلاقها «مستمدة من العنصرية الأوروبية اللاسامية»، وأنّ خطاب الحركة الصهيونية الرئيس عن الفلسطينيين منذ نشوئها «يطرح الأخيرين كما طرح المستوطنون البيض في الأميركتين الشعوب الهندية الأصلية» كما أنه اقترض حججه من «الاستعمارَين الفرنسي والإيطالي اللذين زعما أن احتلالهما للجزائر وليبيا كان «عودة» إلى ربوع الإمبراطورية الرومانية»
طبعت العنصرية الاستعمار الغربي وشكّلت مقولات التفوق العرقي والحضاري مبرراً يغلّف عمليات السيطرة والإبادة والاستغلال. ما الذي يميّز العنصرية ودورها في تجربة الاستعمار الغربي؟
- لقد انتاب المستعمرين الأوروبيين شعور مبكر بالتفوّق على شعوب البلاد التي غزوها، إن كان ذلك بعد غزو الأميركتين من قبل إسبانيا والبرتغال في أواخر القرن الخامس عشر، واللتين كانتا منهمكتين في حملة فرض سياسة «نقاء الدم» على شعوبهما لتطهير البلاد من العرب المسلمين واليهود عقب غزو الأندلس ودحر الحكم العربي منها، أو بعد غزو جنوب إفريقيا والهند وما أصبح اليوم إندونيسيا من قبل البرتغاليين والهولنديين في القرن السادس عشر. فإن كان هذا الشعور بالتفوق هو ما شرعن قتل الشعوب المهزومة تحت مظلة فرض الدين المسيحي عليهم بالقوة في تلك الفترة، والاستيطان وسرقة أراضيهم وكنوزهم، فلم تتبلور فكرة الفوقية العرقية حتى القرن الثامن عشر مع توسع الغزوات البريطانية في الأميركتين وآسيا وإفريقيا.
ففي أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وفي خضم احتداد المنافسة في ما بين المستوطنين البيض في الأميركتين وجنوب إفريقيا مع بلادهم الأمّ على اقتسام الثروات المنهوبة من السكان الأصليين، نادى المستوطنون البيض بالحرية وبـ«الاستقلال» وهو مفهوم سياسي جديد تم اختراعه أوروبياً وفي ما أصبح «الولايات المتحدة» في تلك الفترة، وقد استثني منه السكان الهنود الأصليون والأفارقة المستعبدون. فمن أوائل القوانين التي شرّعها المستوطنون البيض في الولايات المتحدة، وهي أول دولة مستقلة في العالم قامت على مأسسة الفوقية العرقية البيضاء، هو قانون الجنسية الذي اعتمد في عام ١٧٩٠ والذي نصّ على حق التجنيس في الدولة الوليدة لكل «شخص أبيض وحرّ» يعيش داخل الدولة منذ سنتين ولأبنائه ممن هم دون سن الواحدة والعشرين.
لكن مفهوم تفوق العرق الأبيض المسيحي، ولا سيما البروتستانتي، كان أيضاً يُمأسس في بريطانيا في تلك الفترة، حيث برز ما سمّي في حينه بـ«المسألة اليهودية» في خمسينيات القرن الثامن عشر من خلال قانون تجنيس اليهود المهاجرين من بلدان أوروبية أخرى. وقد تبعه بعد بضع سنوات بروز «المسألة الشرقية»، التي كانت تسعى إلى وضع أسس التعامل مع السلطنة العثمانية وما تمثله من مسلمين وشرقيين، والحد من نفوذها في أوروبا. وقد عززت الانتصارات الأوروبية على العثمانيين منذ أواخر القرن الثامن عشر الشعور بالتفوق العرقي الأوروبي المسيحي على العثمانيين، والذي لم يكون مطروحاً في فترة أوج نفوذ العثمانيين التي سبقت تلك الانتصارات. وكانت هذه هي المرجعية السياسية والدينية والفكرية لنشوء علوم اجتماعية ومن بعدها علوم بيولوجية أوروبية هدفها إثبات هذه الفوقية العرقية «موضوعياً».
