مع دخول الذكاء الاصطناعي (AI)، بشكل متزايد وسريع وعلى نطاق عالمي، في كل مجالات الحياة اليومية، يستمد القوس الاستعماري، والذي لم ينغلق تماماً مع العولمة، من هذه التكنولوجيا قوة دفع مذهلة. موجة تدافع جديدة وسباق تنطلق حالياً بين شركات السيليكون فالي لرفع علمها أولاً في موقع استراتيجي وحميم جداً: دماغنا. يبدو أن الصيغة التي استخدمها باتريك لو لاي، الرئيس التنفيذي لشركة TF1 في عام 2004، والذي أراد بيع «وقت الدماغ البشري المتاح» لشركة «كوكا كولا»، قد مضى فعلاً عليها الزمن. اليوم، مع التقنيات الحديثة، يبدو «وقت الدماغ المتاح»، وفقاً لعالم الاجتماع الفرنسي جيرالد برونر في كتابه Apocalypse cognitive، أكثر اتساعاً وضعفاً في الآن نفسه.«الدماغ البشري هو ساحة المعركة في القرن الحادي والعشرين»، يكرّر عالم الأعصاب الأميركي والخبير الكبير في الحرب المعرفية، جيمس جيوردانو أمام القوات المسلحة الأميركية. لكن أسلحة هذه المعركة صامتة وماكرة وأكثر فتكاً من البارود والأسلحة النارية.
مرحباً بكم في الغرب الأقصى المعرفي الجديد!
ما هي التقنيات والآليات التي يستخدمها المستعمرون الجدد لممارسة السلطة؟ تظل السيطرة على الأجساد هي الهدف الرئيسي. ما هي السبل لضبطها والتحكم بها؟ كيف يمكن فرض «السلوكيات المعيارية» التي أشار إليها ميشيل فوكو الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي في كتابه الرئيسي «المراقبة والمعاقبة»؟
إن السيطرة على الأجساد في خدمة السلطة ليست جديدة. التاريخ الغربي مليء بالأمثلة حيث شكل الاستيلاء المادي على أجساد السكان المستعمرين منذ نهاية القرن الخامس عشر للسيطرة عليهم واستعبادهم واستغلالهم هدفاً استراتيجياً للغزو ملازماً لمشاريع السيطرة على العالم.
مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وفي قلب المجتمعات الغربية، تحوّل العامل في المصانع الجديدة إلى «ملحق للآلة» كما كتب كارل ماركس. عامل - آلة تكتفي بتكرار حركات بسيطة طوال الوقت. ومع التقسيم العلمي للعمل الذي وضعه FW Taylor والفصل الكامل بين مهام التصميم والتنفيذ، تم استبعاد العامل ووضعه تحت سيطرة «العارفين» الذين يقررون. دوره الوحيد يقتصر على إطاعة التوجيهات.
بروليتاريا القرن التاسع عشر أصبحت «سيبرتارية» القرن الحادي والعشرين حسب تعبير أنطونيو كاسيلي، عالم الاجتماع الفرنسي. جيوش عمّال النقر والأيدي الصغيرة تعمل باستمرار على إنتاج خوارزميات لصالح اللاعبين الاقتصاديين الرئيسيين وهم GAFAM (أي Google Apple,Facebook, Amazone, Microsoft).
بعد أن قامت الولايات المتحدة بصياغة العالم على صورتها، تحاول صياغة الآراء وتغيير العقول


