تفرّدت واقعة كربلاء سنة 61 للهجرة بخزنة سخيّة من الحقائق والانفعالات والأساطير، بما لا نظير لها في وقائع التاريخ الإسلامي وربما الإنساني، ولا يضاهيها سوى صلب يسوع في التراث المسيحي. نسجت عاشوراء رواية عن حادثة انتهت في ساعات، ولكن قُدّر لها أن تحفر عميقاً في الذاكرة الشعبية. وكان التجاذب بين العاطفة المجرّدة والنزعة العقلانية في مقاربة واقعة كربلاء سمة راسخة في متونها. لا غرابة في الأمر، فحجم المأساة جعل منها مضخّة عاطفية جبّارة. وكان الرهان على فوران الروح المثلومة حزناً على نحر رأس سبط الرسول وإخوته وأبنائه وأبناء إخوته وعمومته وأصحابه أقوى من الرهان على مقاربة بدت فيها الحسابات العقلية خاسرة. وحين يكون الرهان على رفع المنسوب العاطفي يكون الخيال اللامتناهي أداة التغذية الدائمة، بصور الحزن، بتعبيرات متنوّعة بالكلمة والصوت والصورة. ولنا أن نتخيّل تعبيرات بفرادة عراقية لحناً حزيناً، وتصاوير غزيرة، وأداءً استعراضياً مبهراً، وتظهيراً جمالياً لفنون الحركات المتناسقة.
هنا تفقد القراءة المباشرة قدرتها على الوصول إلى الأعماق، إلى حيث تسكن الدلالات المستترة الثقافية، والاجتماع-دينية، والإنثروبولوجيا الدينية، التي لا تنعكس في مجرد الأداء الطقسي الظاهري. نستعين هنا بتعريف بروس لورانس للدين بكونه مزيجاً من الإيمان والانتماء، الإيمان بالله ورسله وكتبه، إلى جانب المشاركة في مجتمع متماثل في التفكير للآخرين المخلصين لأنماط المعتقدات نفسها.
في أوروبا توزّع الدين بين مسارين: فردي يقوم على ما سمّته جريس ديفي «الإيمان دون الانتماء»، وتقصد به الإبقاء على مستويات عالية نسبياً من المعتقدات الدينية الفردية الخاصة، وليس المشاركة في الصلوات العامة (الحضور المنتظم في الكنيسة مثالاً) قبل أن تتطوّر الفكرة في كتاب آخر عن الدين في أوروبا وتتحدّث عن الدين بصفته أحد أشكال الذاكرة الجماعية.
لفتت ديفي إلى نقطة جوهرية حول الطريقة التي يعبّر فيها مجتمع ما عن رزاياه الاجتماعية والاقتصادية، واستخدام اللغة الدينية في المناسبات العامة، كونها اللغة الأكثف حضوراً في الثقافة الشعبية، لغة تنطوي على انتماء إلى عوائل متجذّرة. وهذا ما صاغه دانييل هيرفيو ليجر، في تعريفه للدين بأنّه نظام أيديولوجي وعملي ورمزي يتم من خلاله تكوين الوعي الفردي والجماعي بالانتماء إلى سلسلة معيّنة من المعتقدات والحفاظ عليه وتطويره والتحكّم فيه.
