منذ خروج الجيش السوري من لبنان (26 نيسان 2005)، بفعل ارتدادات اغتيال الرئيس رفيق الحريري (14 شباط 2005)، بات يتكرّر في لبنان الاستعصاء في انتخاب رئيس الجمهورية. بدأ الاستعصاء مع نهاية ولاية الرئيس إميل لحود في 23 تشرين الثاني 2007، ولم يُنتخب خلفه ميشال سليمان إلا في 25 أيار 2008، بعد اتفاق الدوحة. واستمر الفراغ الرئاسي بعد نهاية رئاسة ميشال سليمان (في 24 أيار 2014) لسنتين وخمسة أشهر، إلى يوم انتخاب الرئيس ميشال عون في الجلسة النيابية الانتخابية السادسة والأربعين، بتاريخ 31 تشرين الأول 2016. فهل يعود ذلك إلى طبيعة الدستور والقوانين اللبنانية والتباس تفسيرها؟ وما تفسير امتناع النواب عن حضور جلسات انتخاب الرئيس أو حضور الجلسة الأولى وتطيير نصاب الثانية؟ وما تفسير تكرار هذا الامتناع عن انتخاب الرئيس لثمانية أشهر منذ خلوّ سدة الرئاسة العونية (في 30 تشرين الأول 2022)؟
(أرشيف - مروان طحطح)

لا يقتصر الأمر على استعصاء انتخاب رئيس الجمهورية، بل بلغ مسألة تشكيل الحكومات وسرعة انهيارها (إن شُكِّلت). فمنذ انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 تبيّن هذا الاستعصاء الحكومي بوضوح، إذ استقالت حكومة سعد الحريري الثانية في عهد عون، وبعده كُلّف حسان دياب الذي استقالت حكومته بعد انفجار المرفأ، واستمرت أكثر من سنة في تصريف الأعمال، وفشل تكليف اللبناني-الفرنسي، مصطفى أديب، بتشكيل الحكومة، ليتم تكليف الحريري مجدداً بالتشكيل، وليعتذر بعد 267 يوماً، وقام أخيراً الميقاتي بتشكيل حكومة صارت حكومة تصريف الأعمال المشكوك في شرعية دورها من بعض أهل السلطة منذ خلو سدة الرئاسة العونية.
علاوة على ذلك، ثمّة العشرات من المراكز الإدارية الأساسية في ملاك الدولة والوظيفة العامة (خاصة الفئة الأولى) شاغرة، والبعض منها مضى أكثر من العقد على شغوره، وذلك ما يزيد تعطل الدولة وتراجع وحدتها المرجعية وعجزها عن متابعة شؤون المواطنين. يعني ذلك بوضوح أن البلد يمر بأزمة سياسية حادة. وهذه الأزمة ليست قائمة في طبيعة الدولة ونظامها السياسي ودستورها وقوانينها فحسب، بل هي قائمة أيضاً في مكان أعمق. إنها قائمة في بنية المجتمع الذي بات بعض أطرافه يطرح التخلي عن الدولة ووحدتها بأشكال تقسيمية متفاوتة في حدتها (اللامركزيات).
كانت تهيمن على السلطة السياسية قبل الحرب الأهلية الطغمة المالية الممثّلة بالرأسمالية التجارية-المصرفية المنتمية بشكل أساسي إلى بورجوازية الموارنة (والمسيحيين عموماً، خاصة في جبل لبنان). تمكنت الطغمة المالية المهيمنة حينذاك من التحكم بآليات الاقتصاد اللبناني، ومن توحيد أطراف الطبقة البرجوازية المسيطرة اقتصادياً؛ كما تمكنت (بدعم الانتداب الفرنسي بالطبع) من ضبط النظام السياسي «الطائفي» بهيمنة المارونية السياسية (سيطرة البورجوازية المسيحية) المتحالفة مع السنية السياسية كتابعة للهيمنة المارونية.

