ظهر في الآونة الأخيرة حزبٌ سياسيّ عراقيّ ناشئ يُدعى «حزب أمارجي الليبرالي»، وهو يجمع في اسمه صفتين تحملان دلالتين مختلفتين؛ يدعو في شعارهِ إلى «أُمّة عراقية» تستحضر إرث حضارة وادي الرافدين، وتبدو هذه الدعوة صريحة من كلمة «أمارجي» السومرية التي تعني «الحرية» أو «العتق». وهو، في المقابل، ليبراليّ التوجّه، كما هو واضح في اسم الحزب.جاء الاهتمام بنقد هذا الحزب لأن الفكرة التي يقوم عليها تبدو مستحدثة، ولئن كان شعار «الأمّة العراقية» ظهر قبل عقود في الساحة السياسية العراقية منذ أيام الملك فيصل، إلا هذه المرة ترتبط دعوة الأمّة العراقية بحضارة وادي الرافدين، وهي، في تقديري، دعوة هزيلة وانتهازية وعنصرية في الوقت ذاته، من شأنها ترسيخ الحالة الانعزالية للعراق والسحق على هُويته العربية الصريحة. إذ تدعو إلى مجتمع أمّة واحدة مغلق، وتتعكّز على أساس حضارة غابرة منقطعة من أجل تحقيق مكاسب سياسية. ولكيلا يتصوّر البعض أن هذا الحزب مختلف تماماً، وأنه نقلة نوعية في الوعي السياسي العراقي، سأحاول في هذه المقالة التطرّق إلى تناقضاته بناءً على توجهه وشعاره، ولا سيما التضاد بين دولة الأمّة الحضارية والدولة الليبرالية.
في ما خصّ شعار «الأمّة العراقية» الذي عاود الظهور أخيراً، كتب الباحث العراقي علاء اللامي في مقال حول هشاشة هذا المصطلح: «للتدليل على انعدام القيمة السوسيولوجية لهذا الكلام، يمكن أن تستبدل عبارة «الأمة العراقية» بعبارات أخرى من قبيل «الشعب العراقي»، أو «الجماهير العراقية»، أو «المجتمع العراقي»، من دون أن يتغيّر المضمون (...) وعلى هذا يمكننا أن نستنتج أنّ الذين أطلقوا على أحزابهم في الأربعينيات من القرن الماضي اسم «الأمة» أو «الأمة العراقية»، لم يكونوا يختلفون عن دعاة «الأمة العراقية» اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي. فهم كانوا يقصدون ضمن ترسيمات النثر الإنشائي، الشعب أو المجتمع أو الجماهير أو الناس... إلخ، من دون أن يتأثر المعنى. والسبب بسيط جداً، إذ لا وجود لأيّ معنى محسوب بدقة علمية. إنّهم لا يقصدون الأمة كمصطلح ومفهوم علمي محدد ذي اشتراطات وسمات واضحة ومبرهَن عليها» («الأخبار»، «الأمة العراقية: جذور المصطلح وانبعاثه الجديد»، 20 كانون الأول 2011).
إنّ الحزب، ووفق شعاره المُعلن، يدعو إلى دولة أمّة حضارية عراقية فريدة ذات خلفية تراثية رافدينية غير خاضعة لنظام عالمي أو إقليمي عربي، بل ويدعو إلى انسلاخ العراق عن الانتماء العربي، ولكن الغريب أن هذه الدعوة تتناقض مع التوجه الليبرالي للحزب. فكما هو معروف، فإنّ الدولة القومية الحضارية، أو دولة الأمّة الواحدة، هي النقيض التام للدولة الليبرالية، لأن الليبرالية بمعناها التقدّمي لا تؤمن بالدولة القومية القائمة على الموروث الحضاري والعرقية.