ففي أواخر القرن الثامن عشر، برز علم الفيلولوجيا الذي قام بتصنيف اللغات المعروفة ما بين اللغات «الآرية»، أو الهندوأوروبية، واللغات «السامية»، وتم تصنيف اللغات الأخرى المختلفة عن هذين التصنيفين وعن بعضها البعض بتصنيف «الطورانية». وهذه البدعة الجديدة التي اندرجت تحت لواء العلم وصنفت اللغات العبرية والعربية والآرامية والأوغاريتية والأمهرية وغيرها باسم أحد أبناء نوح بحسب سفر التكوين التوراتي، والذي يرد اسمه بصيغة «شِم» ويعني «اسم» بالعبرية، ويرد في التقليد الإسلامي بصيغة «سام». وما يعنيه ذلك هو أن ما أصبح يسمى باللغات «السامية» هي اللغات «الاسمية». ولكن ما لبثت هذه التصنيفات اللغوية أن تحولت في القرن التاسع عشر إلى تصنيفات بيولوجية عرقية معتمدةً ذات التسميات الفيلولوجية في اختراعها للعرق «الآري» والعرق «السامي»، وانضوى تحت التصنيف الأخير العرب واليهود، على الرغم من أن يهود أوروبا لم يكونوا يتكلمون العبرية، وكانوا، شأنهم شأن مسيحيي أوروبا، أوروبيين اعتنقوا اليهودية كما اعتنق مسيحيو أوروبا المسيحية. لكن التصنيفات الجديدة أخرجت يهود أوروبا من أوروبيتهم واعتبرتهم من أحفاد العبرانيين الفلسطينيين القدماء.
أمّا أصول الفكر العنصري والتفوقي الأوروبي ضد العرب والمسلمين فهي بدون شك دينية، بمعنى أن مسيحيي أوروبا كانوا قد اعتنقوا ديانة برزت في فلسطين التي غدت تحت حكم المسلمين، وهو ما حفّز على قيام حروب الفرنجة («الصليبية») في القرن الحادي عشر وما بعده، واستخدم كحجة أيضاً لغزو فلسطين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين وطرد يهود أوروبا إليها الذي بدأ منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأصبح مشروعاً عالمياً بمساعدة الحركة الصهيونية في أوائل القرن العشرين. وقد واكب هذه الحجة بروز حركة عشق الإغريق «الفيلهيلينية» في أوروبا القرن الثامن عشر، ولا سيما في ألمانيا، ومن بعدها في بريطانيا وفرنسا، واعتبار اليونان التي اختطفت من منطقة شرق المتوسط على أنها أصل الحضارة «الأوروبية الغربية» والشروع بضمها إلى أوروبا و«الغرب» وضرورة «تحريرها» من المسلمين. وقد واكب مأسسة عشق الإغريق أيضاً ظهور الحركات البروتستانتية الأصولية والتبشيرية المتعصبة في بريطانيا وألمانيا خصيصاً، والتي نادت باعتناق اليهود للبروتستانتية وإرسالهم إلى فلسطين كي يعجلوا بالقدوم الثاني للمسيح بحسب الأصولية البروتستانتية.
وباختصار، قام الفكر الأوروبي بضم اليونانيين الشرقيين إلى أوروبا والغرب في ذات الوقت الذي قام فيه بنفي اليهود الأوروبيين إلى الشرق. وهكذا نشأت ضرورة غزو القسطنطينية والقدس وإخضاعهما لحكم مسيحي أوروبي. فعندما وقّع الفرنسيون والبريطانيون اتفاقية سايكس - بيكو السيئة الذكر في عام ١٩١٦، وقّعوها تحت موافقة روسيا، حيث اشتملت الاتفاقية ليس فقط على تقسيم الهلال الخصيب وإخضاع القدس للحكم الأوروبي، ولكن أيضاً اشتملت على إخضاع القسطنطينية، أو اسطنبول، لحكم قيصر روسيا. لكن الثورة الروسية نشرت نص الاتفاقية التآمرية وفضحت موقّعيها والدور القيصري فيها، حيث أعلن الشيوعيون أن لا مطامع لهم في إسطنبول وأن المدينة ستبقى مدينة مسلمة.
تضافرت كل هذه العوامل في عملية إنتاج فكرة التفوق العرقي الأوروبي. فقد كان القرن التاسع عشر القرن الذي أنتج التبريرات الأساسية للمشروع الاستعماري وأنتج أيديولوجيا متكاملة الأركان. فبالإضافة إلى النظريات العلمية التي «أثبتت» تفوق الأوروبيين البيض على باقي شعوب الأرض، فقد أنتج الفكر الاجتماعي والفلسفي الأوروبي مفهومَي «الحضارة» و«الثقافة» في تلك الفترة واعتبر أوروبا الغربية والشمالية على أنها تقف على قمة السلّم الحضاري، ما يفرض عليها نشر حضارتها بين البرابرة من الشعوب الأخرى. ومفهوما الحضارة والثقافة هما مفهومان رأسماليان يحتفيان بالإنجازات البورجوازية الأوروبية من علم وأدب وفن منذ القرن الثامن عشر، التي أنتجت بتمويل استعماري، وهو نفس التمويل الذي أدى إلى قيام الثورة الصناعية في بريطانيا.
