لعلّه العنوان الأنسب لوصف من يقوم بإطلاق النّار العشوائيّ في المدن والقرى في مناسبة أو أخرى، ما يعرّض أرواح النّاس وأمنهم وممتلكاتهم للخطر، كما يحصل للأسف في مجتمعاتنا، بحيث تسمع مرّة أنّ أمّاً لثلاثة أطفال قُتلت برصاصة طائشة وهي على شرفة منزلها، وأخرى أنّ طفلة من عمر الورود اخترقت جسدها في الرّأس رصاصة طائشة من مجرم شقيّ، وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة، كأنّ قدراً على النّاس الآمنين أن يعبث بهم وبأرواحهم وأمنهم وممتلكاتهم زمرة من المجرمين الأشقياء، الذين لا يتورّعون عن ممارسة هواياتهم في إطلاق النّار، ولو أدّى هذا الأمر إلى قتل الأطفال والنّساء والشّباب وعامّة النّاس وأذيّتهم وتعريض حياتهم وممتلكاتهم للخطر. أمّا توصيف هذا النّوع من الإجرام بالشّقاء (المجرم الشقيّ) فلأنّ القاتل عندما يرتكب جريمته، فهو عادةً يعلم أنّه ارتكب جريمة القتل هذه، فقد يبادر إلى التّوبة إلى الله تعالى من فعلته، وقد يتحمّل مسؤوليّته الماليّة (الدّية) تجاه ورثة المقتول، وقد...، لكنّ هذا القاتل الذي يفرغ رصاصه في الهواء عشوائيّاً، ليُمطر على رؤوس النّاس وممتلكاتهم، فعلى الأرجح أنّه لا يعلم أنّ رصاصه هو قد قتل فلاناً، أو قد أصاب فلاناً من النّاس أو ممتلكاته، أو قد تسبّب بهذا الضّرر أو ذاك -وخصوصاً عندما يتعدّد مطلقو النّار- ما يعني أنّه قد لا يبادر إلى التّوبة إلى الله تعالى، وإلى تحمّل مسؤوليّاته الماديّة والمعنويّة فيما تسبّب به من قتل أو ضرر أو أذى... ما يعني أنّ جملة تلك التّبعات (الدّينيّة والأخرويّة) سوف تبقى في رقبته، وسوف تبقى آثارها تلقي بثقلها على مجمل شؤونه، وإن كان تحمّل هذه التّبعات لا يقلّل من قُبح هذه الجريمة ومجمل دلالاتها وآثارها، وذلك من جهة:
أوّلاً، أنّ إطلاق النّار هذا، إنّما هو تعبير عن مستوى خطير جدّاً من الاستخفاف والاستهتار الوحشيّ بأرواح النّاس وممتلكاتهم.
ثانياً، إنّ من يرتضي أن يمارس هوايته في إطلاق النّار هذا، حتّى لو أدّى إلى القتل وإلى الإضرار بالنّاس، يجب أن يكون موضع نظر من أهل الاختصاص (علم النّفس)، إن كان ما يفعله نتاج مرض نفسيّ يستدعي تدخلاً وعلاجاً وإجراءات فاعلة، لحماية النّاس من ضرره وأذاه.
ثالثاً، حتّى لو لم يتسبّب في القتل فهو شريك في القتل، لأنّه يشجّع على هذه الظّاهرة، وتشجيعه هذا يجعله شريكاً في جميع جرائم القتل -بل في جميع ما يترتّب على هذا الفعل- التي سوف تحصل لاحقاً نتيجة تفشّي هذه الظّاهرة المتسبَّب عن هذه المشاركة في إطلاق النّار العشوائيّ.
رابعاً، ألا يؤدّي هذا الفعل إلى ترويع الآمنين وإخافة الأطفال والنّساء وعامّة النّاس، وهل هو سويّ نفسيّاً من يلهو، وهو يعلم أنّ لهوه هذا سوف يؤذي الكثير من النّاس؟ أو هل فيه شيء من الإنسانيّة والإحساس الإنسانيّ من يرتضي أن يستمتع هو بإطلاق النّار، وهو يعلم أنّه بفعلته هذه يرّوع آلافاً من النّساء والأطفال، وأنّه يدخل الخوف على قلوب الكثير من الصّغار والكبار؟
خامساً، حتّى لو لم يتسبّب من أطلق النّار بالقتل المباشر لهذه الأم أو لتلك الطّفلة أو لذاك الشّاب؛ ما هو شعور مطلق النّار عندما يعلم أنّه ينتمي إلى ظاهرة وحشيّة وإجراميّة تسبّبت في حرمان أطفال صغار من أمّهم، ليعيشوا أيتاماً مدى دهرهم، وما يسبّبه لهم هذا اليُتم من آلام نفسيّة، وأحزان طويلة الأمد. لماذا، ومن أجل ماذا؟ حتّى يستمتع ويتفكّه بإطلاق النّار للحظات، غير عابئ بأنّ هذه اللحظات الإجراميّة قد تُسبب آلاماً وأحزاناً لعائلات وأطفال تمتدّ لسنين، وأيّام مديدة، وليالٍ طويلة.