ومع أن هيرفيو ليجر تناول الحالة الدينية الفرنسية في مقابل الحالة البريطانية، حين عكس توصيف ديفي «الانتماء دون الإيمان»، فإنه كان يلحظ الوضع الأوروبي عامة، ربطاً بالدور الذي تؤديه الكنائس التاريخية على أنواعها، وإن فقدت مفعولها العضوي، إلا أنّها لا تزال تعمل، على نحو غير مباشر وكما كانت في الماضي، كناقلات عامة للدين القومي. وكنتيجة، تتشابك الهويّات الثقافية، علمانية أو دينية، في أنماط معقّدة، وبطريقة غير منظورة في التخاطب العلني بين الأفراد. فالشعور بالانتماء يرتبط بمجموعة يتقاسم أفرادها الاهتمامات والعواطف، وقد لا تعبّر المعتقدات الدينية عن نفسها بشكل واضح، بسبب تضخم المجتمع، وأن التخلي عن أي إشارة إلى التقاليد الدينية الذي كان شرطاً في الانتماء العضوي لمجموعة لا يترك أثراً سوى على الوحدة الداخلية للمجموعة، مع أن الحداثة أوهنت قوة التقاليد في الفضاء الاجتماعي العام. ولكن لم تتمكّن الحداثة من استبدال الدين بصفته خزّاناً من العلامات والقيم التي لم تتوافق مع الأشكال الواضحة للانتماء والسلوك المنسجمة مع القواعد التي وضعتها المؤسسات الدينية. وأصبح الدين التقليدي مصدراً أولياً لرمزية قابلة للتوظيف في عملية دمج في التركيبات الرمزية الأخرى، خاصة تلك التي تُعنى بتطوير الهوية في بعدها الإثني، لكون الإثنية حاصل التقاء خليط من الرموز اللغوية والثقافية والعرقية والأخرى الدينية. وبحسب دومينيك شنابر، يمكن للإسلام أو اليهودية، «حيث تندمج القيم التاريخية والدينية التي لا تنفصم ويتم تعزيزها»، بشكل متناقض تقديم نماذج لمثل هذا التداخل العرقي والديني أو السياسي والأخلاقي.
في المجال الشيعي، يعبّر المشاركون في موسم الإحياء العاشورائي عن انتمائهم إلى الجماعة المذهبية، وليس بالضرورة أن يكون الانتماء دالّاً على الالتزام العملي بفرائض العقيدة الخاصة أو العامة. فأولئك الذين يتوافدون بملء إرادتهم إلى مجالس العزاء، أو المشاركة في المواكب، أو أي فعالية ذات طابع تشاركي أو جمعي، يتفقون على عنصر موحّد هو الانتماء، أي استعلان العضوية في الجماعة، مع تفاوت في نسب الالتزام. فليس الالتزام الحرفي والعملي بالدين شرطاً في الانضواء ضمن جمهور المعزّين، ولا يتطلب إبراز بطاقة عضوية، فعدّة الانتماء باتت معروفة. هي مناسبة لتجديد العضوية في الجماعة، أي تذكير الذات والآخر بالانتماء والولاء إلى جماعة ذات صبغة عقدية خاصة. باختصار، إن الشعور بالحاجة إلى تظهير هوية فرعية مغيّبة أو مقموعة أو في حالة تحدٍّ يتنامى كلما دعت الحاجة، يزيد في نموّها التحفيز الدائم والشحن المتواصل. وفي كل الأحوال، إن إصرار الصغار والكبار، والذكور والإناث، ومن طبقات دنيا وعليا وميول سياسية وحزبية وأيديولوجية على المشاركة في فعاليات الإحياء العاشورائي يعبّر عن فشل أي أطر أخرى ثقافية وأيديولوجية في التعويض الهوياتي وإشباع ميول الانتماء.
ولذلك، فإن المقاربات الدينية والفقهية للمسائل الطقسية، أو ما يُطلق عليها بالانحرافات، أو المنكرات، أو مظاهر الغلوّ وما يجري خلال أيام عاشوراء تكون بلا جدوى، بل إن التصادم معها يفضي إلى نموّها وتعاظمها.

عاشوراء: الانفجار الطقسي
تنفرد مذبحة كربلاء السافرة بكونها رواية حزن فائقة التصوّر، من شأنها أن تفجّر ينابيع العاطفة لكل من يقرأ عنها. ولفرط مأسويّتها أطلقت خيال الشعراء والرواة والخطباء وقرّاء العزاء والرواديد. أسطرة عاشوراء لم تكن ابتكاراً شيعياً خالصاً، فهي بالنسبة إلى كل من تأمّل تفاصيلها الصادمة تسمّر أمام هول ما جرى في هجير نينوى. وهي بالنسبة إلى أولئك الذين تخلّفوا عن اللحاق بركب الحسين في يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، جحيم لا يطاق وذنب لا يُغتفر. وعلى حد جوليوس فلهاوزن في شرح أصل نشأة حركة التوابين في الكوفة سنة 64/65هـ: «إن أولئك الكوفيين الذين استدرجوا الحسين إلى الوحل ثم تركوه وحيداً أصابتهم صعقة ضمير، وهم يرون أمامهم نتيجة ما اقترفوا من عمل مشين. وقد شعروا بالحاجة إلى البراءة من الخزي الذي لحق بهم جراء موقفهم المتخاذل، وأن يغسلوا هذا العار السابق عبر التضحية بالذات، ولذلك أطلقوا على أنفسهم التوّابين، كرد فعل على الشعور بالذنب الذي انتابهم، وأن يكفّروا عن الإثم الذي صمّموا على اقترافه، بما يعرف بالتضحية الذاتية».