لكن في نصف القرن الماضي، وبعد فقدان الفكر العرقي هالته العلمية والسياسية، ولا سيما بعد صعود النازية وقتلها لأكثر من خمسين مليون أوروبي أبيض في الحرب العالمية الثانية بحجة منزلتهم العرقية المتدنية، برز مفهوم «الثقافة» (ومن بعده مفهوم «الحقوق») بوصفه المفهوم الأكثر مرونة، والذي من خلال تعديله يمكن لمعظم (لكن ليس جميع) شعوب العالم أن تنضم إلى أوروبا وتنتهج نهجها الثقافي عبر تبنّيها للثقافة الأوروبية، التي يعتبرها الأوروبيون ومن يحذو حذوهم أسمى ثقافة إنسانية على وجه البسيطة، أو دحر كل ما يخالف الثقافة الأوروبية في ثقافتها الأصلية. وهكذا تم تغليف التفوق العرقي الأبيض البيولوجي بغلاف الثقافة.
إذاً، قامت الفوقية العرقية الأوروبية بابتكار أيديولوجيا تمكنت من خلالها من أن تمنح ذاتها أسباباً أخلاقية، ودينية، وحضارية، وثقافية، فضلاً عن رأسمالية، لغزو بقية العالم واستغلال شعوبه وكنوزه ومراكمتها بأيدي الرأسماليين البيض الأوروبيين. ويتم تعديل بعض مفردات هذه الأيديولوجيا الرأسمالية لمواكبة لغة العصر. فإذا كان عنوان الاستعمار الأوروبي الرأسمالي، أو الإمبريالية باختصار، في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين قد أدرج تحت اسم «المهمة الحضارية»، فقد أصبح الاستعمار الجديد (أو النيو - كولونيالية) بعد الحرب العالمية الثانية يدرج تحت اسم «التنمية»، أمّا في العصر النيوليبرالي الذي برز منذ السبعينيات، فقد تم إدراج مشروع عولمة رأس المال الإمبريالي تحت اسم نشر «الديموقراطية»، وتعزز مفردات المراحل الثلاث الفوقية العرقية الأوروبية في سبيل النهب الرأسمالي للكرة الأرضية.
ما يجمع بين عنصرية الاستعمار الصهيوني وعنصرية الغرب منذ عام ١٩٤٨ هو عملية تحويل يهود أوروبا من آسيويين إلى أوروبيين يتعاطف معهم الغرب ككل على أنهم جزء منه، كما يجمع بينهما الالتزام بالاستيطان الاستعماري الأوروبي وفوقية العرق والثقافة الأوروبيتين


كيف نفسّر تخلّي الغرب، مع نهاية الاستعمار المباشر في القرن العشرين، عن نمط العنصرية هذا الذي ساد لديه وتراجعه رسمياً عن المقولات التمييزية والاضطهادية وتجريمها؟
- بعد صعود النازية وإبادتها لعشرات الملايين في الحرب العالمية الثانية، أخذت العنصرية الفجة تتضاءل في الخطاب الرأسمالي الأوروبي، ولا سيما في الخمسينيات عندما بدأ عهد الاستقلال في آسيا وإفريقيا وبدأت تتوجه معظم البلاد المستقلة إلى التحالف مع الاتحاد السوفياتي ومع الصين نتيجة مواقفهما المبدئية ضد العنصرية، بينما كان سود الولايات المتحدة يقبعون تحت نير نظام «جيم كرو» العنصري حتى منتصف الستينيات على الأقل، حيث لم تلغَ آخر القوانين العنصرية حتى السبعينيات. لكن الإمبريالية الأميركية قررت التخفيف من عنصريتها في عام ١٩٥٤ استجابة لمطالب سود الولايات المتحدة عبر استصدار قانون يبطل الفصل العنصري في المدارس، وكان ذلك يهدف أيضاً إلى الترويج عند البلاد المستقلة بأن الولايات المتحدة لم تعد دولة عنصرية، كي تتجه الأخيرة في تحالفاتها نحوها. في ذات الوقت ومنذ الستينيات، قررت الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل أن تروّجا لأكاذيب مفادها أن الاتحاد السوفياتي ينتهج سياسة لاسامية ضد اليهود وتم تشبيهه بألمانيا النازية. لقد كانت هذه الحملة تهدف إلى مساعدة إسرائيل من خلال إرغام الاتحاد السوفياتي على السماح لمواطنيه اليهود بالهجرة والاستيطان في وطن الفلسطينيين، وفي نفس الوقت الترويج بأن السوفيات هم العنصريون وليس الولايات المتحدة، التي استمرت فيها مأسسة العنصرية التي قامت عليها الدولة منذ ولادتها.
