الصراع على الجبهة الأيديولوجية - الإعلامية بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وبعض الملتحقين بهم من غير الغربيين، كاليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين وتايوان مثلاً، من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، لا يقل احتداماً عن ذلك الدائر على جميع الجبهات الأخرى، العسكرية في أوكرانيا، وكذلك السياسية والاقتصادية والمالية على صعيد دولي. غاية جميع أفرقاء هذا الصراع على الجبهة الأيديولوجية - الإعلامية هي تعريف طبيعته، كل من منظوره، وتحديد الطرف المسؤول عن اندلاعه، وتداعيات مآلاته على العالم.الأطروحة المركزية للسردية الغربية الرسمية معروفة: انتصار روسيا في الحرب العالمية التي تشن عليها في أوكرانيا، و/أو الصين في «منافستها الاستراتيجية» مع الولايات المتحدة، سيفضيان إلى تفكك، ومن ثم انهيار «النظام الدولي الليبرالي» واجتياح «الشمولية» لأرجاء المعمورة.
أمّا روسيا والصين، فهما تصرّان على أن المنطق الدفاعي هو الذي يحكم سياساتهما الهادفة إلى التصدي لاستراتيجية الاحتواء والخنق المعتمدة تجاههم من قبل القوى الغربية ومن سار في ركبها.
أظهرت مواقف غالبية بلدان «الجنوب العالمي»، ومنها البلدان العربية، شعوباً وأنظمة، حيال الأحداث الجارية، تفهّماً، في الحد الأدنى، للحجج الروسية والصينية، ورفضاً للإملاءات الغربية الخاصة بفرض عقوبات على موسكو والحد من تنامي التعاون في شتى المجالات مع بكين. غير أن بعض قطاعات النخب السياسية، في منطقتنا تحديداً، وخاصة تلك التي ترى في «التغيير الديموقراطي الداخلي» أولويّةً على ما عداها من قضايا، سارت «عكس التيار» عبر تبنّي السرديّة الغربية عن «الخطر الشمولي»، الأشدّ هولاً من الإمبريالية الغربية من منظورها، أو عبر المساواة بين المتنازعين واعتبار أننا أمام «صراع إمبرياليات» لن تجني منه شعوبنا أية إفادة.
وفي الحقيقة، فإنّ النقاش حول هذا الصراع، والمرامي الفعلية لأطرافه، ليس ترفاً فكرياً بالنسبة إلى شعوب الإقليم وقواه الوطنية. فقرار روسيا والصين بمجابهة المساعي الأميركية لإحكام الطوق عليهما، وما سيترتب عليه من مفاعيل واسعة النطاق وطويلة الأمد، بدأنا نلحظها في منطقتنا ومناطق أخرى من جنوب الكوكب، هي فرصة تاريخية لن تفوّت. لم تنس شعوب هذه المناطق ما عنته «اللحظة الأحادية» الأميركية، التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، من حروب وويلات واستباحة وخراب عميم بالنسبة إليها وإلى بلدانها، وتدرك أن نهايتها وضمور هيمنة واشنطن سيفتحان آفاقاً مستقبلية رحبة أمامها.
لفهم طبيعة الصراع الدولي المستعر راهناً والسياق العام الذي يندرج في إطاره، لا بد من العودة إلى الوقائع العنيدة، قبل الفرضيات النظرية حول إمكانية تحوّل الصين وروسيا في المستقبل إلى قوى دولية عاتية في مكان الولايات المتحدة. الوقائع تشير منذ عقود طويلة إلى أن واشنطن، عبر انتشارها العسكري في جوار روسيا والصين، تجهد لفرض طوق عسكري حولهما.