أبرز نتائج الحرب الأهلية (1975)
كان من أبرز نتائج الحرب الأهلية، أولاً، على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي: إعادة بناء بنية الاقتصاد اللبناني؛ بوصفه اقتصاد النهب والفساد والمحاصصة، بكل معنى الكلمة، وتحولت الدولة وماليتها ومشاريعها إلى منصات لتقاسم الثروة بين الأطراف البورجوازية المسيطرة. وبالتالي إعادة تكوين وتركيب الطبقة البورجوازية المسيطرة؛ كطبقة بورجوازية مافيوية تقوم بدور اقتصادي أساسي: النهب الداخلي والمحاصصة. وهي طبقة بورجوازية تفتقر لفئة مهيمنة فيها لتصون سيطرتها الطبقية. فكان يحصل إجماعها، الاقتصادي والسياسي والإداري، بخضوعها لإملاءات الدور السوري.
وكان من أبرز نتائج الحرب الأهلية، ثانياً، على الصعيد السياسي وسياق الخروج من هذه الحرب باتفاق الطائف: ضمور تدريجي للنقيض الطبقي للبورجوازية المسيطرة (بفعل تضافر القمع الخارجي والداخلي، وخطأ الانكفاء الإرادي عن المقاومة في الجنوب -كردّ على القمع- والإغراء المالي لبعض القيادات)، وبالتالي تراجع كبير في الفاعلية السياسية لأحزاب الطبقات الكادحة.
ثالثاً، ترسيخ الطائفية في بنية واشتغال أحزاب الطبقة البرجوازية المسيطرة، بحيث يصح الكلام على أحزاب بورجوازية طبقية-طائفية، نشأت بفعل عمليات استتباعها للطبقات الكادحة. ولقد كان المجال الأساسي لإخضاع الكادحين لعدوهم الطبقي، البورجوازية، هو التحكم بوعيهم بالتحديد. وبشكل خاص عبر الفكر الديني، ما يسميه نيتشه «التدجين». ومن هنا اعتبار نيتشه أن المُدَجِّن النموذجي، هو رجل الدين. أليست الطائفية، في لبنان، في جانب أساسي فيها، هي تفعيل الفكر الديني لإدخال اللبناني في واحد من أقفاص الطائفية بدل ولوجه إلى رحاب المواطنة؟ وهذا ما يتفق مع رأي ماكس فيبر الذي يعتبر أن تحالف السلطتين السياسية والدينية يخدم في استتباع المواطنين للبورجوازية المسيطرة.
وهكذ في نظام الدولة اللبنانية الطائفية تم إدراج الكادحين الناشطين في أربع مجموعات سياسية طائفية أساسية: الأولى، وهي أحزاب البورجوازية المسيحية: التيار العوني، حزب القوات-جعجع، بقايا كتائب أمين الجميل. الثانية، أحزاب البورجوازية الشيعية: حركة أمل، حزب الله. الثالثة، أحزاب البورجوازية الدرزية: الحزب الاشتراكي الجنبلاطي، الحزب الديمقراطي اللبناني- الإرسلاني، حزب التوحيد العربي- وئام وهاب. الرابعة، أحزاب البورجوازية السنية: مجموعات حزب تيار المستقبل، الميقاتي وجماعته، الجماعة الإسلامية، الأحباش... وعلى هذا الأساس فإن أحزاب البورجوازية - الطائفية تمنع تكوّن الكادحين في أحزاب سياسية مستقلة.