كشفت قصة التوابين عن حقيقة كون بعض الممارسات الطقسية التي أدّاها التوابون قد اندغمت في البناء الرمزي والديني الشيعي الإمامي في وقت لاحق. فبعد شهادة الإمام الحسين، تجمّع التوابون بقيادة شيخ خزاعة سليمان بن صرد حول قبر الحسين ينوحون، ويقرّون بذنبهم الكبير. اصطف الواحد تلو الآخر ووقفوا للصلاة على القبر، ملتمسين العفو والصفح عن ذنبهم. وأكثر من ذلك، فإنهم احتشدوا حول القبر بكثافة تفوق احتشاد الناس حول الحجر الأسود. إن طقوس النعي والمناحة التي أقامها التوابون على القبر كانت التدشين الأولي لشعائر التعزية الحسينية التي باتت جزءاً جوهرياً من مراسم عاشوراء. وتفيد التطورات اللاحقة أن التوابين لم يكونوا مجرد حركة ظاهرية، بل على العكس كانت خطوة جوهرية في تحويل مجزرة كربلاء إلى قضية دينية محض.
لقرون خلت احتُجزت سردية عاشوراء في نطاق البكائية المحضة، ربطاً بنداء «على قتله فليبكِ الباكون». وبقيت كذلك ما خلا مظاهر طقسية معزولة في عهود سالفة، البويهية والصفوية والعثمانية، وفي مناطق متفرّقة من إيران والعراق ولبنان والخليج. وعلى نحو الإجمال، كان إحياء واقعة كربلاء في مجالس عامة محظوراً، فكانت تقام بصورة سريّة، ويتطلّب إحياؤها أحياناً عملاً شاقاً ومخاطرة وتضحية بالنفس.

المقاربة العقدية/الفقهية
ثمة دورة طقوسية شيعية مكتملة في موسم عاشوراء تبدأ من الأول من محرم وحتى العشرين من صفر، والمعروفة بـ«أربعينية الإمام الحسين» أو «الأربعين»، أي بعد مرور أربعين يوماً على مقتل الحسين المرتبطة بعودة السبايا من الشام والتقاء علي بن الحسين السجّاد بالصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري في كربلاء، وكانت تلك أول زيارة تجري لقبر الحسين. ممارسات جرت على نحو عفوي، وما لبث أن تحوّلت إلى مكوّن أساس في البنية الطقوسية العاشورائية. وليس في ذلك ما يوجب التوقف، فهكذا تتشكّل ذاكرة الشعوب.
البنك الطقسي الشيعي تنامى على مر العصور، وكان مفتوحاً أمام استثمارات ثقافية ورمزية من خارج التشيع نفسه، فأودع فيه التركي والهندي والإيراني رساميل ثقافية ورمزية، فدخل استعمال السيوف والسلاسل والطبول والصور والتماثيل على الطقوسية العاشورائية بل والشيعية عموماً، وكان العراق هو المستوعب الأوسع لكل المستوردات الطقوسية الأجنبية.
لم تنل الطقوس الدخيلة تأشيرة دخول رسمية إلى المجال الشيعي الديني والاجتماعي، وفي الوقت نفسه لم تواجه معارضة سافرة من المؤسسة الدينية الشيعية. وحين يتعلّق الأمر بالحسين تجفّ الأقلام وتنعقد الألسن عن الإفصاح عن موقف فقهي حاسم.
