«منذ الساعة التي عقدنا فيها القلوب والقبضات على الوقوف معاً والسقوط معاً في سبيل تحقيق المطلب الأعلى المعلن في مبادئ الحزب السوري القومي وفي غايته، وضعنا أيدينا على المحراث ووجَّهنا نظرنا إلى الأمام إلى المثال الأعلى»[أنطون سعاده - «الخطاب المنهاجي الأول» 1935]

«وقال آخر أيضاً اتبعك يا سيد، ولكن ائذن لي أولاً أن أودع الذين في بيتي
فقال له يسوع ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء»

[يسوع الناصري، لوقا 62-61:9]

كتاب نزار سلّوم الأخير، البحث عن زيوسودرا، عن مشروع أنطون سعاده ومصير سورية، كتاب مفصلي في تاريخ النهضة السورية القومية الاجتماعية، وتاريخ التشكيلات المتناحرة التي تنتحل اسمها. إنه مفصلي لأنه يضع كل من انتمى إلى هذه النهضة، سواء أكان ملتزماً بأحد التشكيلات أم منكفئاً عنها، أمام سؤال مفصلي: هل أنت في حزب غير اعتيادي أم في حزب اعتيادي؟ وهذا السؤال يقودنا بالاستطراد إلى سؤال أكثر حميمية، هل أنت شخص غير اعتيادي أم شخص اعتيادي؟
لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن هذا السؤال هو محور الكتاب، ولكن إذا اكتفينا به، تجنّينا عليها، أي الحقيقة. فالكتاب أكثر بكثير من هذا السؤال. إنه جلسة استجواب لسعاده، ليس فقط في مرحلة «أزمة الحزب البنيوية» التي يؤرخ لها سلّوم ابتداء من الثامن من تمّوز، 1949، تاريخ اغتياله، بل يُسائله في مرحلة أخطر بكثير شهدت تكوّن «علة الحزب البنيوية»، أي إبّان وجوده في قيادته بين عامَي 1932 و1947. ويميّز سلّوم بين الأزمة والعلّة بالقول: «... والفرق بين الأزمة والعلّة كبير وجوهري، حيث تعود الأزمة إلى أسباب عارضة، فيما تعود العلّة إلى سبب رئيسي بنيوي يوجد حصراً في الأساس، أي في الأصل، أي ابتداء من خط 16 تشرين ثاني، 1932» (ص. 19).