وبما أن العلوم البيولوجية التي أنتجت علم الأعراق و«أثبتت» فوقية العرق الأبيض والتي استخدمها النازيون لتبرير مجازرهم (وكان علماء الأعراق الألمان قد استفادوا بقدر عظيم من أقرانهم البيض الأمريكان الذين تفوقوا في إنتاج العلوم العرقية من قبلهم)، نزّه العلم الإمبريالي نفسه عن هذه العلوم بعد الحرب العالمية الثانية، نافياً أن يكون «العرق» صفة علمية، حيث الاختلافات الجينية بين أشخاص ينتمون إلى العرق الواحد المزعوم أكثر منها في ما بين أشخاص ينتمون إلى أعراق مختلفة. وهنا برز موضوع الثقافة على أنه العامل المؤثر على مستوى الشعوب في التقدم العلمي والحضاري بدل العرق، وضرورة تأقلم ثقافات غير البيض وتكيّفها مع أرقى ثقافة إنسانية، ألا وهي ثقافة البيض. وتمت الاستعانة بأفراد ينتمون إلى الأقليات، لكنهم متحالفون مع مضطهدي شعوبهم كي يتبرعوا بمقولات عن «تأخر» ثقافات شعوبهم وبربريتها وضرورة تغييرها وتبنيها الثقافة الأوروبية الأرقى. وقد تم تصنيف الثقافات تبعاً لعلم الأنثروبولوجيا الاستعماري عبر مفهومَي «التنموية» و«الآخرية الجذرية»: الأولى تعني أن الغرب سيتبع سياسات تساعد في «تنمية» ثقافات قابلة للتكيف كي تصبح قريبة من الثقافة الأوروبية البيضاء، بينما الثقافات التي تمثل «الآخرية الجذرية» فيجب هدمها عن بكرة أبيها وإعادة بنائها عبر سياسات تنموية تتبع عملية هدمها (والنهج الثاني هو الذي اتبعته الإمبريالية في العراق وأفغانستان).
وهكذا غدت المحرقة والاضطهاد النازي ليهود أوروبا العنصرية الوحيدة التي تبغضها أوروبا وبيض الولايات المتحدة، أمّا مثلاً شعب الروما (أو ما يسمى بـ«الغجر») الذي قتل النازيون منه نصف مليون شخص، فلا يزال أبناؤه يطردون من أوروبا الغربية ويضطهدون من قبل حكوماتها وأجهزتها الأمنية ويُحتقَرون من قبل شعوبها. أمّا جرائم الاستعمار العنصرية والتي قتلت ملايين عبر العالم لا تحصى فلا يمكن إدراجها في نفس منزلة العنصرية النازية تجاه اليهود بحسب الفكر الإمبريالي. وهذا التقييم الأوروبي العنصري هو ما دفع المفكر والأديب الكاريبي إيميه سيزير إلى وصف النازية بأنها ليست أكثر من استدخال الاستعمار الذي استخدم خارج أوروبا، والذي مارس القتل والإبادة ضد الشعوب غير الأوروبية، في قلب أوروبا واضطهاد الأوروبيين هذه المرة. يصرّ سيزير على أن الهلع الذي يشعر به الأوروبيون وبيض الولايات المتحدة تجاه المحرقة والنازيين ليس هلعاً من هول الجريمة التي ارتكبها هؤلاء، بل من أن ضحاياها كانوا أوروبيين، حيث لم يشعر الأوروبيون والبيض عموماً، قبل المحرقة أو بعدها، بالهلع إزاء جرائمهم العنصرية المستمرة تجاه الشعوب غير البيضاء.