تأسّست الليبرالية للتحرّر من الحسّ القومي العنصري وشجبت الحياة في دولة قومية منفردة باعتبارها مقيدة وفقيرة، وهكذا ظهرت الليبرالية للإطاحة بالملكيات الموروثة والنظام الكنسي القديم، فكيف يمكن الجمع بين الدعوة إلى هُوية شعارها الأمّة المتصلة بحضارة عتيقة وبين الليبرالية التي تتجاوز هذه القيود وتسعى إلى نظام عالمي موحد وإلى دولة دستورية تحترم الجميع وتقف بالضد من كراهية الأجانب أو الشعور بالتفوق على الآخرين؟ أليس الفكر الليبرالي يعارض أساساً الاختزال الجيني والقومية الإثنية بمعناها الجغرافي الضيق؟
جاء في بحث لأستاذ الفلسفة السياسية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية البروفيسور بول كيلي، أن الفيلسوف النمسوي الليبرالي الشهير فريدريش هايك، اعتبرَ فكرة قومية الدولة تهديداً للنظام الدولي الليبرالي لأنها تفرض تصوراً سياسياً تعسفياً. يرى هايك الهُوية القومية على أنها بناء مصطنع مفروض على الشعب. ومثل هايك، المؤرخ والسياسي الإنكليزي لورد أكتون، الذي يرى قومية الدولة تهديداً للحرية والنظام الليبرالي، مؤكداً على أهمية التعددية السياسية. رفض أكتون وهايك هذه الاستراتيجية باعتبارها شكلاً أيديولوجياً زائفاً للسياسة.
تستند الدولة الحضارية وكما هو معروف إلى إطار شامل للحياة الاجتماعية والسياسية يشمل بالدرجة الأساس اللغة والتاريخ والعرقية، بينما تسعى الليبرالية إلى تجاوز هذه العناصر وتطالب بالتطبيق العالمي لقيمها ومبادئها.
إنّ رفع شعار الأمّة العراقية هو دعوة قومية مناطقيّة، لأنها تفترض وجود شعب عراقي مختلف عن محيطه وله مميزات فريدة، ولكن على أرض الواقع لا نجد أثراً لذلك. من هذا المنطلق، فإنّ الدعوة إلى دولة باسم الحضارة الغابرة، تعني التخلي عن الانفتاح والانقطاع عن التاريخ العربي الذي يتشابك معه العراق بقوة، وهكذا يمكن للعراقي، بحسب دعوة «أمارجي»، أن يزهو بنفسه أمام العالم بوصفه إنساناً عراقياً رافدينياً ذا شأن عالٍ ولا يشبه غيره.
يذكر اللامي أن ثمّة أخطاراً تصاحب هذه الدعوة، منها «استغلال تلك التجربة وتجييرها من قبل عناصرَ انتهازية ومتسلّقة سياسياً، بحثاً عن دور في السوق السياسي العراقي، وكذلك تمرير وترسيخ الكثير من الأوهام السياسية والنظرية العدمية والانعزالية الخطيرة التي تستهدف هوية العراق الحضارية، العربية الإسلامية، بحجة الخصوصية العراقية، وبزعم مهاجمة الأصنام القومية المتطرفة من النوع البعثي، فيما هي تؤسس لأصنام لا تختلف نوعاً عن تلك».
إذا كانت دولة الأمّة منطوية على رؤية معينة، سيتحتّم عليها استبعاد كل بديل سياسي أو هُوياتي ممكن، وأمّا الليبراليون فهم يدعون إلى نوع مختلف من الدولة، يعترف بإمكانات من الحرية الواسعة والتنوع الذي لا حصر له، ولهذا السبب بالتحديد تسمح الدول الليبرالية لأحزاب وأعراق وأديان ولغات متعددة بالازدهار، في حين أن الدول القومية، لا تفعل ذلك أو تسعى إلى إخضاع هذه التعدّدات لفكرة حضارية واحدة.
من جهة أخرى، إنّ دولة الأمّة الحضارية مُتجذّرة في فلسفة سياسية وليس في هُوية. الهُوية تنبثق عن وعي بالانتماء إلى حضارة واسعة لها صلة بالواقع والتاريخ القريب الذي يستمر بتأثيره على المجتمع، مثلاً هُوية أوروبية أو هُوية عربية.