مع وسائل الإعلام في القرن العشرين، استمر غزو الأجساد والعقول في خدمة القوى السياسية والمالية، وأصبحت قدرة السيطرة أكثر تعقيداً من خلال تحولها إلى شكل غير مادي. فبعد أن قامت الولايات المتحدة بصياغة العالم على صورتها (Shape the World)، تحاول صياغة الآراء وتغيير العقول (Shape the Mind) من خلال التحكم بالمعلومات.
وهكذا أصبحت الدعاية والمعلومات المضلّلة أساليب عمل في المجال السياسي والاقتصادي. أثار إدوارد بيرنايز، الأميركي وابن أخي فرويد، في عام 1928، الحاجة إلى توجيه أذواق المستهلكين من خلال الدعاية المنظّمة بدقة بهدف الاستحواذ على الأسواق. في وقت مبكر من الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أسّس بحث وكالة المخابرات المركزية حول التلاعب بالعقل (الاسم الرمزي لمشروع MK-ULTRA) مفاهيم «القوة الناعمة». باسم غزو الأسواق وربحية الشركات والسيطرة على العالم، ينتشر تدريجياً استعمار جديد يفضّل التلاعب بالمعلومات على الاستناد إلى موازين القوى. إنه يستهدف العقول والتأثير، من خلال الإغواء أو الترهيب.
من الدعاية الإعلامية، نحن حالياً مع شبكات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعية والأخبار المزيّفة في قلب عصر ما بعد الحقيقة. أصبح التلاعب بأدمغتنا، التي هي بمثابة أبراج تحكّم لأجسادنا، معقّداً للغاية بفضل التقدّم في العلوم التقنية في المجال المعرفي وتقارب NBIC (تقنيات النانو، والتقنيات الحيوية، وتقنيات المعلومات، والعلوم المعرفية). إن تحقيق الهيمنة المعرفية يفتح الباب على مصراعيه للسيطرة على عالمنا العقلي والعاطفي وبالتالي أجسادنا. إنه تغيير في المشهد وفي حجم القضايا المعرفية.
علم التحكم الآلي، الذي يهدف إلى تكرار العقل البشري داخل آلة، يعزز آليات القوة ويحول الذكاء الاصطناعي إلى رافعة قوية في عملية استعمار العقول. بحلول عام 2040، ستكون قرصنة الدماغ ممكنة، إذا صدّقنا الجيش الأميركي. إنه الغد القريب!
من المؤكد أن «ميتافيرس» بدوره سيدخل رقصة الحرب المعرفية من خلال طمس الحدود بين العالم الحقيقي والعالم الافتراضي. سيزداد تمييع وتسييل المناطق والدول القومية والمجتمعات والهويات الجماعية والفردية بدعم من القوى التأثيرية التي تعمل من أجل نظرية النوع الجندرية. إنها معركة منهجية تؤثر على البشر في علاقتهم مع أنفسهم، وفي علاقتهم بالآلة التي يمكن أن تتغلب عليهم وعلى روابطهم الاجتماعية التي أصبحت أكثر فأكثر افتراضية.
من منظورهم لما بعد الإنسانية Transhumanisme، يعتبر بعض الباحثين والمموّلين في هذا المجال، وفي خطاب خاص للغاية، أنه وعلى عتبة قُدّرت بالعقود من عام 2050 إلى عام 2060، «سيتجاوز الذكاء الاصطناعي الذكاء الإنساني بشكل كبير بحيث لا يمكن النظر في مستقبل البشرية». على حد قولهم، «سيُقسم العالم بعد ذلك بين المختارين (أولئك الذين ستزيدهم التقنية والذين ستكون لديهم فرصة للبقاء على قيد الحياة) والساقطين (الآخرون homo sapiens)».
وهكذا سيتحول بعض «الهومو-سابينس» إلى «هومو-ديوس»، أي بشر-آلهة، كما يقول يوفال نوح هراري، المؤرّخ الإسرائيلي.
بعد تجريد الإنسان المستعمر من إنسانيته كما الإنسان الملوّن، والعامل والفقير، باسم عالم أفضل، يحلم الإنسان المعزّز بالتكنولوجيا بأن يكون أمامه «متضائلون» محرومون من الذكاء، منظّمون في مجموعات غير متمايزة في سجن افتراضي.
... هناك حاجة قصوى إلى باندونغ معرفي جديد.
* خبيرة في المنظّمات المتعلّمة
والتغيير التنظيمي في العالم الرقمي

[يُنشر النص بالتعاون مع مجلة «2A magazine»]



تعريف وأرقام
AI، أو الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، هو مجال علوم الكمبيوتر الذي يهدف إلى إنشاء آلات وأنظمة يمكنها أداء المهام التي تتطلب عادةً ذكاءً بشرياً، مثل الإدراك والاستدلال والتعلّم واتخاذ القرار ومعالجة اللغة الطبيعية. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا منتشرة وتحوّلية تؤثّر على مختلف مجالات النشاط البشري، مثل الصحة والتعليم والترفيه والأمن والاقتصاد.
وفقاً لتقرير حديث صادر عن «معهد ماكينزي العالمي»، فإنّ تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي (مثل «تشات جي بي تي») على الإنتاجية يمكن أن يضيف تريليونات الدولارات من حيث القيمة إلى الاقتصاد العالمي. تشير أبحاث المعهد إلى أن تلك الأنظمة يمكن أن تضيف ما يعادل 2.6 تريليون دولار إلى 4.4 تريليون دولار سنوياً عبر 63 حالة استخدام، وبالمقارنة، فقد بلغ إجمالي الناتج المحلي للمملكة المتحدة، في عام 2021، 3.1 تريليون دولار.
وبحسب «مؤسسة البيانات الدولية» (IDC)، تظهر الأرقام الجديدة للإنفاق العالمي على أبحاث وتطوير الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك البرامج والأجهزة والخدمات للأنظمة التي تركز على الذكاء الاصطناعي، صرف ما يقرب من 118 مليار دولار في عام 2022، وسيتجاوز الرقم الـ 300 مليار دولار في عام 2026.
ويُتوقّع أن يؤدي الدمج المستمر للذكاء الاصطناعي في مجموعة واسعة من المنتجات الرقمية والإلكترونية، إلى معدّل نمو سنوي مركّب (CAGR) بنسبة 26.5% خلال الفترة 2022-2026. وهذا الرقم أكبر أربع مرات من معدل النمو السنوي المركّب لمدة خمس سنوات والبالغ 6.3% للإنفاق على تكنولوجيا المعلومات في جميع أنحاء العالم خلال الفترة نفسها.