كان يروّج بين ليبراليي الولايات المتحدة وأوروبا عن أن معظم الألمان كانوا يقضون يومهم على شواطئ البحر في ١ أيلول/ سبتمبر ١٩٣٩ عندما غزا الجيش الألماني بولندا، غير مكترثين بالجرائم التي ترتكب باسمهم. لكن نفس هؤلاء الليبراليين هم من كان يقضي ليلة قصف بغداد في ١٧ كانون الثاني/ يناير ١٩٩١ بالقنابل المدمرة في البارات ويشاهدون المشاهد المروعة على الهواء باستمتاع وكأنها لعبة من الألعاب الإلكترونية.
هنا بدأ الخطاب الليبرالي يمتاز بالإشادة بما يسميه «التسامح» مع الثقافات الأخرى، إلا أنه لا يتسامح إلا مع الثقافات التي تشبهه، ويرفض التسامح مع الثقافات التي يحكم عليها بأنها هي «غير المتسامحة». هذا اللغط المنطقي هو ما يروّج له ليبراليو الغرب والليبراليون التابعون في العالم الثالث، ولا سيما العرب منهم. فالليبراليون العلمانيون العرب هم من لا يتسامح مع الإسلاميين، سواء كانوا ليبراليين أو محافظين. فالليبراليون العلمانيون هم من أيّد، بل من نادى، بانقلابات عسكرية على الإسلاميين بعدما هزموا الليبراليين العلمانيين في الانتخابات، إن كان ذلك في الجزائر، أو في فلسطين، أو مصر. ويروّج الليبراليون للحقوق الفردية السياسية ولا يذكرون إلا لماماً الحقوق الاقتصادية، رغم أنها هي لبّ الهجمة النيو - ليبرالية الإمبريالية التي هدمت بنية دولة الرفاه الاجتماعي حول العالم منذ بزوغ عهد العولمة وأفقرت شعوب العالم قاطبة.
على أيّ حال، لم تزل سياسات الإمبريالية وفكر النخبة الفكرية فيها يتسم بعنصرية بغيضة. فمثلاً منذ بضعة أسابيع، عبّر شيخ الليبراليين العرب، توماس فريدمان، عن نقده لسياسات نتنياهو التي تقوّض الديموقراطية العرقية التي يتمتع بها المستوطنون اليهود في إسرائيل، بينما كان يشيد بالمملكة الأردنية ونظامها الأوتوقراطي كونها دولة «عازلة» تحمي إسرائيل بحسبه – أي أن الديموقراطية أساسية لليهود الأوروبيين بنفس قدر أهمية الأوتوقراطية التي يجب فرضها على العرب والتي من دونها لن يستطيع حكامهم حماية إسرائيل.
ويمكن أن نرى استمرار انتهاج السياسات العنصرية ليس فقط في السياسات الاقتصادية والدولية وفي الخطاب السياسي والفكري الذي أعيد إنتاجه في تسعينيات القرن الماضي تحت تسمية «صراع الحضارات»، بل أيضاً في السياسات الطبية التي توزع أدوية ومطاعيم على أطفال العالم الثالث يمنع استخدامها في الغرب نظراً إلى رداءتها، أو تستعين ببيانات لاستطلاع الرأي في أبحاثها الاجتماعية، ولا سيما بالنسبة إلى دراسات مسألة المرأة، ثبت عدم جدواها وعدم دقتها في الغرب وبطل استخدامها هناك، لكن يتم استخدامها رغم ذلك في دراسة البلاد العربية. يجدر التذكير هنا بالسياسات العنصرية التي اتبعت أثناء جائحة كورونا، حيث لم يتم توزيع المطاعيم على بلاد العالم الثالث إلا بعد توزيعها على أوروبا، عدا عن بيع دول إفريقية المطاعيم بأكثر من ضعف السعر الذي دفعته الدول الأوروبية.
إذاً، لم يتخلّ معظم الغرب عن سياساته ومقولاته العنصرية (باستثناء فرنسا وإسرائيل اللتين ما انفكتا تستخدمان لغة عنصرية فجة في خطابهما السياسي بدون وجل ولا خجل)، بل فقط استنبط كلاماً ثقافوياً منمّقاً لتغليفها لا أكثر.