نفهم هنا سطوة ما أطلق عليها الشيخ مرتضى مطهري «آفة الإصابة بالعوام»، والتي حذّر منها أكثر من شخصية عامة دينية وفكرية. وقد كتب السيد هبة الدين الشهرستاني، عالم الدين وأول وزير معارف في النظام الملكي في العراق، في مجلته «العلم» التي كانت تصدر من النجف بين عامي 1910 - 1912، وفي مقالة بعنوان «علماؤنا والتجاهر بالحق» جاء فيها ما نصّه: «وأمّا في القرون الأخيرة فالسيطرة أضحت للرأي العام على رأي الأعلام. فصار العالم والفقيه يتكلم من خوفه بين الطلاب غير ما يتلطّف به بين العوام وبالعكس، ويختار في كتبه الاستدلالية غير ما يفتي به في الرسائل العملية، ويستعمل في بيان الفتوى فنوناً من السياسة والمجاملة خوفاً من هياج العوام. حتى إنه بلغنا عن فقيه سأله أحد السوقيين، عن يهودي بكى على الحسين (ع) فوقعت دمعته على ثوبي، هل نجس الثوب أم لا؟ فأجاب المسكين خوفاً منه: إن جواب هذه المسألة عند الزهراء (ع). وسأل سوقي آخر فقيهاً عمّن شجّ رأسَه للحسين (ع) فأجابه كذلك، إلى غير ذلك». ثم يعلّق الشهرستاني: «لكن هذه الحالة تهدّد الدين بانقراض معالمه، واضمحلال أصوله، لأن جهّال الأمم، يميلون من قلّة علمهم، ونقص استعدادهم، وضعف طبعهم، إلى الخرافات وبدع الأقوام والمنكرات. فإذا سكت العلماء ولم يزجروهم أو ساعدوهم على مشتهياتهم، غلبت زوائد الدين على أصوله، وبدعه على حقائقه، حتى يمسي ذلك الدين شريعة وثنيّة همجيّة تهزأ بها الأمم».
ولعل واحدة من المواجهات الأهلية الكبرى في تاريخ الشيعة الحديث، ما جرى بعد نشر السيد محسن الأمين العاملي رسالة «التنزيه في أعمال الشبيه»، طُبع في صيدا سنة 1347هـ/1926، ويقصد به كما جاء في غلاف الكتاب «الكلام على ما يدخل في عمل الشبيه وإقامة العزاء للإمام الحسين الشهيد عليه السلام من المحرّمات والتحذير منها». ومما ذكر من البدع في مراسم إحياء عاشوراء «ذكر الأمور المكذوبة المعلوم كذبها وعدم وجودها في خبر أو نقلها في كتاب»، ومنها أيضاً «ضرب الرؤوس وجرحها بالمدى والسيوف حتى يسيل دمها...، واستعمال الطبل والزمر والصنوج النحاسية... ومنها الصياح والزعيق بالأصوات المنكرة والقبيحة».
جرأة الأمين في تفصيح الموقف العقدي من التطبير وأضرابه تسبّبت في انقسام عمودي وأفقي داخل المجتمع الشيعي. وينقل جعفر الخليلي في كتابه «هكذا عرفتهم» (ط1، قم، 1963م، ص206)، تفاصيل ردود الفعل على رسالة الأمين، وكان أول من عارضه من العلماء الشيخ عبد الحسين صادق في النبطية، والسيّد عبد الحسين شرف الدين في صور، ثم انتقلت الحملة إلى العراق، وتحوّلت من مشكلة إصلاحيّة، إلى مشكلة شخصيّة، واتّجه الجميع إلى كبار العلماء يستفتونهم في أمر الضرب بالسيف كمظهر من مظاهر الحزن على الحسين، فأفتى المرجع السيّد أبو الحسن الأصفهاني بما نصّه: «إنَّ استعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق وما يجري اليوم من أمثالها في مواكب العزاء بيوم عاشوراء باسم الحزن على الحسين، إنّما هو محرّم وغير شرعي»، وتسببت الفتوى في إضعاف مرجعيته وقاعدة مقلّديه، وكان من معارضي الأمين ومؤيدي التطبير شخصيات لامعة من بينها الميرزا محمد حسين النائيني، المصنّف على تيار الإصلاحيين وقطب بارز في الحركة الدستورية في إيران، ومؤلف كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، أحد رموز الحركة الإصلاحية الشيعية ومؤلف كتاب «المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون» وكان من دعاة الوحدة بين المسلمين، وسافر إلى فلسطين سنة 1930 لحضور المؤتمر الإسلامي وأمَّ المصلين في المسجد الأقصى.
