المقصود من العنوان ما يجري الآن من حرب في أوكرانيا بين أميركا وحلف «الناتو»، من جهة، وروسيا مدعومة من الصين، من جهة ثانية، كما ما يجري من حربٍ، بلا نيران، بين أميركا وحلفائها في الشرق الأقصى من ناحية، والصين من ناحية أخرى، ومركزها المواجهة حول جزيرة تايوان وبحر الصين. إنّ هذه الحرب، كما تعبّر روسيا والصين عن أهدافهما، ترمي إلى تغيير النظام العالمي السائد الذي فرضته الإمبريالية الغربية على العالم، ولا سيما أميركا، بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الخصوص بعد أن فرضت أن يحلّ الدولار مكان الذهب في احتساب العملات العالمية، وفي المبادلات التجارية، أي خلال الخمسين سنة الماضية.
(روب دوبي)

تغيير النظام العالمي العسكري-الاقتصادي-السياسي الذي يُراد أن يكون هدفاً، كما تعبّر عن ذلك البيانات المشتركة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يهدف إلى إقامة نظام دولي متعدّد القطبية (عكس أحاديّ القطبية القائم). ويقوم على مبادئ القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة. أمّا كيف ستتشكّل ملامحه، وكيف ستكون أدوار مختلف الأقطاب الدولية والإقليمية فيه، فهذا ما سيتقرّر بعد انهيار النظام القديم. ثم العمل، بالتفاهم والتدافع الدوليين، في الإجابة عن السؤالين أعلاه.
طبعاً ميزان القوى في مختلف المجالات، سيكون الحكم الفيصل في تحديد الأدوار. وهنا تصبح الصين في المقدمة عندما يترسّخ انتقالها، لتكون الدولة رقم واحد، بالنسبة إلى قدرتها الاقتصادية والتقنية. ولكنها لن تستطيع أن تأخذ الموقع الشبيه بموقع أميركا، والغرب عموماً، في النظام العالمي القائم، من حيث التحكّم العسكري والمالي والسياسي، في العالم وعلى دول العالم. لأن هذا الموقع لم تصله أميركا والغرب، إلا بعد سلسلة من الحروب العالمية والإقليمية، ولنقل منذ الحرب العالمية الأولى، في الأقل مع بدايات القرن العشرين. أمّا من جهة أخرى، فإنّ طبيعة النظام الرأسمالي الاستعماري-الإمبريالي الذي نشأ في الغرب، ليعكس سيطرته العسكرية على العالم، ونهبه (بكل ما تحمل الكلمة من معنى) للثروات العالمية، والتي ابتدأت بعد الاكتشافات البحرية في تسعينيات القرن الخامس عشر، والتي أدّت لخروج أوروبا من سجنها الذي فُرض عليها مع قيام الدولة الإسلامية في القرن الثامن، وأغلق عليها العالم لتبقى بين جدار الدولة العربية-الإسلامية جنوباً وشرقاً (من طنجة إلى الأناضول، الدولة البيزنطية ثم العثمانية)، أمّا شمالاً فعالم الثلوج والقطب الشمالي، وأمّا غرباً فعالم المحيط الأطلسي الذي سمّوه قبل تلك الفتوحات بـ«بحر الظلمات».
هذا يعني أنّ النظام العالمي الذي مثّلته أميركا والغرب، وكيفية تحكّمه في العالم، حمل السمات الأوروبية-الأميركية، والتي مثّلتها الرأسمالية الاستعمارية-الإمبريالية النهبية العالمية. الأمر الذي يقطع بأن هذه السمات ذات خصوصية، تشكّلت وتكونت في ظروف تاريخية لن تشبهها أيّ خصوصية لدولة كبرى أخرى، بمعنى المطابقة أو شبه المطابقة.