وهل يمكن أن تتحرّك لدى أيّ من هؤلاء بقيّة من ضمير إنسانيّ أو شعور أخلاقيّ أو عقل رادع أو دين زاجر، حتّى يدرك خطورة ما يقوم به، وقبح ما يفعله، والجريمة التي يُسهم فيها، عسى أن يرتدع أو يتوب أو يتعقّل، أو يتقّي الله تعالى في عباده وأمنهم وحياتهم وأرزاقهم.
سادساً، ماذا عن تعريض ممتلكات النّاس وأرزاقهم للتلف والضّرر؟ وماذا عمّا يصيب سياراتهم ومصادر الطّاقة (ألواح الطّاقة الشّمسيّة) لديهم ومجمل ممتلكاتهم من ضرر؟ أليس هذا عدواناً عليهم وعلى أرزاقهم؟ بل ماذا عن الإصابات البشرّية -وإن لم تفض إلى الموت- التي تؤدّي إلى أكثر من ضرر جسديّ؟ وماذا عن التّكاليف الماليّة العالية التي يتكبّدها هؤلاء النّاس في المستشفيات في علاج مصابهم وطبابته، وبعضهم ممّن يعاني شظف العيش، ويكابد الفقر، وبالكاد يستحصل على قوت يومه، ثمّ يأتي بعض العابثين بإطلاق النّار ليتسبّبوا لهؤلاء بتكاليف باهظة، وأوضاع صعبة، ومحن طويلة، ومواقف محرجة؟ فأيّ نوع من البشر هؤلاء؟ وأيّ صنف من الخلق هم؟ وأيّ قسوة قلب تحويه صدورهم؟ ألا يتصوّر أيّ من هؤلاء ولو للحظة أنّ أمّه هي التي قُتلت برصاص الإجرام؟ أو أنّ ابنته الصّغيرة هي التي اخترقت جسدها رصاصة العدوان؟ أو أنّ أولاده هم الذين أضحوا أيتاماً بسبب هذا العبث والجنون؟ أو أنّ شابّاً من أقاربه أضحى قتيلاً، لأنّ أحدهم قرّر أن يستمتع برصاص الطّيش والاستهتار؟
سابعاً، إنّ من يطلق النّار العشوائيّ إنّما يمارس عدواناً معنويّاً على مجتمعه وبيئته، ويسهم في مساعدة العديد من المغرضين (وسائل الإعلام) على شيطنة هذه البيئة وتشويه سمعتها والإضرار بمكانتها، بل تشويه جميع القوى السّياسيّة والمدنيّة العاملة في هذه البيئة، لأنّها سوف تُتهم بالتّقصير أو السّكوت أو التواطؤ... وبهذا هو يقدّم خدمة مجانيّة -أو غير مجانيّة- لمن يريد الإضرار بهذه البيئة، سواء كان داخليّاً أو عدوّاً خارجيّاً.
ثامناً، إنّ استمرار هذه الظاهرة إنّما يدلّ على أنّ المعالجات لم تكن كافية أو فاعلة، وأنّ استمرار سقوط ضحايا نتيجة هذا العبث والتفلّت يستدعي إجراءات حازمة، ومواقف قويّة، وتدابير صارمة، وعقوبات رادعة، ومعالجات قادرة على حماية النّاس وممتلكاتهم من هذا العدوان.
وفي هذا السّياق لا بدّ من الإشارة إلى ما يلي:
1- إنّ الواجب على جميع الجهات والمؤسّسات الرّسميّة والشّعبيّة والسّياسيّة والمدنيّة والاجتماعيّة... تحمّل مسؤوليّاتها تجاه هذه الجريمة المتمادية وهذا العدوان الآثم، وإنّ أيّ تقصير في هذا الشّأن هو بمثابة تخاذل أو تواطؤ أو اشتراك في هذه الجريمة وهذا العدوان.