وزاد تسعير عاطفة الدهماء في وجه الأمين تبنّي الخطيب الشهير السيّد صالح الحلي فتاوى العلماء، وشنّه حملة شعواء على الأمين. استغلّ الحلي عاطفة عاشوراء فأجّج العوام، فانقسمَ الناس إلى طائفتين على ما اصطلح عليه حينذاك «علويين» و«أمويين»، وعني بالأمويين أتباع السيّد الأمين، وكانوا أقلّية، وأكثرهم كانوا متستّرين خوفاً من الأذى، وقد أُهين عدد كبير منهم وضُرب البعض منهم ضرباً مبرِّحاً. وتطاول الحلي على المرجع الأصفهاني، وتعرّض للأمين بالسبّ والشتم، وقال فيه أبياتاً:

يا راكباً إمّا مررتَ بِجِلَّقِ (أي دمشق)
فابصق بوجه «أمينِها» المتزندقِ

وقال شاعر آخر:

ذريّةُ الزهراء إنْ عدّدت
يوماً ليطري الناسُ فيها الثنا
فلا تعدّوا محسناً منهمُ
فإنّها قد أسقطتْ مُحسنا

في النتائج، نجح الخطيب الحلي في إثارة العاطفة الدينية عند عوام الشيعة، وفرض على تيار إصلاح المنبر الحسيني طوق العزلة، فيما ينقل عن تعاظم المظاهر الطقسية الدامية في العام التالي.
في تقييم ما جرى يظهر أن كل ما يندغم في التكوين النفسي والاجتماعي والثقافي للجماعة يصبح جزءاً من هويتها وذاكرتها الجمعية ورأسمالها الرمزي، ومن الصعب حينئذ مقاربة ما هو هوياتي من زاوية دينية، ما لم يعد تفسيره أو بالأحرى توجيهه، كما فعل الإمام الخميني حين شجّع التبرّع بالدم لجرحى الحرب بدلاً من هدره في يوم عاشوراء بضرب الرؤوس بالسيوف (التطبير).
ولأن عاشوراء مكوّن أساس في الذاكرة الجماعية الشيعية، فهي مسألة انتماء وولاء أولاً، وإن معيار الخطأ والصواب والحلال والحرام يكون حينئذ غير ذي صلة. فالأمر لا يتعلّق بالتزام ديني بالمعنى التعبّدي الوظيفي، ولا حتى بالوعي الديني، وإنما هو طقس اجتماعي يظهّر فيه جمهور المعزّين وبشكل جماعي انتماءهم المذهبي. ولأن المطلوب تظهير هذا الانتماء بأشكال متنوعة، فإنّ الخيال يستوطن العقل الجمعي، ويمثل عنصره الفاعل محمولاً على عاطفة متدفّقة، تكون في حالة فوران دائم كيما تحقق غرضها. يذكّر مشهد الجمهور المحتشد في إحياء مناسبة عاشوراء بما أورده جلال آل أحمد في كتابه «قشّة في الميقات» حول مشاهداته في السعي بين الصفا والمروة:
«هل يمكنك أن تفكر بنفسك وسط هذا الانعتاق الجماعي الهائل، فتعمل شيئاً بمفردك؟ التيار يجتاحك ويأخذك أخذاً وبيلاً، هل حدث أن كنت وسط جماعة من الناس مذعورة، وهي تهرب من شيء ما؟ ضع كلمة "منعتقة" مكان كلمة "مذعورة" في الجملة السابقة، وضع "حائرة" بدل "تهرب"، أو ضع مكانها كلمة "لائذ". أنت مسلوب الإرادة مئة بالمئة، وسط هذا البحر العاصف من البشر».
