الطوفان الطقوسي الذي اجتاح أجزاء واسعة من العراق فور سقوط النظام في نيسان 2003 شق قنوات خارج الحدود. غمر الطوفان الفضاء الشيعي بتمامه، واستعاد التشيع الطقوسي الشعبوي تمركزه على حساب التشيّع الثوري التنويري، وبات العراق، وليس إيران، مركز التوجيه الشيعي في شكله الشعبوي. وبتنا أمام شكل محوّر من الإصابة بآفة العوام، يشارك فيها قسم من النخبة المستقيلة والمرتهنة للعوام، وبعض من كانوا يوماً في معسكر المحاربين للطقوسية الشعبوية الانعزالية. فالعوام ليسوا اليوم هم جمهور الأمّيّين، بل خليط من كل الطبقات الدنيا والعليا والأعمار، والمستويات العلمية.
في الشكل العام، ثمة تجاوز للواقع القائم أو إنكاره في مجالس الأحياء سواء في العراق أو لبنان أو الخليج. فثمة تغييب مقصود للموضوعات ذات الصلة بحياة الناس وهمومهم، وبملفات الفساد والاستعصاء السياسي، ونقد الواقع القائم إلا لماماً ما خلا الموضوعات الاجتماعية أو الدينية غير المكلفة سياسياً.
في المقابل، هناك تصعيد للخطاب الغيبوي والرثائي المحمول على التخييل غير المنضبط، حيث يُعاد إدماج الأوهام، والمنامات، والأخبار الكاذبة في دورة الرثاء العاشورائي. لا أحد يتوقف عند الأخبار الكاذبة، فتنقل من باب التبرك، ولأنها مكوّنات في التأجيج العاطفي كشرط إلزامي لاختطاف الجمهور إلى حيث يشتهي الرادواد وقارىء العزاء.
لم يعد مستهجناً سماع عبارات من قبيل أن «أعمالنا تعرض على صاحب الزمان»، وطلب القبول والرضى والرحمة والرأفة منه. وهناك من خصّ الإمام المهدي بصحن وملعقة وشوكة في كل مائدة يقيمها في بيته، ويفرد كرسياً له للفصل في المنازعات العائلية، إلى جانب انبعاث عقيدة الانتظار، وشيوع ثقافة الاستخارة، وطلب الرزق من الإمام، والنذور، وفي أقصاها التضحية بالذات كما في ظاهرة جماعة القربان. باختصار، هناك عودة لتراث العقائد المسؤولة عن استقالة الشيعة. ما يلفت الانتباه أن هذا التراث بات بمنزلة المنافس لتراث المسؤولية والسعي والجد والمثابرة والإسراع إلى الخير والعمل الصالح.
في النتائج، فقدت مآخذ مطهري وشريعتي، وقبلهما الأمين والخالصي وآخرين، مفعولها الفكري والنفسي في زماننا، وزادت «المنكرات الطقسية»، وكأن هناك من يغذّيها ويعمل على الترويج لها، ويشجّع على الجنوح الطقوسي إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه الغرائزية الشعبوية من خلال ممارسات من قبيل: المشي على الجمر والعواء، والزحف على وجنات الوجه، وتلطيخ الأجسام بالطين وغيرها من المظاهر المستحدثة.
فالتشيّع منزوع الدسم السياسي أو الخالي من الوظيفة السياسية هو ما يشتغل عليه سدنة التشيع الشعبوي مشفوعاً برغبة مؤكدة لدى الأنظمة السياسية في معسكري الموالاة والمعاداة. من نافلة القول، بعض من كانوا في خط التشيع الثوري باتوا جزءاً من السلطة اليوم. ومن المنطقي عزوفهم عن التوظيف السياسي للحسينية (para political) واختزالها في «بيت أحزان».
ينقل من كان شاهداً على عرض من أحد عملاء النظام السعودي على قناة شيعية معروفة بخطابها الطائفي والفتنوي وقد توقّفت عن البث، بأن إذا كان السبب مادياً، فالأمر قابل للحل وأبدى استعداده لتقديم الدعم لمعاودة البث. ولا غرابة أن قنوات طائفية شيعية وأخرى موسومة بالغلو تحظى بدعم حكومات إقليمية وغربية لمشاغلة الساحة الإسلامية واستنزاف طاقتها في سجالات عقيمة.