لم يكن استتباع البورجوازية لجماهير الكادحين مجرد لعبة مخادعة إيديولوجيةً واستغلالاً للدين، بل استندت البورجوازية، أولاً، إلى شبكة من الأزلام-الأتباع المأجورين من المال العام كموظفين يحتلون في الدولة حصة الطائفة في غنيمة السلطة، أو المأجورين من شبكات الرأسمالية الحزبية، أو المأجورين من التهريب ومخالفة القوانين. كما استندت، ثانياً، إلى شبكة من المؤسسات الإعلامية (فضائيات، إذاعات، جرائد ومجلات ونشرات...) تحتكر الإعلام الرسمي وتتحكّم بالترخيص لوسائل الإعلام، أو بمطاردة الإعلام الحر بكل الوسائل «المقوننة» وبمعونة القضاء، وكان دور الإعلام ممارسة «الطرق» matraquage الفكري-الإيديولوجي المتواتر بحدة. واستندت، ثالثاً، إلى دور رجال الدين كمرجعيات دينية-سياسية وحصاناتهم وفعالية المؤسسات الدينية المتنوعة.
والنتيجة الرابعة الأساسية: تجديد البنية الطائفية للنظام السياسي وتعديلها وتكريسها دستورياً وقانونياً (مع أن نظام الطائف انطوى في نصوصه على الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية، ولكنها دعوة عطّلتها ممارسة الطبقة المسيطرة بإجماع أطرافها)؛ أمّا التعديل فتناول مواقع الهيمنة والسيطرة في بنية النظام السياسي بين الطوائف، كما سنرى لاحقاً، وهو ما شكّل مجال ورهان التناقضات الثانوية بين أطراف الطبقة البورجوازية المسيطرة وتحولها إلى تناقضات أساسية.
إن أزمة النظام السياسي «الطائفي» اليوم تكمن تحديداً في الصراع على موقع «الهيمنة الطبقية-الطائفية». وموقع «الهيمنة الطبقية-الطائفية» هو موقع التحكّم بمفاصل الدولة وممارساتها وسياساتها الأساسية الداخلية والخارجية


أهو «توازن طائفي» أم «مغالبة طائفية»؟
منذ بداية تكوّن الدولة اللبنانية ونظامها السياسي «الطائفي» ساد الكلام (ولا يزال سائداً حتى اليوم) على «التوازن الطائفي» بين «مكوّنات» الشعب اللبناني. وذلك على اعتبار أن «لبنان مكوّن من أقليات طائفية متشاركة»، وفق معادلة ميشال شيحا المنظّر الأهم للنظام الطائفي اللبناني. تم في الأصل اعتبار أن «التوازن الطائفي» يكمن في المجلس النيابي (السلطة التشريعية)، حيث يتوزع النواب بين الطوائف بنسبة أحجامها العددية. وتم تغييب «التوازن الطائفي» في السلطة التنفيذية القائمة في رئاسة الجمهورية والحكومة. وكانت السلطة التنفيذية مقتصرة على المسيحية السياسية (البورجوازية المسيحية) والسنية السياسة (البورجوازية السنية)، مع غلبة الأولى وهيمنتها على الثانية. فكان غرض التركيز الفكري-الإيديولوجي على مقولة «التوازن الطائفي» في السلطة التشريعية وتغييبها في السلطة التنفيذية، حجبُ الطبيعة الاستبدادية الكامنة في جوهر النظام السياسي الطائفي من جهة، وتمويه وإخفاء هيمنة الطبقة البورجوازية في النظام (وفئتها المهيمنة = الطغمة المالية).
بعد الحرب الأهلية، ومع اتفاق الطائف، رُفع شعار (رفيق الحريري) «وقّفنا العد». فصار «التوازن الطائفي» المناصفة الشاملة في مجلس النواب بصرف النظر عن الأحجام العددية. وتعدّلت صيغة اشتغال مجلس الوزراء، لصالح دور أوسع للبورجوازية السنية، مع تقليص دور رئاسة الجمهورية (البورجوازية المسيحية) التي كانت طاغية في السابق، ولا سيما تحكّمها بالحكومة.