وعليه، تعتصم كل الأفعال الجمعية بعاطفة وليس بعقل، وحين ينخرط الأفراد في أتون حشد جماهيري يتحولون إلى ذوات عاطفية ويكون العقل الجمعي هادياً ومرشداً، وهذا العقل له مركز تحكّم يديره الخطيب أو الرادود صاحب الصوت الشجي ومعه فريق من الشعراء والملحنين ومنظّمي المواكب والمجالس وتتسع الدائرة لتشمل شبكة واسعة من الأنشطة والتجهيزات والإكسسوارات واليونيفورم الخاص (الملابس السوداء، واللافتات والأعلام، والطبول، والسلاسل، والسيوف، والمضائف والمواكب السيّارة، واللطم). بإيجاز، ثمة سباق ينطلق كل عام يقدّم فيه المنظّمون أقصى ما لديهم من إبداعات وهذا السباق في حالة توسع دائم.

المقاربة السيسيوثقافية الثورية
حين تعجز عن مصادمة الواقع، يصبح الخيار الحاذق إعادة تفسيره، بفتح كوى في جدار الانسدادات الفكرية والمعرفية التي تحول دون السير مع حركة التاريخ. ما قام به الشيخ مرتضى مطهري وعلي شريعتي وآخرون، وتالياً الإمام الخميني ومفكرو الثورة الإسلامية في إيران، هو إعادة تفسير شامل للمفاهيم والوقائع التاريخية المسؤولة عن استقالة الشيعة وخروجهم من التاريخ.
في قراءة ثورية من خلفية إسلامية تنويرية وأخرى إسلامية ولكن بنكهة ماركسية يقدّم مرتضى مطهري وعلي شريعتي على التوالي سردية كربلائية متطورة تحيل عاشوراء من حدث في التاريخ إلى حدث للتاريخ، أي تحويل عاشوراء إلى قضية وقانون حتمي في تاريخ الصراع البشري بين الحق والباطل.
في الجزء الثالث من كتابه «الملحمة الحسينية» (ص 240، 347-348)، ينتقد الشيخ مرتضى مطهري ما وصفها بـ«التحريفات المعنوية» ومنها الاعتقاد بأن الإمام الحسين باستشهاده في كربلاء افتدى ذنوب الأمة جميعاً، وأرجع ذلك إلى التأثير المسيحي، وهي نظرة «تمسح فكر الحسين، وتجعله متراساً لذنوب الآخرين، ودرعاً لجرائم المجرمين، وكفّارة أعمال السوء الصادرة من الآخرين». ويعلق: «إن الحسين قد استشهد ثلاث مرات جسمياً، ومرة استشهد اسمه، ومرة استشهدت أهدافه».
وبدلاً من أن تكون مدرسة الإمام الحسين حافزاً على التغيير وتفعيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صارت مدرسة لصناعة الرجال من أمثال يزيد وابن زياد. وعلى أساس هذه الأرضية قامت الأساطير والخرافات، وصارت تُروى الحكايات الخرافية.
يخلص مطهري في قراءة واقعة كربلاء إلى أنها ثورة دموية، وأن حركة الحسين ونهضته وقيامه المقدّس ثورة كُتبت بالدم، وأن أبناء المستقبل والأجيال المتوالية ينبغي أن يعرفوا رسالة النهضة الحسينية.
لناحية شريعتي، فإن عاشوراء ليست يوم العاشر من محرم وتنتهي، إنما هي قضية «مؤبّدة بأبدية التاريخ»، كما يذكر في كتابه «الحسين وارث آدم» ص 233. وحتى مسألة الثأر في فلسفته التاريخية التي أسهب شريعتي في شرحها ليست مصمّمة على أساس الانتقام من قتلة الحسين، بل هو ثأر مُلقى على عاتق بني هابيل، وهذا معنى «يا ثأر الله وابن ثأره» الواردة في زيارة الحسين، وهذا الثأر يتراكم في كل جيل، لملاحقة تيار قابيل العابر للتاريخ والحاضر بأسماء ورموز مختلفة في كل عصر وجيل، هو جيل الطاغوت، العدو.