بالنسبة إلى روسيا، فإن عديد القوات الأميركية المنتشرة في جوارها الغربي، أي في أوروبا، يصل اليوم إلى حوالي الـ 100 ألف، يوجدون مثلاً في بلدان كألمانيا (38500)، وبولندا (10500)، وإيطاليا (11500)، وفقاً لتقرير «تاريخ الانتشار العسكري الأميركي في أوروبا»، الصادر عن القيادة العسكرية الأميركية في القارة العجوز. أمّا العدد الإجمالي لقوات «الناتو»، فهو 3,366,000 جندي. تحتفظ الولايات المتحدة بـ 100 قنبلة نووية تكتيكية في أوروبا، وجوارها المباشر، موزعين على 6 قواعد عسكرية في البلدان الـ 5 التالية: ألمانيا، بلجيكا، إيطاليا، هولندا وتركيا، وتمتلك فرنسا وبريطانيا، العضوان في «الناتو»، ترسانتيهما النووية الخاصة. وأتى نشر منظومات الدرع المضاد للصواريخ الأميركية في أوروبا ليعزز اقتناع روسيا بأن واشنطن تسعى إلى إعادة النظر بمعادلة الردع النووي المتبادل معها من خلال حرمانها من القدرة على توجيه ضربة نووية صاروخية ثانية في حال تعرضها لضربة نووية أولى. أي تحليل جدي لخلفيات موقف روسيا من عملية التوسيع المستمرة لـ«الناتو» شرقاً، وصولاً إلى حدودها، وقرارها بالتصدي المباشر لها عبر منع أوكرانيا من التحوّل فعلياً إلى عضو في الحلف، ينبغي أن يستحضر السياق العام التاريخي والحالي، الذي انفجر فيه هذا النزاع. ليست روسيا من ينشر عشرات آلاف الجنود وأسلحة نووية وبطاريات مضادة للصواريخ في جوار الولايات المتحدة، بل الأخيرة هي من تقوم بذلك.
استراتيجية مشابهة اتبعت حيال الصين منذ 1951 مع إنشاء الولايات المتحدة لما سمّي «سلسلة الجزر الأولى»، أي مجموعة القواعد العسكرية الممتدة من كوريا الجنوبية واليابان، مروراً بتايوان والفيليبين، وصولاً إلى جزيرة بورنيو. «سلسلة الجزر الثانية» تمتد من جزيرة بونان اليابانية، مروراً بجزيرة ماريانا التي تضم قاعدة غوام، وبجزيرة كارولاينا، وصولاً إلى القواعد الأميركية في أوستراليا. أمّا «سلسلة الجزر الثالثة»، فهي قوس ممتد من جزر ألوثيان في مقابل ألاسكا شمالاً، وصولاً إلى هاواي، مروراً بفيجي ونيوزيلندا. ويخضع 375 ألف جندي وموظف مدني أميركي للقيادة العسكرية للمحيطين الهادئ والهندي، وقد أقامت الولايات المتحدة تحالفاً عسكرياً، «أوكوس»، يضمّها إلى أوستراليا وبريطانيا، وتسعى إلى إقناع دول آسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين بالانخراط معها في مشروع «ناتو آسيوي». وقد أعلنت واشنطن رسمياً منذ أواخر 2012، بلسان رئيسها آنذاك باراك أوباما، أن احتواء الصعود الصيني بات أولوية استراتيجية، وكررت جميع الإدارات المتعاقبة مثل هذا الإعلان. أيّ محاولة لفهم سياسات بكين لن تجدي نفعاً إن تجاهلت هذه الوقائع الجيواستراتيجية.
الولايات المتحدة إمبراطورية عسكرية أولاً، استندت «ريادتها» إلى قدراتها على شن الحروب وتطبيق سياسات الحصار والخنق والتجويع والاجتياح والاحتلال. الجديد في الوضع الدولي الراهن هو شروع قوى دولية وازنة للتصادم مع هذه السياسات والحؤول دون تحقيقها لأهدافها. من البديهي أن جميع الشعوب والأمم التي عانت منها ستستفيد في الحد الأدنى من انشغال واشنطن في مثل هذه المواجهات المكلفة والمضنية، وربما تستطيع التقاطع وحتى التعاون مع «منافسيها الدوليين» لتحقيق مكاسب جدية سياسية واقتصادية وعسكرية وتكنولوجية، تعزّز من استقلاليتها وقدراتها الإجمالية.