يستهل الكاتب البحث بمقدمة يقول فيها: «أكثر من تسعين سنة انقضت على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وها هو يكابد قدر الشيخوخة، إذ تحاصره الأسئلة الكبرى من مثل: ماذا فعلت في حياتك المديدة؟ ولماذا لم تنتصر؟ وأين أنت الآن؟ وكيف ترى المستقبل؟» ويصف وضع الحزب اليوم بأنه في «متاهة تنظيمية يحاول الخروج منها فيجد نفسه غارقاً في تلافيفها وعقدها». إنه ينظر إلى «أجيال متعاقبة انتمت إلى الحزب، رغم كوارثه وهزائمه ومتاهته التنظيمية. انتمت ودخلت من باب النهضة حيث تجد سعاده وخطابه، ولكن لتجد نفسها مقيمة في (حزب عادي) ومأزوم دائماً. حزب استسلم أمام عناد سكان الأقفاص فالتحق بفلكها متحالفاً أو مؤازراً لقوى الأمر الواقع» (ص. 9-8).
يسأل سلوم، «أي سعاده» نُسائل؟ سعاده رجل الفكر والسياسة، أم صاحب الرسالة والدعوة، أم سعاده البطل الملحمي؟ (ص. 22). قلّة ساءلت سعاده، ومن جاء بعد استشهاده من قيادات وأعضاء، عن مرحلة قيادته المباشرة للحزب. فإذا كان بالإمكان مساءلة مرحلة ما بعد استشهاد سعاده، فإن مرحلة قيادته، والتي انتهت باستشهاده، قد صبغتها دماؤه بالتراجيديا الملحمية. وهذه لا تخضع للمساءلة. ولكن نزار سلّوم يخضعها لذلك. إنه يفعل بقلق المحب، أو بمحبة القلق. إنه يسأل سعاده لماذا لم ينتصر في مرحلة قيادته للحزب؟ لماذا غادر البلاد عام 1938؟ لماذا وضع النهضة والحزب والمؤسسات في سلة واحدة في بعض الأمكنة، وفصل بينها في أمكنة أخرى؟ إنه يسأل ما إذا كان نصه منهجياً تولدياً أو مقدساً دينياً مغلقاً.
«هل نجازف إذ نعود إلى البحث عن (العلة) في الأسس الأولى، أو الجذور العميقة التي غرسها سعاده نفسه؟» يسأل سلّوم (الصفحة نفسها). ومن هنا يأخذنا في رحلة تفكيك وإعادة بناء لمرحلتي التأسيس كما يراهما، الأولى عام 1932 والثانية عام 1947. إنه يأخذنا إلى «الصندوق الأسود» لحطام الحزب علّنا نجد فيه أسباب سقوطه وتحطمه. إنه يكلمنا عن «الحامل» الذي «يختطف النهضة والعقيدة». إنه يمر على ماركس والأحزاب الشيوعية، ويسوع والكنائس المسيحية ليخلص إلى نتيجة قاسية: «المؤسسات وأنظمتها أقوى من العقائد ونصوصها» (ص. 51).
وماذا عن العلّة؟ العلّة هي أن سعاده أسس حزباً غير اعتيادي، تحوّل، إلى حزب اعتيادي، مرتين. الأولى أثناء غيابه القسري، والثانية منذ استشهاده، وحتى الآن.
لعل الفصل الرابع من الكتاب وعنوانه «العلة البنيوية» هو أهم فصول الكتاب ويجب قراءته بتمعن كبير. هنا يشرح سلّوم إشكالية كون عقيدة الحزب وغايته ومؤسساته «لا تقارب أنظمة الأحزاب السياسية». وكيف أنه، استناداً إلى وصف سعاده نفسه، هو «حزب غير اعتيادي». وكيف أن الجملة النافية هنا (لا اعتيادي) تأخذ محتواها من جمل تعريفية واضحة مثل «فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها» أو «قضية الحزب هي قضية الآفاق للمجتمع الإنساني» وهو «فوق الدمج المنهجي، مرادف للعقيدة والنهضة والحركة» (ص. 44).
إنه جلسة استجواب لسعاده، ليس فقط في مرحلة «أزمة الحزب البنيوية» التي يؤرخ لها سلّوم ابتداء من الثامن من تمّوز، 1949، تاريخ اغتياله، بل يُسائله في مرحلة أخطر بكثير شهدت تكوّن «علة الحزب البنيوية»، أي إبّان وجوده في قيادته


