يذكر كتّاب سعوديون أن «اتفاق العيبان - شمخاني» تمّ «بناءً على رغبة مشتركة برعاية الصين من أجل عودة العلاقات بين السعودية وإيران إلى وضعها الطبيعي». ولكي «ينهي البلدان سنوات من القطيعة أثّرت على أمن الإقليم واستقراره». ومع قرار الرياض وطهران «استئناف العلاقات بينهما في سياق تحقيق أمن المنطقة ككل واستقرارها وازدهارها»، تضاعفت الآمال بإمكانية تعاون العرب والإيرانيين، وربما الأتراك، في صنع مستقبل هذه «المنطقة» التي تحتضن أوطانهم. لقد برز «الاتفاق» كانعطاف حاد عن طريق سياسي - عسكري مزمن، انغمست السعودية في أهواله طوال عقد كامل، مثلما انغمست فيه دول «الإقليمية الجديدة»، قبل أن تبادر إلى شق طريق آخر، فيه رؤى واعدة، بنقل «المنطقة» إلى مرحلة جديدة.تمنح الصحف السعودية «تيار نقد السياسة الأميركية» مساحات واسعة من صفحاتها. وينتشر، تحت هذه التسمية الاصطلاحية، نوع من النص السياسي الصحافي، يتميز بالرفض أو الاعتراض، النسبي، على «الإملاءات» الأميركية. يكتب هذا النص صحافيون وباحثون وكتّاب ومثقفون وموظفون، أو يحرّرونه أو يترجمونه، بدافع المصالح الوطنية السعودية، إلى جانب بعض الدوافع القومية.
مع بروز هذا «التيار»، اختفت البيانات الغريبة التي كانت توثق بالكلمة والصورة نجاح الشرطة الدينية في فكّ السحر الذي يُلقى على العائلات الآمنة في مساكنها! وفي الوقت ذاته، يا للعجب، تراجع نفث الحبر السام من المسترزقين أمثال هديل عويس وإميل أمين وغيرهما، الذين كانوا قد زيّنوا «الصداقة الأميركية - السعودية» بدونيةٍ ظاهرة، وحضّوا الرياض على الثقة بواشنطن والضرب بسيفها.
ويمكن لقارئ الصحف السعودية أن يستجمع بعض سمات هذا النص الرفضي أو الاعتراضي خلال المتابعة اليومية، لكي يستجلي ملامح هذا «التيار»، باعتباره ذراعاً لنظام الحكم ومركز السلطة الناشئ في المملكة العربية السعودية. فالنص الذي يصدر عنه يتّكئ على الموقف الرسمي المعلن في السجال الديبلوماسي بين الرياض وواشنطن، إذ تطالب العربية السعودية أميركا بأن تفصل الاقتصاد عن السياسة، لكي نكون «نحن جميعاً قادروي على إقامة شراكات والتزامات متعددة» في الإقليم والعالم.
إنّ غاية الرفض والاعتراض في هذا النص ليست قطع العلاقة السعودية - الأميركية، بالتأكيد، بل رهنها بشروط، وخصوصاً شرط تكييف سياسة واشنطن مع الديناميات السعودية الداخلية. فمن أجل أن تحصل أميركا على شريك مهم [أي السعودية] عليها أن تفهم ما الذي يحفّز محمد بن سلمان، وأن أهم الحوافز هو خلق «نهضة سعودية جديدة». وكما نلحظ فإن النص موجّه إلى الأميركيين رأساً، بجرأة وحزم.
في التقييم الصحافي لزيارة أنطوني بلينكن وزير الخارجية الأميركية للسعودية الأسبوع الماضي، علت نبرة زجرية بلغت حدَّ التوبيخ والاستهانة. هذا ما نستشفه من نصوص أسامة يماني: «هل هي عودة الوعي للسياسة الأميركية»، وطارق الحميد عن «الرياض وواشنطن... ولغة المصالح»، وعبده خال الذي كتب حول الزيارة «هذه هي رسائل القوة». ونلمح من تحليل مضمون هذا التقييم، ارتباط «تيار نقد السياسة الأميركية» بتغير المنظور السعودي إلى نظام العلاقات الدولية - الإقليمية الراهن. في سرديته، مثلاً، عن «تاريخ» الرئيس الأميركي جو بايدن، تبرز طبيعته النقدية، بحيث نجد أن مبتدأ «تاريخ بايدن، خطبه ودَّ المعارضين لانتخابه رئيساً، بتنصيب المملكة العربية السعودية عدواً، ووعده لهم بجعل المملكة دولة منبوذة». وأن بايدن «أمعن في عدائيته للأمير بن سلمان بعدما أدرك أنه سيكون شوكة في حلق كل من يريد استغلال بلاده».
هذه السردية التي تتكرر في مواقف مختلفة، تنسجم مع منظور السياسة الخارجية الجديد، الذي أعادت السعودية بناءه على ركائز براغماتية تفتح لها آفاقاً استراتيجية أرحب، من المنظور القديم الذي كان يحرك ديبلوماسية المملكة، وفق هوى البيت الأبيض. لذلك، يمكن القول إن أيام الثقة السعودية العمياء بالحكومة الأميركية ولّت.