لناحية المجالس الحسينية في العراق بعد سقوط النظام وتأثيراتها على خارجه، هناك فرق جلي بين مجالس العزاء والرواديد السابقين عن الحاليين والمتمثل في انضباط النص وسبكه وسمو المعنى وجليل الرسالة. وننقل هنا بعض أبيات من اللطمية الطويلة الشهيرة «يا حسين بضمايرنا» للرادود المشهور حمزة الصغير (أو الزغيّر):
«احسين بضمايرنا
صحنه بيك آمنّا
لا صيحة عواطف هاي
لا دعـوة ومجرد راي
هذي من مبادئنا
صِحنه بك آمنّا
لمسنه بيك أبوالأحرار
اعرفنا الموت حرّية
لمسنه التضحيه بشخصك
عرفنا الشرف تضحيه
لمسنه بيك أبي ومثلين
عرفنـا الذل عبودية»
قصائد أخرى ذات طابع رثائي محض مثل «اه يا حسين ومصابه» للشاعر كاظم منظور الكربلائي، وشعراء الطف مثل إبراهيم العطار، والسيد حيدر الحلي، وكذلك دواوين القصيد في مراثي آل البيت مثل ديوان «الفائزيات الكبرى»، للشاعر ملا علي بن فايز الإحسائي، وديوان «الجمرات الوديّة» لابن عطية الجمري، وقصائد الرثاء المتداولة مثل قصيدة «ملحمة الطف» للشيخ حسن الدمستاني. وحوى كتاب جواد شبر «أدب الطف» أو «شعراء الحسين»، عشرات القصائد الرثاء الحسيني لشعراء في الفترة ما بين القرن الهجري الأول وحتى القرن الرابع عشر للهجرة، ولولا ضيق الهامش لعرضنا بعضاً منها، وتكفي الإشارة إلى أنها ذات مضامين راقية وحبكٍ ينضح عذوبة وحلاوة في الألفاظ والتصاوير مع التزام بضوابط المُعتقد.
أمّا قصائد الرثاء وما يُتلى في مجالس العزاء اليوم فمشحونة بعقائد الغلو والتفويض والتأليه. وحتى الأداء بات مختلفاً عن السابق، بعد أن دخلت آلات الإيقاع المستعملة في الأغاني وحفلات الرقص. فدخول تقنيات حديثة على التعزية وأنماط في اللحن غير المعهودة مثل الراب وطرق الأداء القريبة من الرقص المشتعلة حماساً، لتصل ذروتها في العاشر من محرم، وينجذب إليها الشباب الذين ينخرطون في صفوف المواكب ومجالس الرواديد، الذي يعتلون المسرح في مشهد يشبه حفلات الغناء التي تغصّ بعشرات الآلاف من الشباب، والاستعانة بمهندسي الصوتيات وتقنيات التوزيع وخبراء التصوير الاحترافي. تقنيات طرأت على مشهد الإحياء العشورائي في نقلة دراماية خالية من البعد الرسالي.
في المضمون، جرى العمل على تصعيد الميول الماسوشية بمستواها المتوسّط ليدفع المشاركين في جولات العزاء إلى ممارسة تعذيب الذات عبر اللطم، والاقتراب في بعض الحالات من تخوم الماسوشية القصوى بإراقة الدم وجرح الجسد أي مرحلة ما دون الإنتحار، وهذا ما يلفت إليه أحد الرواديد بأن لولا حرمة الانتحار لكان الانتحار من أجل الحسين مُباحاً.
الماسوشية الشيعية تعيد تحفيز الذاكرة المشبعة بالجروح والضمير المؤنّب، ربطاً باغتصاب الحق الإلهي لمقام خلافة النبي ومتوالياتها، وصولاً إلى نازلة كربلاء في شكلها الدموي.