لا ليس سهلاً نص نزار سلّوم إذ يفكك «علّة الحزب البنيوية»، ولكن العلّة بحد ذاتها معقدة وتتطلب تأنياً في المقاربة، والمتابعة، والقراءة، والفهم. أكثر من هذا، إنّ هذا الفهم يردّنا إلى السؤال المفصلي الذي بدأنا به هذا المقال، «هل أنت في حزب غير اعتيادي أم في حزب اعتيادي؟ / هل أنت شخص غير اعتيادي أم شخص اعتيادي؟» والسؤال مشروع لأنه إذا توخى سعاده تأسيس حزب غير اعتيادي، فهذا يتطلب أشخاصاً غير اعتياديين. ولإيجاد الجواب، يقدّم لنا سلّوم معياراً هو مرحلة التأسيس الأول، 1938-1932، ومن ثم مرحلة التأسيس الثاني، 1949-1947، أي استعادة الحزب من «الواقع اللبناني» بعد أن تحول بفعل طغيان «المؤسسات» إلى حزب سياسي لبناني اعتيادي.
ولكن هذا المنحى من البحث يقودنا إلى سؤال أدهى من خارج نص سلّوم؟ إذا كان الحزب غير الاعتيادي يقوم على أشخاص غير اعتياديين، فمن أين نأتي بهم في ظل واقع ما دون الاعتيادي؟ سلّوم يجيب على نصف السؤال، حيث للمؤسس الذي «ينشق» عن الواقع صفات تؤهله لاجتذاب الإمكانات وقيادتها، ولهذا يحتاج إلى صلاحيات «تحميه من فساد المجموع». لنفترض إذاً أن هذا حصل، هل يمكن لمن انتمى إلى الحزب، وأصبح شخصاً غير عادي أن يعود إلى «عاديته»؟ والجواب نعم. طبعاً، وهذا يقودنا إلى مراحل «إدارة التغيير»، التي تبدأ من الوعي، فالرغبة، والمعرفة، والقدرة، ومن ثم التدعيم. والتدعيم هو من أخطر مراحل عملية التغيير، إذ إن الإنسان بطبيعته يميل إلى العودة إلى ما هو معتاد عليه. من هنا تأخذ عملية تدعيم التغيير كي لا تنزلق المؤسسة، أو الأفراد، أو المجتمع، إلى الحالة السابقة.
إنّ سفر سعاده عام 1938، ومنعه من العودة لمدة تسع سنوات، كانت كافية لكي يعود الكثير من قيادات الحزب غير الاعتيادي إلى منطلقاتهم ما دون الاعتيادية التي انتهت بالحزب إلى الواقع اللبناني. وبعد استشهاد سعاده، نسفت القيادات اللاحقة كل الأسس التي وضعها إبّان تأسيسه الثاني عام 1947، وعادت به ليكون حزباً سياسياً اعتيادياً.
كل هذا يأخذنا إلى سؤال آخر يعالجه سلّوم بالتلميح، أمّا نحن فسنشير إليه بالتصريح. سلوم يلمح إلى «فساد الشعب» الذي وصفه سعاده في مقالته عن سلطة الزعامة، ولكن يمكن أن يستشف من ذلك أن فساد الشعب قد أصاب القوميين بالفساد حين قبلوا أن يتحول حزبهم إلى حزب سياسي عادي.
يقول سعاده عن الواقع اللبناني: «والظاهر أنّ الحزب قَبِلَ انتشار ‹الواقع اللبناني› بحكم النظام فقط، لأنني وجدت أنّ مجموع القوميين الاجتماعيين لم يتقيدوا بفكر واحد من هذه الأفكار». ما مدى صحة هذه العبارة، وما هي قيمتها العملية؟ هل من فارق بين «القبول» بانتشار الواقع اللبناني و«التقيد» بفكرته. لقد قَبل معظم القوميين، أمّا الذين رفضوا، فهُمشوا أو طُردوا. والقبول كان حياء، أو قلة دراية، أو كسلاً، أو تكسباً، أو ممالأة. ولم يكن ممكناً فك قيد «القبول» إلا بعودة سعاده، وتطهيره الحزب. أمّا لو لم يعد، لكان القبول قد تحوّل تقيداً أكيداً.
هذا كلام خطير، هل من دليل؟ طبعاً. لننظر إلى واقع التشكيلات الحزبية اليوم. أليست كلها أحزاباً سياسية اعتيادية يضربها الفساد والمحسوبية والصنمية من أعلاها إلى أسفلها؟ بلى. ألم تصبح جزءاً من الواقع الفاسد الذي جاء الحزب السوري القومي الاجتماعي – غير الاعتيادي – ليغيره؟ بلى. ألم تتحالف في الماضي، وفي جميع المراحل وصولاً إلى اليوم، مع قوى مضادة لمبادئها ومتوافقة مع ما جاءت تحاربه؟ بلى. ألا يوجد فيها رفقاء ورفيقات مخلصون ومخلصات. بلى. هل لا يعرفون كل ما سبق؟ صمت.
ولكن أليس هناك من معارضة لهذا الواقع؟ بلى. هناك معارضات. ولكن معظمها لا يخرج عن إطار الحزب السياسي الاعتيادي. معظمها كان يضع يده على المحراث وينظر في جميع الاتجاهات ما عدا إلى الأمام. معظمها كان يبحث عن مقعد في جنة سلطة التشكيلات، ومعظمها مارس ممارسة التشكيلات الفاسدة نفسها. هذه حقائق محزنة.
هل من مخرج من كل هذا؟ لنعد إلى نزار وكتابه الرائع الذي نريد للقارئ أن يكتشف ويدرس مضمونه المهم. نذهب إلى الصفحة الأخيرة من الفصل ما قبل الأخير، وعنوانه «البحث عن زيوسودرا». في تلك الصفحة، 144، نقرأ: «إن هذه العقيدة لا يستقيم ثقلها مع حامل بمرتبة حزب سياسي، وهي تحتاج اليوم إلى حامل قادر على وضع مشروعها، الذي وحده سينقذ سورية التي نعنيها، من الضياع النهائي وربما من الفناء»!
[يطلب الكتاب من مكتبة الفرات في بيروت ومكتب عائدة سلامة في دمشق]

* كاتب ومترجم، رئيس تحرير مجلة «الفينيق» الإلكترونية