فالرياض أصرّت على حجب صك الغفران عن واشنطن، على ما اتخذت من «مواقف وصلت إلى حد التهور تجاه المملكة العربية السعودية خلال إدارة الرئيس بايدن»، رغم أن «الزيارة المهمة للوزير بلينكن للمملكة انتهت ببيانات مشتركة إيجابية حيال العلاقات الثنائية والملفات الإقليمية الدولية»، و«الشراكات السعودية مع دول أخرى».
من هذا المنظور، تستشعر السعودية مصالحها في ظروف النظام الدولي الانتقالي، ولذا تندد صحافتها جهاراً بـ«مواقف [الحكومة الأميركية الـ]بعيدة عن الحصافة السياسية والقراءة الواقعية للمتغيرات التي حدثت في العالم، [ومن] أهمها بروز قوى منافسة لأميركا اقتصادياً وسياسياً، فرضت وجودها واستثمرت تراجع الحضور الأميركي في المنطقة [العربية]».
يطال الارتياب السعودي بالإدارة الأميركية «زيارات المسؤولين الأميركيين للرياض، على مدى الأشهر الثمانية الأخيرة، التي ما كان من عنوان سوى تغليب لغة المصالح وليس الإملاءات». وذلك، لأن القيادة السعودية «أظهرت للإدارة الأميركية [...] بشكل لا لبس فيه، أنها دولة لها مصالحها، وعلى من يريد التعامل معها أن يتحدث بلغة المصالح، وليس التعليمات، وقد أبلغتهم أنها لا تسير وفق الضغوط، ولا تهمّها المباركة الأميركية».
وتبدو السعودية مصممة على الاستفادة من الديناميكيات الجديدة في النظام الدولي - الإقليمي، خدمة «لمصلحة السعوديين ومستقبلهم». وهذه الغاية الوطنية، تتنافر، موضوعياً، مع السياسة الأميركية، في ما يتصل بالاستراتيجيات الجيو - طاقية (أوبك +) والجيوبوليتكية (أوكرانيا وفلسطين) والجيواقتصادية - مالية (عملات التبادل) والجيو - نووية (النووي السعودي و«الإسرائيلي»).
لن يحل هذا التنافر بـ«تمني [السعوديين] اعتراف أميركا بحقيقة أنها جزء من العالم وليس كل العالم، وليست وصيةً عليه»، طالما أن القوة الأميركية تحمل «عوامل الهدم» ذاتها، ولأن السعوديين يعرفون «ما الذي ترغب فيه واشنطن».
تلك الرغبات، أي الأهداف الجيوستراتيجية لنظام الحكم الإمبريالي الأميركي، مكشوفة كلياً أو تكاد، في مدارك ممثلي «تيار نقد السياسة الأميركية». يقولون إن الأهداف التنفيذية لواشنطن هي «أولاً، إعادة التموضع في المنطقة والتراجع عن الخروج السريع منها، كما كان مقرراً قبلاً. ثانياً، إعادة إسرائيل من بوابة المصالحة العربية التي تهدف إلى ضمان أمن إسرائيل على حساب أمن المنطقة. ثالثاً، محاصرة الصين والتضييق عليها في المنطقة. رابعاً، تأمين هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي من خلال ارتباط البترول والسعودية به. خامساً، إعادة إدارة صراعات المنطقة من خلال كسب السعودية حليفاً موثوقاً به».
أدرك السعوديون أن تمكّن الولايات المتحدة من الوصول إلى هذه الأهداف سيدمر كل مقوّمات التنمية وأسباب الرخاء وروافع المستقبل في السعودية وفي الدول العربية ودول الجوار الإقليمي.
من شأن أجندة الخراب الوطني - الإقليمي التي أعدّها الأميركيون أن تحضّ قوى «الإقليمية الجديدة» على تشبيك دعامات التفاعل وخطوط التلاقي. وحسبنا أن نسمع من السعوديين «أن ما ترغب واشنطن [في] تحقيقه، باختصار، [هو] دوام هيمنتها وسيطرتها واستمرار عملتها غير مرتبطة بالذهب أو غيره، ما يساعدها على شراء العالم مقابل أوراق مطبوعة»، حتى ندرك ماهية الاستبداد الأميركي أو جوهره، الجوهر الطفيلي، الذي يعني نهب الإنتاج العالمي والاستحواذ عليه مجاناً. ولذلك، فإن النص السياسي الذي ينتجه هذا «تيار نقد السياسة الأميركية» في الصحافة السعودية يعزز التقارب الإقليمي.
بوسعنا أن ندرج هذا «التيار» في إطار ما نفترض أنه «حزب نقد الأوضاع العامة» في المملكة. يمكن تخيّل هذا «الحزب» من المتابعة اليومية للصحف السعودية. لكن لا يشطح بنا الخيال. فإن مركز «الحزب» هذا يوشك أن يتماهى مع نظام الحكم ذاته ومركز السلطة فيه، الذي يطمح إلى تغيير أوضاع السعودية «من فوق»، على غرار تجارب بعض الدول. وهذه الغاية السامية، أي التغيير، هي التي تعيّن الطبيعة السياسية للصحافة في المملكة العربية السعودية، والمهمة التعبوية لها بين الجمهور، بحيث يصير «تيار نقد السياسة الأميركية»، تعبيراً غير مباشرٍ عن اتجاهات الحكم والسلطة هناك.

* مدير موقع الحقول