مفهوما الحضارة والثقافة هما مفهومان رأسماليان يحتفيان بالإنجازات البرجوازية الأوروبية من علم وأدب وفن منذ القرن الثامن عشر، التي أنتجت بتمويل استعماري، وهو نفس التمويل الذي أدى إلى قيام الثورة الصناعية في بريطانيا


يقدّم التيار الليبرالي الغربي نفسه اليوم «رائد» مكافحة أشكال التمييز والاضطهاد ضد الجماعات والأفراد، إلا أنك شبّهت مقاطعته الثقافية للروس، إثر حرب أوكرانيا، بالفاشية والنازية، وعزوت المقاطعة إلى «الازدراء العنصري». كما أنك، تعليقاً على سجال حول قضية اللاجئين والمهاجرين، قلت إنّ العنصرية المؤسسية في أوروبا ضد الشعوب غير البيضاء آخذة في التزايد. إلى أيّ حد تحرّك النزعة العنصرية السياسات الأميركية والأوروبية اليوم؟
- كان الليبراليون الغربيون دائماً في مقدمة المروّجين للحروب الإمبريالية، ولا سيما أن المحافظين كانوا إجمالاً انعزاليين ويرفضون الخوض في حروب خارجية، وذلك لغاية عهد ريغان وثاتشر اللذين غيّرا مسار المحافظين، فأصبح الليبراليون والمحافظون من عشاق الحروب الإمبريالية معاً. نرى اليوم تراجعاً في موقف المحافظين الذين ينتقدون الهجمة الغربية في أوكرانيا والتي أدّت إلى التدخل العسكري الروسي، بينما الليبراليون يهلّلون للحرب وبعضهم يروّج لاستخدام أسلحة ذرية ضد روسيا. أمّا النخبة الليبرالية الثقافية فهي التي روّجت لمقاطعة روسيا ثقافياً عبر طرد قادة أوركسترا روس ومغنيات أوبرا روس من نيويورك وبرلين وسحبت كتب دوستويفسكي في إيطاليا ومنعت مشاركة قطط روسية في مسابقة للقطط في فرنسا، إلى آخره من هذه الممارسات، وهذا النوع من المقاطعة الثقافية بالفعل يشبه المقاطعات الفاشية العنصرية.
صعود العنصرية ضد الجاليات الآسيوية والإفريقية في بريطانيا (ولا سيما الهنود والباكستانيين والأفارقة الكاريبيين) وألمانيا (الأتراك والعرب)، وفرنسا (العرب المسلمين والأفارقة من العرب وغير العرب) وهولندا (المغاربة والأتراك)، وإسبانيا والسويد وإيطاليا (العرب والأفارقة أيضاً)، لا يختلف في جوهره عن صعوده في الولايات المتحدة ضد المهاجرين من أصول لاتينية، عدا عن الجاليات العربية وغير العربية من المسلمين. من يروج لانتهاج سياسات عنصرية ضد كل هؤلاء المهاجرين اليوم هو اليمين (باستثناء فرنسا التي يشارك يسارها في الحملة على المسلمين بحدة أكبر من اليمين)، لكن اليسار هو من روّج عبر العقود الماضية لمعظم الحجج التي يستند إليها اليمين اليوم. فإن كان اليسار الإمبريالي قد روّج ضد حقوق المهاجرين في السابق تحت حجة أن رأس المال يستغلهم، وعبر استغلالهم يحارب حقوق العمال المواطنين، ولا سيما البيض، فإن اليمين اليوم يصرّ على أن ما يفقر العمال البيض ليس رأس المال الإمبريالي المعولم الذي هجر الولايات المتحدة وأوروبا وفتح مصانع في العالم الثالث لاستغلال العمّال المحليين الذين يفتقرون إلى الحقوق نتيجة قمع أنظمتهم الحاكمة التابعة للولايات المتحدة والتي تمتثل لأوامرها، بل هم العمّال المهاجرون من غير البيض الذين يسرقون الوظائف من العمّال البيض. الحل الذي يقدّمه دونالد ترامب ونظراؤه الأوروبيون هو أنّ على العمّال البيض التخلّي عن حقوقهم التي حاربوا من أجلها منذ أواخر القرن التاسع عشر كي يجذبوا رأس المال الهارب إلى الخارج كي يعود ويستغلهم كما يستغل عمّال العالم الثالث. وكانت الحركات العمّالية الأوروبية والأميركية من العمّال البيض قد حصلت على تنازلات جمة من رأس المال الإمبريالي حتى السبعينيات من القرن الماضي نتيجة تخوف الأخير من صعود الشيوعية وانتشارها في الحركة العمّالية، وإن كانت المكاسب التي حصلت عليها الحركة العمّالية أتت على حساب الشعوب المستعمَرة، ما أدّى بلينين إلى تسمية الحركات العمّالية في الغرب بـ«أرستقراطية العمل».