صاغ شريعتي رؤية أيديولوجية متقنة وأحال المأثور إلى ثورة، ونقل قيم كربلاء في الشهادة والجهاد والتضحية والفداء إلى ديناميات اجتماعية فاعلة ومحرّضة.
مع مطهري وشريعتي وآخرين مثل موسى الصدر في لبنان، لم تعد علاقة الفرد الشيعي مع عاشوراء مناسبة حزن تنتهي يوم العاشر من المحرم، ولا الحسينية بيت عزاء، تغلق أبوابها بعد مغادرة موكب السبايا إلى الكوفة وتالياً إلى الشام. على العكس، تبدّلت رسالة عاشوراء جوهرياً، وبات على كل من يحضر الحسينية أن يصطحب معه قلق المسؤولية التاريخية والدينية والاجتماعية. إنّ التسلّي بوهم الدخول إلى الجنة بمجرد ذرف الدموع الباردة على مقتل سيد الشهداء وثلة كربلاء تبدّد مع خطاب الثورة الجديد، أو التشيّع الثوري، أو ما يسميه شريعتي «التشيع الصادق الخالص الثائر الذي يضخّ اليقظة والوعي في حياة الناس... وهو قادر على إحياء المجتمع والأمة والتاريخ ومعالجة همومها ومشاكلها». فكان إحياء قيمة الشهادة هو المطلوب أكثر من البكاء على الشهداء، وكما قال جلال آل أحمد: «منذ أن هجرنا سنّة الشهادة وبادرنا إلى تعاهد قبور الشهداء، رضينا بالموت الأسود طوقاً في أعناقنا». وبذلك تبدّلت رسالة الحسين الخالدة، وأن صرخته «هل من ناصر ينصرني» هي سؤال ليس لأهل زمانه ومكانه، بل هي «دعوة إلى الشهادة وجّهها الحسين إلى جميع أولئك الذين يعظّمون حرمة الشهداء».
أزالت القراءة الثورية الجديدة لقصة عاشوراء الانسداد التاريخي في التشيّع. وهنا عُقدت رابطتان: بماض حيوي يضخّ نهره زخماً ثورياً، وبمستقبل واعد بعد إقصاء الانتظار السلبي وتفعيل الانتظار الإيجابي، بحسب النفس العكسي، كما صاغه شريعتي. فالانتظار كما يفهمه شريعتي هو ثورة، احتجاج، أو بحسب اصطلاحه «مذهب الاعتراض» («الحسين وارث آدم»، ص 313 وما بعدها).
كرّس قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني حياته لتعميم قراءة ثورية جديدة عبر سلسلة محاضرات ألقاها على طلابه في النجف أواخر ستينيات القرن الماضي، وصدرت بعنوان «الحكومة الإسلامية» حمل فيها على تيار المستقيلين، وأصّل لفكرة الانتظار الثوري، بإقامة دولة إسلامية تضطلع بإقامة العدل والشريعة. ونجح في إشعال أكبر ثورة شعبية في القرن العشرين سنة 1978، بعد الثورة البلشفية سنة 1917. وكان شعار ثورته «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء» وأن «كل ما لدينا هو من كربلاء» وفق القراءة الثورية الجديدة…
حسم انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979 تباين القراءات في الإسلام الشيعي، لمصلحة القراءة الثورية الجديدة التي عكست نفسها على الخطابة الحسينية، وإحياء مراسم عاشوراء، والمواكب وغيرها. لم تُسجّل في حياة الإمام الخميني خروقات لافتة على مستوى إحياءات عاشوراء. أمّا أنصار التطبير من تيارات مرجعية أخرى (وبخاصة تيار الشيرازية) فكانوا ينأَوْن عن الظهور العلني وغالباً ما يمارسون عادة التطبير في أماكن مغلقة وبعيداً عن الإعلام. وفي عهد قائد الثورة الحالي، الإمام الخامنئي، صدرت فتوى صريحة بحرمة الضرب على الرأس في عاشوراء بالسيف (التطبير) والمشي حافياً على النار والجمر (السيد علي الخامنئي، «أجوبة الاستفتاءات» ج 2، ص 129).
(يتبع)

* كاتب عربي