فالشحن المكثف للعاطفة الدينية وتفريغها في جولات العزاء الجماعي بهدف خلق ضمير جمعي معجون بالحزن يهدف إلى حبس مرتادي المجالس ضمن دورة لا انقطاع لها من وخز متّصل لضمير يراد إبقاؤه في حالة اتصال دائم مع الموجة الطقوسية العريضة.
وكما كان العراق الأرض التي نبت التشيّع على ترابها، فإنه أيضاً بات الحاضنة الكبرى للتراث الطقوسي الشيعي. فالسجالات التي دارت حول بعض الممارسات الطقسية (التطبير، والمشي على الجمر، واستعمال السلاسل، والطبول... وغيرها) كان العراق ميدانها ومنه انتقلت إلى الساحات الشيعية الأخرى.
ولفرادة في العاطفة الشيعية في العراق، وعوامل أخرى ثقافية واجتماعية وسياسية، نلحظ عودة ارتكاسية نحو مرحلة ما قبل الثورة الإيرانية بدأت مع سقوط النظام في العراق، وتالياً انفجار الطقوسية الشيعية لتكتسح الجغرافيا الشيعية برمتها. وهكذا، تحوّلت عاشوراء إلى ظاهرة طقسية محض.
وإذا كان العراق مركز الزلزال الطقوسي، فإن ارتداداته المتفاوتة طاولت كل أرجاء الجغرافيا الشيعية. مثال حي من لبنان، بمقارنة اللطميات السابقة والراهنة. فقد تميّزت لطميات الثمانينيات بالثورية والرسالية والهدفية والعالمية، وكانت درّة اللطميات «الجهاد الجهاد ولى يوم الرقاد... سنرفع الحق في سمانا لواء. سنحمي المسلمين من كيد الظالمين. ومع المستضعفين». وقصيدة أخرى «نحن أمة حزب الله» وفي كلماتها «في خط الخميني نمضي في سبيل الله… نبقى في خط الحسين لو قطعنا إربا… فالجهاد اليوم سيف ليس نظم الخطبا… قد عشقنا الشهادة في سبيل الله».
إنّ بقاء تلك اللطميات في ذاكرة المقاومة وأدبياتها التعبوية لم يمنع من دخول منافس جديد طرأ على بيئة المقاومة وجمهورها. وقد خضع الجمهور تحت تأثير الرواديد الموسومين بالغلوّ، الذين تصدح أصواتهم في أرجاء الضاحية في أيام العزاء. ولأن الضاحية موزّعة الانتماء المرجعي والحزبي، فإن ثمة تنافساً من نوع آخر تحتدم فصوله في ميدان الولاء، وليس الالتزام كما أسلفنا. وهناك يتحوّل الأكثر مغالاة إلى الأكثر إيماناً وولاءً لأهل البيت، كما حصل في القرن الرابع الهجري حين انقسم الشيعة إلى معسكرين: مقصّرة، وهم أولئك الذين اتهمهم خصومهم بالتقصير في معرفة الأئمة، لأنهم رفضوا نسبة الصفات الألوهية إليهم، في مقابل الغلاة أو الحشوية.
على نحو الإجمال، بدت المجالس في عموم الجغرافيا الشيعية بلا رسالة، ولا تحميل مسؤوليات، واحتلّ الرواديد المشهد العاشورائي، وباتوا يؤدّون دور التوجيه.
ولك تخيُّل نوع الأفكار والميول النفسية والذهنية لعبارات تتردد في لطميات عاشوراء من قبيل:
- «أنا ما أملك وجودي كل وجودي بين ايديك»
- «لا حياة بلا عزاء وانخلقنا لكربلاء»
ـ «العباس من كربلاء بكفه يدير الفلك»
ـ «علي جاعل الأرض مهادا وبانٍ فوقكم سبعاً شدادا»
ـ «محضر الله»: عند الفرات محضر الله تجلّى»… «بدر على الرمال وفيه ذو الجلال تجلّى»
ولأن المجاز الحيلة الجاهزة لنفي تهمة الغلو، فإنه يشرّع أبواباً لا حصر لها من عقائد المفوّضة، ونكون حينئذ أمام نوعين من الرواديد: بين مَن يقع في الغلو الصريح أو مَن يحوم حوله.