إنّ التطورات السياسية الداخلية بعد الطائف، وبعد الخروج السوري من لبنان (26-4-2005)، انعكست في توتر متكرر في اشتغال النظام السياسي «الطائفي»، ما يكشف مروره في أزمة متصاعدة. وترافق ذلك بانكشاف أنه ليس هناك من معنى عملي حقيقي لمقولة «التوازن الطائفي». وتبينت حقيقة «التوازن الطائفي» بأنها وضعية «هيمنة طائفية» (لا «توازن طائفي») لطرف من أطراف (أو فئة من فئات، أو محالفة من المحالفات الطائفية) البورجوازية المسيطرة والمتمثلة بالأحزاب الطائفية. ولقد ظهر أن «التوازن الطائفي» هو مجرد ستار مخادع يحجب الحالة التي تستقر عليها، أو تنتهي إليها، «المغالبة الطائفية» (الحامية أو الباردة). فـ«التوازن الطائفي» ليس تعبيراً عن «التعايش الطائفي» أو «العيش المشترك» أو «الميثاقية» أو «الديموقراطية التوافقية»، أو سائر التسميات الإيديولوجية الكاذبة والمخادعة، بل هو في حقيقته محصلة المغالبة، أي محصلة الصراع، بين الفئات البورجوازية المسيطرة بالذات. إنه الصراع على موقع الهيمنة الطبقية-الطائفية بين أطراف الطبقة البورجوازية المسيطرة. ولعل جوهر الأزمة التي يعيشها النظام السياسي الطائفي هو بالتحديد أزمة الهيمنة الطبقية-الطائفية.

أزمة النظام السياسي الطائفي
على العموم، إن أزمة النظام السياسي «الطائفي» اليوم تكمن تحديداً في الصراع على موقع «الهيمنة الطبقية-الطائفية». وموقع «الهيمنة الطبقية-الطائفية» هو موقع التحكّم بمفاصل الدولة وممارساتها وسياساتها الأساسية الداخلية والخارجية. فالفئة «الطبقية-الطائفية» المهيمنة تتحكّم بسلطة الدولة بشكل عام، وتضعها في خدمة هيمنتها هي بالذات، ومن داخل سيطرة كل أطراف الطبقة البورجوازية-الطائفية المسيطرة. فالفئة «الطبقية-الطائفية» المهيمنة تصنع وحدة الطبقة البورجوازية المتكوّنة من مجموع الأحزاب السياسية الطائفية. وذلك إمّا سلمياً، فتنشأ تلك الوحدة، بقيادة الفئة المهيمنة، بمثابة «محالفة طبقية-متعددة الطوائف» بالحوار والتفاهمات السلمية السياسية، وإمّا بالمغالبة العنفية كما حصل في أيار 2008 عندما اضطرت المقاومة (الثنائية الشيعية) لحماية وجودها وحماية شبكة اتصالاتها من توجيه ضربة إلى ميليشيا تيار المستقبل وقوات الحزب الاشتراكي. ومن بين أهم أهداف الفئة «الطبقية-الطائفية» المهيمنة تحصين جميع أطراف هذه الطبقة البورجوازية بوجه عدوها الطبقي، أي الجماهير الكادحة ورافضي النظام الطائفي، وهذا ما حصل عندما أقدمت ميليشيات «الثنائية الشيعية» على اقتلاع خيم المنتفضين في ساحة الشهداء ورياض الصلح، وفي بعض مناطق الجنوب، وكذلك ما فعله الحزب الاشتراكي في مناطق سيطرته، فضلاً عن محاولة حزب القوات اللبنانية استغلال الانتفاضة الشعبية والسيطرة عليها. وهذه الممارسات الأخيرة كانت خدمة لكامل الطبقة البورجوازية المتعددة الطوائف.
وموقع «الهيمنة الطبقية-الطائفية» هذا لا يرتبط، في الظروف الاقتصادية الراهنة لاقتصاد النهب والفساد السائد، بموقع واحدة من الفئات البورجوازية المسيطرة الساعية إلى الهيمنة باستنادها إلى دورها وموقعها الاقتصادي. فالأدوار الاقتصادية لجميع أطراف الطبقة المسيطرة متساوية تقريباً في الفعالية، بحكم شراكتها العضوية في اقتصاد النهب السائد، والفساد المسيطر، والموزّع بين هذه الفئات بمحاصصة تقريبية. وبالتالي لا يستطيع أي طرف من أطراف الطبقة المسيطرة أن يهيمن في إدارة دفة الاقتصاد، وأن يتحكم انطلاقاً من هيمنته هذه في الإدارة السياسية للنظام. ومن هنا تعود عمليات و/أو محاولات الهيمنة باستنادها إلى النشاط والفعالية السياسية والصراعية لفئات الطبقة البورجوازية المسيطرة أو لأحزابها، ولا تعود لأدوارها الاقتصادية.

الصراع على مواقع الهيمنة
يتجلى الصراع في الظروف الراهنة على موقع الهيمنة بين أطراف الطبقة المسيطرة كما يلي:
أولاً، المسيحية السياسية (البورجوازية المسيحية) تناضل لاستعادة الموقع السابق لرئاسة الجمهورية في التحكم بدور أساسي في السلطة التنفيذية: فرض الرئيس تبعاً لخيار هذه البورجوازية المسيحية، واستعادة تحكمه في الحكومة وفي تشكيلها وتعيين ميزان القوى داخلها (حصة رئاسة الجمهورية والثلث الخاص بـ«الطائفة» المسيحية) وفي قراراتها. وأخيراً طرحت أحزاب البورجوازية المسيحية مسألة حقها بفرض فيتو ضد أي مرشح لرئاسة الجمهورية لا توافق عليه أو لا تطرحه هي بالتحديد. وعلى ضوء هذا المسعى نشأ رفض ترشيح الثنائي الشيعي لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية، من قبل التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب اللبنانية والتقاطع على ترشيح أزعور.
ثانياً، في الرد على محاولة البورجوازية المسيحية التطاول على ما اكتسبته البورجوازية السنية في تشكيل الحكومات وفق اتفاق الطائف، فإنها استنفرت لمواجهة تهديد موقعها المركزي في السلطة التنفيذية من جانب البورجوازية المسيحية، وكذلك من جانب الشيعية السياسية أحياناً.
ثالثاً، تستشعر السنية السياسية والمسيحية السياسية، كل واحدة من جهتها، محاولة هيمنة الشيعية السياسية على السلطة، أي تصاعد دور الشيعية السياسية (البورجوازية الشيعية)، باتجاه الهيمنة الفعلية في الدولة اللبنانية. لقد فرضت الثنائية الشيعية (حركة أمل وحزب الله) لنفسها دوراً في السلطة التنفيذية، بتمسكها باحتكار موقع وزارة المالية في مجلس الوزراء، وهي بذلك تشارك في التوقيع (وبالتالي في الموافقة أو الرفض)، مع رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، على المراسيم الأساسية المنطوية على أكلاف مالية. وهي اليوم تعمل، مع حكومة الميقاتي لتصريف الأعمال، لممارسة دور أوسع في مجلس الوزراء، من خلال التدخل الحاسم في تحديد جدول أعمال اجتماعات الحكومة، فضلاً عن إقرارها بالفيتو المتبادل بين الطوائف الأساسية في الحكومات فيما يخص القضايا الأساسية للنظام.
إن تبني نبيه بري لشعار «وقّفنا العد» لا يحجب طموح (وهو طموح مشروع وفق منطق واشتغال دولة الطوائف، خارج مقولات الإيديولوجيا المخادعة) الشيعية السياسية بتحقيق مساواتها الفعلية في «التوازن الطائفي» الذي تزعم جميع أطراف السلطة التمسك به. فهي تريد لنفسها دوراً، ولو تحت عنوان «التوازن الطائفي»، يعطيها موقعها في المغالبة الطائفية التي تحجبها مقولة «التوازن الطائفي». وهذا الموقع يكمن في السلطة التنفيذية بالذات (رئاسة الجمهورية والحكومة). ما يعني أن البورجوازية الشيعية تناضل للحصول على موقع مقرر في اختيار رئيس الجمهورية، قبل انتخابه.

البورجوازية المسيحية التي بنت هذا النظام الطائفي ونظّرت له بلسان أبرز شخصية منظّرة للإيديولوجيا الطائفية في لبنان، انكفأت اليوم إلى نزعة التخلي عن النظام وعن أحادية الدولة، بطرح أشكال الفيدراليات التي تعني تقسيم الدولة والمجتمع


التناقض في التبعية البورجوازية للخارج
يجدر بنا النظر بدقة في انقسام أطراف الطبقة البورجوازية اللبنانية (الأحزاب الطائفية) بين تبعية انتماء إلى معسكر الكتلة الأميركية-الأوروبية (الصهيونية)-الخليجية، من جهة، وانتماء إلى معسكر الكتلة الإيرانية ومحالفتها (الممانعة)، من جهة أخرى. فالطبقة الحاكمة متصدّعة لجهة وحدتها، ولجهة مشروع حكمها، ولا سيما علاقاتها الخارجية. إن البورجوازية اللبنانية منقسمة على ذاتها، فريقين أساسيين. أولاً، فريق على تبعية للرأسمالية العالمية وسياسات دولها (الولايات المتحدة الأميركية، دول الاتحاد الأوروبي، بريطانيا وأنظمة الرجعية العربية...) والخضوع لإملاءاتها، ولخطط المؤسسات الدولية المصرفية والاقتصادية التابعة لها وللأمم المتحدة (ما يُطلق عليه عبارة المجتمع الدولي): تيار الحريرية السياسية (المستقبل) الحزب الجنبلاطي، القوات اللبنانية، الكتائب اللبنانية، وحيتان المال... وعلى هذا الفريق تراهن الإمبريالية لتتشكل سلطة محلية تنفيذية تتمكن من نزع شرعية المقاومة وتطرحها كميليشيا خارجة على الدولة وعلى النظام. ثانياً، فريق آخر، على تبعية سياسية لمحور الممانعة بقيادة إيران الطامحة للدخول كندّ مستقل وكامل الحقوق المساوية لما تتمتع به دول الرأسمالية العالمية المسيطرة. ومن هنا، يتناقض هذا الفريق الثاني بالتالي مع التوجهات الإمبريالية الأميركية والأوروبية (على الساحة اللبنانية وفي المجال الإقليمي والعالمي): حزب الله، حركة أمل، التيار العوني (لحد ما). ومن هنا تعمل الثنائية الشيعية على تحصيل موقع فاعل في اختيار الرئيس يمكّنها من مواجهة المشروع الإمبريالي وأتباعه في البلاد.
لا تنفي حالة الفريقين وتموضعهما وجود بعض الفروقات والاختلاف والتوافقات أحياناً بين أطراف كل واحد من الفريقين، وأحياناً وجود توافقات بين أطراف من كل من الفريقين (أمل والمستقبل والحزب الاشتراكي، أو التيار العوني وحزب القوات).
هذان الفريقان الأساسيان في الرأسمالية اللبنانية يشكلان طبقة أطرافها «متحالفة-متخالفة». يتصارعان على مسائل السياسة الداخلية الاقتصادية والعمرانية والإدارية وقد يتفقان عليها في لحظات المحاصصة انسجاماً مع تراثهما الميليشيوي والمافيوي؛ وبذلك يشكلان طبقة «متحالفة-متخالفة». ويختلفان ويتصارعان على مسائل السياسة الخارجية، وانعكاساتها في السياسة الداخلية؛ بحكم التبعية الخارجية لكل منهما، وهي تبعية متناقضة في الغالب.
وفي الحقيقة، فإن الأزمة في البلاد هي أزمة الطبقة البورجوازية المسيطرة. فالتناقضات الثانوية بين أطرافها الطبقية-«الطائفية» تحولت إلى تناقضات أساسية، هي التي تصنع استعصاء الانتخابات الرئاسية والتشكيلات الحكومية. وهنا تتجلى بكل وضوح أزمة النظام السياسي «الطائفي»، هذا النظام الذي تمتدحه كل أطراف الطبقة البورجوازية متشاركة في مخادعات «العيش المشترك» واحترام «التوازن الطائفي». ولا ريب أن بورجوازية «الثنائية الشيعية» التي عبّرت عن أوضح التمسك بالنظام السياسي «الطائفي»، سواء في مواقف نبيه بري أو السيد حسن نصرالله، تبدو الأقل بحثاً عن التعديلات في هذا النظام السياسي «الطائفي»، ولكنها، كغيرها من أطراف البورجوازية «الطائفية»، تمارس المغالبة «الطائفية» تحت التمسك بغطاء «التوازن الطائفي» والدفاع عنه، وهي تفعل ذلك استناداً إلى ما تتيحه لها من ممارسة سياسية طبيعة الدستور والقوانين. ويختصر السيد حسن موقفه بالقول أليس من حقنا المطالبة برئيس للجمهورية (نحن لا نريد فرضه) ولكننا نريد الوثوق بشخصه بأنه لن يقوم بطعننا من الخلف. فمن المحال، بالتالي، أن تساهم الثنائية الشيعية بانتخاب رئيس للجمهورية ينحاز إلى المشروع الاستعماري الهادف إلى القضاء على المقاومة. وهنا ينكشف جوهر الصراع: تيار من البورجوازية (مؤيد للإمبريالية) يريد محاصرة المقاومة وتصفيتها، وتيار معاد للإمبريالية ومؤيد للممانعة يريد صدّ المشروع الإمبريالي والمحافظة على المقاومة ومشروعها. والتياران يتصارعان على المواقع التنفيذية في الدولة، وبشكل خاص، على مواقع السلطة التنفيذية المتركّزة في رئاسة الجمهورية والحكومة. وعلى هذه الخلفية ينشأ الاستعصاء في انتخاب الرئيس والاستعصاء في تشكيل الحكومات.
لا شك أن الثنائية الشيعية هي الفئة «الطبقية-الطائفية» المهيمنة داخل أطراف الطبقة البورجوازية المسيطرة في لبنان. فهي التي استأنفت بنجاح نضال القوى اليسارية والقومية بوجه العدو الصهيوني المحتل للجنوب، وهي التي نجحت في التحرير عام ألفين، وفي وضع معادلة الردع الجدية انطلاقاً من حرب تموز 2006، وما تلاها من مواجهات محلية وخارجية مع جرائم وخطر السلفية الجهادية العمياء (مع ما لدينا من ملاحظات حول أحادية الثنائية الشيعية في احتكار المقاومة). ولا شك أن ما حققته هذه الفئة «الطبقية-الطائفية» من نجاح في عمليات المقاومة ومواجهة الإمبريالية، يشكّل في وجهه الآخر هزيمة للتيار المؤيد للإمبريالية.
وما يُسمّى «فائض القوة» عند الثنائية الشيعية، أو حزب الله، هو تعبير عن «خواء القوة» والوعي عند بورجوازيات بقية الطوائف. والدعوة لتحرير لبنان مما يُسمى «الاحتلال الإيراني» هي مجرد دعوة لحرب أهلية طائفية، فضلاً عن تزوير حقيقة تاريخية بجعل الشيعة في لبنان مجرد جالية إيرانية طارئة بينما هم يشكلون مكوّناً تاريخياً لا يقل أصالة لبنانية عن جميع بقية الطوائف، حتى في انتمائه إلى جبل لبنان بالذات كالمتن وكسروان وجبيل.

النظام الطائفي: المشكلة أم الحل؟
وفي الخلاصة، يعيش لبنان أزمة حادة في نظامه السياسي الطائفي. ومع أن كل الأطراف البورجوازية، التابعة للاستعمار والممانعة له، كانت تتغنى بمقولة «التوازن الطائفي» ومندرجاته الإيديولوجية من «العيش المشترك» إلى «الديموقراطية التوافقية»...، فإن البورجوازية المسيحية التي بنت هذا النظام الطائفي ونظّرت له بلسان أبرز شخصية منظّرة للإيديولوجيا الطائفية في لبنان، انكفأت اليوم إلى نزعة التخلي عن النظام وعن أحادية الدولة، بطرح أشكال الفيدراليات التي تعني تقسيم الدولة والمجتمع. بدأت البورجوازية المسيحية قائدة متسلطة على هذا النظام، برعاية الاستعمار الفرنسي، وانتهت سيطرتها بحرب أهلية مدمرة، وبخسارتها موقع الهيمنة. فأعقبتها البورجوازية السنية محمولة على محالفة أميركية-أوروبية-خليجية-سورية، ولكنها سرعان ما عادت لتصارع عودة البورجوازية المسيحية إلى طموح الهيمنة، وإلى مواجهة البورجوازية الشيعية في سياق الصراع ضد الهيمنة الغربية-الصهيونية على لبنان والمنطقة. واليوم تعيش البلاد أزمة هذا النظام الطائفي التي تتجدد باستمرار. وتتجلى هذه الأزمة، بالطبع، في استعصاء انتخاب رئيس للجمهورية. فإلى أين الاتجاه؟
يبقى أن نشير إلى أن هذا النظام الطائفي، وهو السترة الواقية التي تحتمي بها البورجوازية اللبنانية من الجماهير اللبنانية الكادحة، هو من أسوأ الأنظمة السياسية في العالم. يكفي أن نقرأ رأي ميشال شيحا بهذا النظام، وهو المنظّر الأول للطائفية في بلدنا. يقول شيحا، في مقال له بعنوان «المثال والممكن» (بتاريخ 22 شباط 1946): «دستورنا واحد من أكثر الدساتير سلطوية في العالم» (1). وفي مقال له بعنوان «تفادياً من أزمة معنوية» (بتاريخ 30 أيار 1952)، يصف هذا النظام الطائفي بأنه على نزعة تدميرية لأبناء كل الطوائف بالذات، فيقول: «إننا نقف، في الطائفتين المسيطرتين (يقصد الموارنة والسنة)، على الخراب. ولِمَ لا نسمي الشيء باسمه ما دام هذا الأمر يفرض نفسه؟ وإنما هو خراب لأن من يُقيّض له الإمساك بزمام السلطة يعود غير متقبّل وجود منافس جدي من حوله. وقد أصبحت هذه الظاهرة جلية كالشمس، مدركة كانت أم غير مدركة. وهي باتت تعبّر عن نفسها، بالنتيجة، على نحو متأصّل، بما يُسمى "مذبحة للأبرياء"» (2).
ويضيف شيحا في توصيف صريح للنظام اللبناني بأنه نظام ديكتاتوري بقوله: «إن النظام اللبناني الحالي نظام ديكتاتورية مقنّعة (dictature voilée)» (3). ويستأنف هذا التوصيف: «مرة أخرى نقول إننا في نظام ديكتاتورية مموّهة dictature camouflée، وهي ديكتاتورية أليغارشية (dictature oligarchique)» (4).
تُرى، لماذا تتغنى البورجوازية اللبنانية بهذا النظام الديكتاتوري المخادع؟

*كاتب لبناني

هوامش:
(1) ميشال شيحا، في السياسة الداخلية، ترجمة أحمد بيضون، مقدّمة غسان تويني، دار النهار للنشر ومؤسسة ميشال شيحا، بيروت 2004، ص 77. كان من الأنسب، بتقديرنا، أن تتم ترجمة عبارة autoritaire بعبارة «استبداداً»، بدل «سلطوية» في جملة: Note Constitution est une des plus autoritaires du monde.
(2) المرجع السابق، ص 183.
(3) المرجع السابق (...)
(4) المرجع السابق، ص 185.