بالطبع ليس من الخطأ أن يدعو حزب ما إلى دولة قائمة على حضارة، ولكن الخطأ الأوّل هو أن لا تتطابق هذه الدعوة مع الواقع كما في حالة العراق، على عكس الصين على سبيل المقارنة. والخطأ الثاني هو دمج هُوية الدولة المتصلة بحضارة، كما يدعو «أمارجي»، مع القيم الليبرالية الغربية الدخيلة. ماذا يمكن حقاً أن نسمي هذه الخلطة السحرية المتناقضة؟
إذا كان «حزب أمارجي الليبرالي» يستند إلى فكرة «الأمّة العراقية المرتبطة بالحضارة السومرية» فمن المفترض أن يتجنّب ذكر صفة «الليبرالي»، وإذا كان الحزب ليبرالياً محضاً، فمن الصواب أن يتجنّب الدعوة إلى «أمّة عراقية ذات بُعد حضاري». إنّ هذا التناقض الذي يقف عليه الحزب في دعوته وتوجّهه، يكشف لنا عبثيّة الأحزاب السياسية في العراق وطيشها وضعف أفكارها واكتفائها بالثرثرة الإنشائية الإلكترونية، من أجل كسب ودّ الناس قبل الانتخابات ومن ثم ذوبانها التام في متاهة المحاصصة والمنافع.
إنّ تأسيس هُوية وطنية على أساس حضارة سحيقة ميتة هو دعوة مشوّهة وحلقة مفرغة لا تتطابق مع واقع العراق الحالي، ولا سيما على المستوى اللغوي والثقافي والديموغرافي. الزعم أن هناك حقاً أمّة عراقية فريدة تستحضر إرث السومريّين والبابليين هو وهم كبير، وخطوة نحو مجتمع استعلائي يزهو بنفسه بما لا يتطابق مع واقعه. أين هذه الأمّة العراقية المتجانسة منذ القِدم، وما هي مميزاتها ومقوماتها، وبماذا تختلف عن محيطها؟ ماذا لو طرحنا السؤال البسيط: ماهي لغة الأمّة العراقية؟ إذا قلنا العربية العراقية، فهو إقرار تام بأن هذه الأمّة لا تختلف عن بقية الأقطار العربية من الناحية اللغوية، فكيف لأمّة تستند إلى حضارة قديمة، ليس لها لغة خاصة بها، وتتبنى لُغة لا تمت لها بصلة؟ أليس من المفترض أن العراقيين يتكلمون اليوم اللغة السومرية أو اللغة الأكادية حتى نقول إنهم أبناء حضارة بلاد الرافدين؟ ثم لماذا أغلبية العراقيين اليوم ألقابهم ترتبط بقبائل عربية بمن فيهم مؤسّس حزب «أمارجي»؟ ما الذي يدفع إنساناً عربيّ النشأة واللغة والثقافة إلى الشعور بالانتماء لحضارة لا تتطابق مع كل ما هو مذكور؟
وحتى لو افترضنا أنه يمكن لليبرالية أن تتزاوج مع دولة الأمّة القومية، فإن هذا التزاوج سيظل هشاً وقابلاً للانهيار في أي لحظة وله أبعاد إقصائية. يورد كيلي في بحثه أن «الليبرالية والقومية رفيقان مضطربان في أحسن الأحوال. تنكر الأنطولوجيا الاجتماعية لليبرالية أولوية القومية باعتبارها تمثيلاً للمجتمع السياسي، وتنكر نظريتها الأخلاقية الأسبقية الأخلاقية للأمّة أو أي نوع آخر من المجتمع أو الارتباط بادعاءات الفرد بالمساواة في الرعاية والاحترام. وبالتالي، فإنّ الليبرالية لا يمكنها تلبية مطالب الاعتراف الوطني إلا بشروط ليبرالية».