2- كما ينبغي إعادة النّظر في القوانين من حيث تناسبها مع مستوى الجريمة وخطورتها وقدرتها على الرّدع، وكذا على القضاء مسؤوليّة كبيرة في هذا الشّأن من حيث التّشدّد في العقوبات الرّادعة، والمسؤوليّة الكبرى هي على عاتق القوى الأمنيّة والعسكريّة التي تملك جميع الإمكانات لزجر -إن أرادت- هذه الظّاهرة الإجراميّة، وإن لم تفعل فإنّ على الجهات المسؤولة والكُتل النّيابيّة متابعة هذا الأمر مع المسؤولين ذوي العلاقة، بل ومساءلة الوزراء المختصّين لتبيّن أيّ تقصير أو تواطؤ في هذا الشّأن، لأنّ المناطق اللبنانيّة كافّة يجب أن تكون سواسية من حيث فرض الأمن والقانون، وقيام مجمل القوى العسكريّة والأمنيّة بمسؤوليّاتها في هذا الشّأن. هل من السّيادة بمكان، أو الوطنيّة بمحل، أن يستنفر بعض أهل الحكم، وتجأر حميّتهم عندما يُصاب بأذى في بلادنا أجنبيّ لدولته دالّة على بعضهم، ولا نرى من حميّة أو نخوة مسؤوليّة عندما يُصاب مواطن لبناني في نفسه أو ولده أو رزقه أو أمنه بكثير من الأذى والضّرر وبواعث القتل والموت؟
3- للإعلام دور مهمّ ومؤثّر في هذا السّياق، فما الذي يمنع الإعلام الوطنيّ والإعلام الذي هو ألصق بهموم هذه البيئة الاجتماعيّة وأوجاعها وآلامها من تخصيص برامج للتّوعية، ولإظهار حجم الفاجعة والمعاناة التي تصيب النّاس، من خلال إعطاء فرصة للعائلات التي فجعت بأحد أفرادها للتعبير عن حزنها وغضبها وألمها وجميع أوجاعها. أليس هذا أولى من الإغراق والسّيلان السّياسيّ وغير السّياسيّ في قضايا لا يعتني بها أكثر الجمهور أو قد لا تقدّم له الهادف في سياق التّغيير في ظروفه وإصلاح شؤونه؟ ولذا ينبغي إعادة النّظر في استراتيجيّات وسائل الإعلام هذه وفي سياساتها، كما ينبغي أن يكون من مواصفات من هو في موقع إدارتها أن يكون أقدر على تلمّس حاجات المجتمع وآلامه وآماله وأوجاعه ومجمل ما ينتظره من وسائل إعلامه.
4- أين مجمل القوى الأهليّة المؤثّرة من هذا الأمر؟ لماذا لا يُصار إلى إنشاء جمعيّات تعمل على مواجهة هذه الظّاهرة الإجراميّة؟ لماذا لا يبادر أصحاب الإمكانات المختلفة إلى وضع إمكاناتهم لمعالجة هذه الظّاهرة؟ أليس هذا من عمل الخير والبرّ والعمل الصّالح والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، بل من أهمّ هذه الأعمال وأشرفها؟
5- إنّ الخطاب الدّينيّ يجب أن يحاكي حاجات بيئته وأوجاعها ومشاكلها وما تعانيه؛ ألم يكن أمراً هادفاً وصحيحاً وجميلاً أن يخصَّص يومٌ من أيام عاشوراء الحسين (عليه السلام) على جميع الأراضي اللبنانيّة من أجل الكلام في هذا الموضوع لتوعية النّاس والتّحذير من هذه الظّاهرة ومخاطرها وبيان مجمل المسؤوليّات المتّصلة بها؟ أليس من المسؤوليّة إصدار فتاوى دينيّة حاسمة في هذا الشّان؟ أليس من وظائف خُطب الجمعة الإلفات إلى هذا الأمر ومخاطره والتّحذير منه؟
إنّه لمن دون شكّ أنّها لو تضافرت جميع القوى والجهات والفعاليّات المؤثّرة والنّافذة، فإنّها تستطيع أن تعالج هذه الظّاهرة، وأن تضع حدّاً لها، سواء بالكلمة والموعظة الحسنة أو بتطبيق القانون والعقاب -بمعزل عن أن يكون مضمون العقاب سجنيّاً أو ماليّاً أو بتجريد هؤلاء من آلة القتل لديهم أو بهذه الأمور مجتمعة أو بغيرها- أو بالضّغوط الاجتماعيّة التي قد ترقى إلى مقاطعة هؤلاء المجرمين اجتماعيّاً (عدم بيعهم أو مجالستهم أو محادثتهم أو التّعامل معهم أو تقديم أيّ خدمة ولو بمقابل لهم) أو بمختلف الأساليب والوسائل المؤثّرة. وإلّا فإنّ الجميع شريك في دم هؤلاء الأبرياء ومعاناتهم وأوجاعهم وما يصيبهم من مصيبة أو ضرر.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية