فجر الخميس، في الرّابع والعشرين من شباط 2022، انطلقت العمليّة العسكريّة الروسية في أوكرانيا، هكذا سمّتها روسيا، وهكذا أرادتها، فلم تطلق عليها اسم «حرب» بل هي عمليّة عسكريّة محدودة الأهداف.وقد لخّصت روسيا هذه الأهداف في اثنين هما:
أ- مواجهة تقدّم «النّاتو» شرقاً عبر منع انضمام كييف إلى الحلف.
ب- دعم استقلال إقليمَي دونيتسك ولوغانسك.
هل كان يمكن لروسيا أن تتجنّب هذه العمليّة التي طالت لتتحوّل شيئاً فشيئاً إلى حرب مع الغرب تحت قيادة الولايات المتّحدة؟ هل ترك الغرب الذي تتزعّمه أميركا فرصة لذلك؟
لقد كان واضحاً أنّ الغرب الذي قاد ثورة ملوّنة ضدّ الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا موصلاً ألعوبته فولودومير زيلينسكي إلى سدّة الحكم ليقود حالة موالية للغرب ومعادية لروسيا على حدودها، لا يريد الوصول إلى حلّ سلمي للأزمة، ولا يريد الاستجابة للهواجس الرّوسيّة، وبالتّالي فقد كان لا بدّ لبوتين أن يخوض هذه المعركة. وفي هذا الصّدد، يقول مصدر روسي رفيع المستوى إنّ الرئيس الروسي كان، حتّى اللحظة الأخيرة، ينتظر أن تفعل الدبلوماسية فعلها لوقف انطلاق هذه العمليّة، إلاّ أنّ ذلك لم يحصل، وقد شاهد العالم بأمّ العين كيف سارع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى أوكرانيا في آذار 2022، أي بعد شهر من انطلاق المعارك، ليحثّ زيلينسكي على عدم الاستجابة لما يُطرَح حول الجلوس مع روسيا إلى طاولة المفاوضات.
لقد بات واضحاً، اليوم، أنّ ما اعتبرته موسكو عمليّة خاصّة محدودة في المكان والزّمان لم يعد كذلك، ويعود ذلك إلى الدّفع الغربي باتّجاه تأجيج نار المعركة وتغييب الدبلوماسية، وعبر الدّعم اللامحدود والمتصاعد الذي تتلقّاه أوكرانيا. كذلك فقد بات واضحاً أيضاً أنّ هذه العمليّة باتت تستنزف أوروبا بقدر ما تستنزف روسيا سواء بسواء، وأنّ حساب حقل جميع الخائضين لها، لم يوافق حساب بيدرهم. لقد بات واضحاً أنّ مستنقع هذه المعركة كبير جدّاً وأنّ وحوله لن تطاول أقدام الرّوس فقط.
طال أمد العمليّة، وامتدّت أذرع عالميّة كثيرة للخوض فيها، وقد وضح الآن أنّها لم تعد تعني روسيا وأوكرانيا فقط بل هي تكاد تتحوّل إلى حرب عالميّة لكلّ قوّة في العالم يدٌ فيها، بدءاً من الغرب الدّاعم لأوكرانيا وصولاً إلى الصين التي لا تخفي دعمها لروسيا. رقعة العالم باتت اليوم واضحة المعالم، فهنالك الغرب بقيادة «الناتو» يريد أن يحافظ على التوازنات التي نشأت بعد انهيار الاتّحاد السّوفياتي، ونعني بذلك العالم ذا القطب الأوحد، وهنالك قوى على رأسها الصّين تسعى، من خلال نقاط التّوتر في العالم وأهمّها أوكرانيا، إلى إيجاد توازنات جديدة وفقاً لقواعد جديدة لا تكون فيها الولايات المتّحدة قطباً أوحد، فهل تنجح؟
ومع غياب التوجّهات نحو التّهدئة، وفي ظلّ ما نشهده اليوم من محاولات أوكرانيّة لشنّ هجمات مباغتة في سعي حثيث منها لتغيير الوضع الميداني، والانتقال بالحرب إلى مستوى آخر، تقوم فيه المُسيّرات الأوكرانيّة بالاقتراب من العمق الرّوسي، يبقى ما تقوم به روسيا وما تعلنه دائماً هو أنّ هذه الحرب ليست سوى عمليّة خاصّة، حتّى إنها وإن لوّحت باستعمال الأسلحة النّوويّة لا تزال تستعمل الأسلحة التّقليديّة الأقلّ تطوّراً في ترسانتها، وذلك لأهداف استراتيجيّة ليس هنا مجال ذكرها، وكي تقلّل قدر المستطاع من أعداد الضّحايا بين المدنيين.