لا يمكن اعتبار المجتمع العراقي الحالي مجموعة عرقية موحدة وتحكمه لغة واحدة متصلة بحضارة وادي الرافدين، وإنما مجتمع تغيّر بتعاقب السنين وانضمت إليه مجموعات من أصول مختلفة، يشكّل العرب غالبيته مع مجيء الإسلام وصعود بغداد كمركز للحضارة العربية الإسلامية.
من الأسباب التي تمنع اندماج دولة الأمّة الحضارية ذات الأبعاد القومية المناطقيّة مع المفهوم الليبرالي هو أن هذا الأمر معقّد جدّاً ومشروط ولا يمكن أن يكون بهذه السهولة، كما أنّ دولة الأمّة تعني الوقوف بالضد تجاه أي محاولة لإدخال أفكار مستوردة لأنها «قيم أجنبية» ودخيلة على الحضارة المحلية التي تُبنى الدولة باسمها وبهذا تفرض القيود على أفراد الدولة على عكس الليبرالية الغربية. كتب بول كيلي: «إنّ العلاقة الإيجابية بين المُثل والقيم الليبرالية والقومية مشروطة سياسياً وغير مستقرة على المدى الطويل (...) يعتقد بعض المنظرين الليبراليين أن منطق الليبرالية هو منطق نظام كوزموبوليتاني حيث تؤدي الحرية الشخصية وحركة الفرد الحرة إلى إضعاف روابط فئات الهُوية والهُوية القومية». نفهم من ذلك أن من الصعب التوفيق بين الأيديولوجيات القومية المحصورة في نطاق الدولة والمواقف الليبرالية التقدّمية، ولا سيما ملف الهجرة والانفتاح والتنوع الثقافي. تعمل دولة الأمّة بكفاءة عندما يكون لها سند حضاري مناسب يجد الانسجام في واقع الدولة، وعندما تكون أبعاد هذه الأمّة عميقة ومؤثرة في الحياة الاجتماعية.
تنتقد الباحثة المصرية نهى خالد، في مقالة، دمج قومية الدولة مع الليبرالية: «في كل الأحوال، تظل الدولة القومية الليبرالية عاجزة عن مواكبة الثراء الثقافي الشديد الذي اضطرت لمواجهته بعد أن نزلت من أبراج النظريات إلى أرض الواقع، ولعلها ستحتاج إلى التخلي عن التعريف القومي برمته إن أرادت أن تواكبه بشكل كامل، وهي ستفقد الكثير من أحلامها في الطريق، أبرزها الكفاءة القصوى نظراً إلى المنظومة المعقّدة التي ستحتاجها على المستويات كافة لتقديم صيغة مناسبة لمجتمعاتها».
تفترض أيديولوجية حزب «أمارجي» أن الأمّة العراقية تنتمي إلى حضارة ما بين النهرين التي كان مركزها العراق الحالي على الرغم من أن حضارة وادي الرافدين امتدت إلى سوريا وتركيا، وأن الشعب العراقي هو شعب متجانس يسكن أرض الأجداد، وعلى هذا الأساس يمكن للمواطنين أن يشعروا بالانتماء إلى هذه الحضارة فحسب. ما فرق هذه الدعوة، المؤطرة بالغلو وغطرسة أمّة الدولة، عن الخرافة الصهيونية المنفصمة والمتناقضة التي تفترض أن اليهود ينحدرون جينياً وفي الأصل من أرض يهودا القديمة، وتريد أن تجمع اليوم بين الديموقراطية الليبرالية والقومية اليهودية على أساس جغرافي ووطن قديم مزعوم يكون لليهود فيه أعلى مراتب التميّز؟
ما يقوم به حزب «أمارجي» هو محاولة للتظاهر بالاختلاف، تتصدّرها كلمة «أمارجي»، ولكنها عملياً ستكون محاولة خائِبة كسابقاتها للصعود والصيد في ماء السياسة العراقية العكر، لأنها غير قائمة على التنظير السياسي الدقيق والإقناع المرتبط بواقع العراق الراهن، والهدف منها الكسب والوصول فحسب.

* كاتب ومترجم عراقي