من الجدير بالملاحظة في هذه الطروحات، ولا سيما عند اليسار، هو أن اليسار لم ينتقد العمالة النسائية التي بدأ رأس المال الإمبريالي في استغلالها منذ الستينيات بأجور أقل من الرجال كي يقصم ظهر النقابات العمّالية التي كانت تطالب بأجور عالية لعمّالها الرجال. بما أن رأس المال استقدم العمّال المهاجرين من غير البيض لاستغلالهم بأجور أقل وأدخل النساء في منظومة العمل وبأجور أقل لنفس السبب، يستغرب المرء عدم نقد الليبراليين للكيفية التي تم فيها استغلال النساء من أجل هزيمة الحركة العمّالية، بل يتغنى الليبراليون عادة بالنسوية المزعومة لرأس المال الأبيض، وإن كانوا ينتقدون تقاضي النساء أجوراً أقل من الرجال.
هنالك اليوم تياران عنصريان مكملان لبعضهما البعض، الأول يتمثّل بضرورة تمثيل النساء والأقليات من المُنضوين تحت مظلة الثقافة الأوروبية في الهياكل الحاكمة من الواحد بالمئة من الذين يسيطرون على كوكبنا، عبر انضمام عدد من النساء وبعض السود والمثليين لمجالس إدارتها. ومن ثم يتم الترويج لعضوية هؤلاء على أنها تثبت عدم وجود عنصرية أو تمييز في المجتمعات الغربية. ويتم تدريب نخب العالم الثالث على اعتناق هذه المنظومة الليبرالية العنصرية في المنظمات غير الحكومية المنتشرة عبر العالم كممثلين عن شعوبهم، فيما هم لا يمثلون إلا أنفسهم، وإن كانوا يطرحون أنفسهم كمترجمين للثقافة المحلية أمام الغرب وكمترجمين لأيديولوجيا الليبرالية الغربية، التي يعتبرونها عالمية، لشعوبهم. ألم يروّج الكثيرون بأن انتخاب باراك أوباما، المعادي لمصالح السود، يثبت انتهاء العنصرية في الولايات المتحدة، بينما كان انتخابه، في حقيقة الأمر، أكبر مكسب لليبراليين البيض والنيو - ليبراليين من أصحاب رأس المال المعولم لا غير. أمّا التيار الثاني فيشمل إرغام غير البيض على اعتناق الثقافة الأوروبية خانعين، كما يفعل الفرنسيون والألمان والهولنديون والإيطاليون إلخ، بالجاليات العربية والإفريقية والمسلمة، وكما يفعل الأميركيون بمجتمعات السود واللاتينيين والمسلمين.

في معرض تعليقك على تصريح جوزيب بوريل «أوروبا حديقة وبقية العالم غابة»، اعتبرت أنّ المقولة استعارة لمقولة لإيهود باراك «إسرائيل فيلا وسط غابة». ما الذي يجمع بين عنصرية الاستعمار الصهيوني وعنصرية الغرب؟
- لقد كانت الأسس الأيديولوجية للحركة الصهيونية منذ انطلاقها مستمدة من العنصرية الأوروبية اللاسامية. فكما اعتبرت اللاسامية اليهود بأنهم عرق سامي غير آري وبأن أصولهم آسيوية، استدخلت الصهيونية هذا الفكر بالكامل. وفيما زعمت اللاسامية أن اليهود هم من يتسبّب باللاسامية لأنهم يعيشون في المجتمعات الأوروبية غير اليهودية، اتفقت الصهيونية أيضاً مع هذا الطرح وطالبت، شأنها شأن اللاساميين، بإجلاء اليهود من أوروبا. وقد طالبت الصهيونية بدولة حصرية لليهود في المستعمرات الأوروبية لا في داخل أوروبا نتيجة فهمها أنه لن يسمح لليهود بتهجير الأوروبيين المسيحيين واستملاك أراضيهم لإقامة دولة، لكنه سيسمح لليهود بإقامة دولة على أراضي شعوب من غير البيض. لذلك كانت اختيارات الصهاينة للأرجنتين وفلسطين وكينيا وسورينام وأوستراليا وأنغولا وليبيا وسيناء وقبرص، وغيرها من المناطق الخاضعة للاستعمار، ولم تخطّط أبداً لبناء دولتها في أوروبا.