تستنزف هذه الحرب روسيا؟ هذا أمر صحيح ولا يمكن إنكاره، لكنّ هنالك بعداً استراتيجيّاً لكلّ ما يحصل، فهذا التّململ العالمي لا بدّ له من أن يشكّل مخاضاً لولادة عالم جديد، وها نحن نرى بأمّ العين كيف تسعى دول كثيرة لإزاحة نير العقوبات عن كواهلها، وكيف تحاول استبدال الدّولار بعملاتها الوطنيّة، بعضها يفشل لكنّ كلّ ذلك لا بدّ له أن يخلق شيئاً جديداً على مستوى العالم. فها هي السّعوديّة تتفلّت شيئاً فشيئاً من القبضة الأميركيّة، وقد ينشأ نظام مالي جديد يكون موازياً لنظام «سويفت»، عندها يمكن أن نجاهر بنشوء عالم متعدّد الأقطاب، من يدري؟
الدّعم الصّيني لروسيا لم يعد خافياً، وهذا الغرب لم تعد لديه ثقة في الانتصار، فما بعد باخموت لن يكون كما قبلها، وهذا الأوكراني الذي يتوثّب ويقفز ليعود جريحاً خالي الوفاض، إلى متى يمكن مدّه بموارد يحتاج إليها العالم لتغطية الحاجات الأساسيّة لشعوب عاشت الرّفاهية لفترات طويلة وها هي الآن تدرك أنّها تخسر هذه الرّفاهية بسبب دعم حكوماتها المستمرّ لأوكرانيا، بينما يطوف زيلينسكي من بلد إلى بلد والمطلوب واحد: المزيد.
في المقابل، فإنّ كلّ هذا الدّعم لم يستطع إحداث خرق يغيّر سياق العمليّة لغير ما رسمته لها روسيا، فعلى الرّغم من كلّ الدّعم الغربي ما زال فلاديمير بوتين هو قائد هذه العمليّة بلا منازع وما زالت الخطوط الاستراتيجيّة المرسومة خاضعة لرؤيته وبصيرته، لم يستطع الغرب أن يؤلّب الشّعب الروسي عليه كما صرّح بعض القادة الغربيين في بداية العمليّة من أنّ إطالة أمد الحرب ستقود إلى ثورة تقلب نظام الحكم في روسيا، لكنّ ذلك لم يحصل، ويبدو أنّه لن يحصل.
واقع الحال أنّ هذه العمليّة مرشّحة للاستمرار، ولمزيد من استنزاف الشّعوب، ولا يدري أحد الآن إلى متى يمكن أن تستمرّ، أو متى تخمد نارها، لكنّ ما بات مؤكّداً أنّه على نتائجها تتوقّف مصائر دول وشعوب كثيرة، ونحن في الشّرق الأوسط لن نكون بمنأى عن هذه النتائج، وقد عانينا الأمرّين في العراق وليبيا وسوريا وفلسطين ولبنان من نتائج الأحاديّة القطبيّة التي مارستها الولايات المتّحدة ضدّ منطقتنا، ولعلّنا أكثر من سوانا مضطرّون إلى العمل والمساندة في سبيل عالم أكثر عدالة، فهي ليست مجرّد عمليّة عسكريّة، إنّها تغيير لقواعد اللعبة العالميّة بما يمهّد لعالم جديد بات كثر في انتظاره.

* باحث في الشؤون الاقتصادية والإدارية