سعت حركة الهسكلاه (أو حركة التنوير اليهودية) في القرن التاسع عشر، والتي تأثّرت بها الصهيونية في ما بعد، إلى تحويل الدين اليهودي إلى دين أقرب إلى البروتستانتية، فأنشأت طائفة اليهود الإصلاحيين، وأصرّت على أن على اليهود اعتناق الثقافة الأوروبية الغربية العلمانية كي ينضمّوا إلى الحضارة الأوروبية (يذكّرنا هذا بمشاريع الليبراليين العرب الثقافية والدينية اليوم وبمشاريع بعض المفكرين العرب في عصر النهضة وعصر الاستعمار). ومع أن الصهيونية كانت قد اتفقت مع هذه الطروحات، إلا أنها أدركت أن اللاساميين لن يسمحوا لليهود بأن يصبحوا أوروبيين في أوروبا وأنهم مهما تأوربوا (بمعنى أنهم تبنّوا الثقافة الأوروبية) فسيبقون آسيويين في نظر اللاساميين. فكان الطرح الصهيوني هو أن اليهود سيبقون آسيويين في أوروبا، لكنهم سيصبحون أوروبيين في آسيا. وكان لهم هذا.
بالإضافة إلى تبنّي الصهيونية النظرة اللاسامية إلى يهود أوروبا، ولا سيما يهود شرق أوروبا، واحتقارها لثقافتهم، واعتبار اليهود «شعباً بورجوازياً» بحسب ثيودور هرتسل، الذي نهل معظم فكره وآرائه من معين اللاسامية، بينما كان معظم يهود أوروبا في تلك الفترة من الفقراء، أسقط الصهاينة هذه النظرة أيضاً على اليهود العرب الذين احتقروهم وانتهجوا سياسة تحويلهم إلى أوروبيين عبر فرض ثقافة أوروبا البروتستانتية عليهم كما فعلوا مع يهود أوروبا من قبلهم.
ولم يسقط الصهاينة فكرهم العرقي اللاسامي هذا على اليهود فحسب، بل أيضاً على الفلسطينيين، وذلك بعد إتمام أوربة اليهود عبر الاستيطان والتحالف مع الإمبريالية العالمية ومع حركات الاستيطان الأوروبية الأخرى، ولا سيما في جنوب إفريقيا والجزائر. فخطاب الحركة الصهيونية الرئيس عن الفلسطينيين منذ نشوئها يطرح الأخيرين كما طرح المستوطنون البيض في الأميركتين الشعوب الهندية الأصلية، أي أنهم شعوب ليس لها الحق في الأراضي التي تعيش عليها لأنهم لا يعملون على تحسينها، وهي الحجة التي قدّمها عميد الليبرالية الغربية، المفكر الإنكليزي جون لوك، في القرن السابع عشر، لتبرير نهب أراضي الشعوب الأصلية. كما استخدمت الصهيونية الحجج اللاسامية بأن اليهود الأوروبيين من أحفاد العبرانيين القدماء وأن استيطانهم في فلسطين هو «عودة» إلى وطن الأجداد وأنّ الفلسطينيين هم المستوطنون في أرض اليهود، وهي حجج اقترضتها أيضاً من الاستعمار الفرنسي والإيطالي اللذين زعما أن احتلالهما للجزائر وليبيا كان «عودة» إلى ربوع الإمبراطورية الرومانية، التي هم من أبنائها، وإنّ سكّان شمال إفريقيا العرب هم المستعمِرون. بالإضافة إلى ذلك، فقد شارك الصهاينة في إنتاج فكر استشراقي عنصري بغيض عن العرب والمسلمين عموماً، ولا يزالون من أهم منتجيه. هذه هي الخلفية التي تلهم إيهود باراك بوصف البلاد العربية بأنها أدغال بدائية، وبأن إسرائيل الأوروبية واحة من الحضارة.
ما يجمع بين عنصرية الاستعمار الصهيوني وعنصرية الغرب منذ عام ١٩٤٨ هو عملية تحويل يهود أوروبا من آسيويين إلى أوروبيين يتعاطف معهم الغرب ككل على أنهم جزء منه، كما يجمع بينهما الالتزام بالاستيطان الاستعماري الأوروبي وفوقية العرق والثقافة الأوروبيتين. وهذه نقطة التقاء أساسية مع العنصرية الأوروبية والأميركية.