كل المشهديات/ السيناريوهات القادمة، على اختلافها وتنوعها، بما فيها حالة فوضى عالمية جديدة، لن يكون أيّ منها أسوأ مما عرفه العالم


هذا يعني أن ما سيأتي من نظام عالمي بعد النظام العالمي الراهن، لن يكون صورة مكرّرة للعالم السابق. هذا إذا قُدّر له إقامة نظام عالمي جديد ومستقر لعقود، كما حدث مع النظام السابق. أي ثمة أكثر من مشهدية (بمعنى سيناريو)، تنتظر العالم القادم. ولكن كل المشهديات/ السيناريوهات القادمة، على اختلافها وتنوعها، بما فيها حالة فوضى عالمية جديدة، لن يكون أيّ منها أسوأ مما عرفه العالم من النظام العالمي الذي فرضته أوروبا، ثم أوروبا-أميركا (الولايات المتحدة)، على العالم؛ ابتداءً من مذابح الهنود الحمر، مروراً بما عرفته آسيا وأفريقيا طوال قرون من تحكم استعماري، وألوان حروب واستعباد ونهب وهيمنة.
لا أحد يستطيع أن يدافع عن، أو يسوّغ، هذا التاريخ منذ القرن السادس عشر إلى اليوم، أو يستطيع أن يتصوّر تاريخاً قادماً، سيكون مثله، أو أسوأ منه، بالنسبة إلى العالم. وذلك بالنسبة إلى أفريقيا (العبودية) أو البلاد العربية (التجزئة والكيان الصهيوني ونهب الثروات والحروب).
لذلك لا يستطيع، ولا يحق، لفلسطيني، أو عربي، أو مسلم، أو آسيوي، أو من أميركا اللاتينية، أن يقف ضد تغيير النظام العالمي القائم الذي تمثّله أميركا والغرب. فهو نظام ظالم. وأيّ بديل لن يكون بسوئه، مثلاً لن يجيء نظام عالمي يفرض على الجميع عملة واحدة، لدولة كبرى واحدة، وبهذا يمتلك عملياً ثروات العالم، حيث تحصر المبادلات بعملتها (بأوراق عملتها)، كما يفعل الدولار في العالم؛ الأمر الذي يعني أن كل منتج يذهب إلى التجارة العالمية، يجب أن يُغطى بالدولار الذي تطبعه أميركا، بلا حساب، وحصر، بل قل بقدر ما تستطيع من طباعته ورقاً.
طبعاً، هنالك كثر في العالم، وفي بلادنا، يظنون، بوعي أو دون وعي، أن ما يجري هو حرب بين أوكرانيا وروسيا، وليست حرباً عالمية بين روسيا وأميركا (الناتو)، وكان المسبب لها تسليح أميركا و«الناتو» لأوكرانيا، ما هدّد الأمن القومي الروسي، فاضطرت روسيا على شنّ الحرب. ولا يلحظون أن الحرب (بلا نيران) الدائرة بين أميركا والصين حول تايوان الصينية (حتى باعتراف أميركا)، هي لمنع الصين من الحلول مكانها، كدولة كبرى اقتصادياً وعالمياً وتقنياً.
فهاتان المعادلتان أدخلتا العالم الآن في حرب عالمية، ستكون نتيجتها، إمّا استمرار سيطرة أميركا على النظام العالمي الراهن، وما يعنيه من نهب لثروات العالم، وويلات لا تُعدّ، وإمّا تغييره إلى نظام عالمي متعدّد القطبية الدولية والإقليمية، وعلى أمل أن تلتزم دول العالم بالقانون الدولي، وميثاق هيئة الأمم المتحدة، ما يعني الالتزام بتوافق عالمي جديد تشارك فيه كل دول العالم. ومن ثم في كل الأحوال، لن يكون أسوأ من الحالي المجرّب، والذي نعرفه جيداً.
وهنا لا معنى للحكم المسبق المبني على فرضيات غير مطبّقة، باعتبار ما سيأتي من نظام عالمي سيكرّر ما فعلته أميركا والغرب (تحت حجة حرب إمبرياليات): وذلك من دون الأخذ في الاعتبار، أن الخصوصية الأميركية والأوروبية، بنظامها الرأسمالي الاستعماري الإمبريالي (الذي تصهين الآن) هي خصوصية لا تُكرَّر، ولا تُقلَّد، لا طبيعةً ولا تكوّناً وتاريخاً وعالماً (القرن السادس عشر إلى اليوم). فنحن أمام عالم آخر، وتاريخ آخر.
بل حتى لو افترضنا أن هنالك دولاً ستحاول فعل ما فعلته، وتفعله الولايات المتحدة، إلاّ أنها لن تجد أمامها عالماً كالذي واجهته أوروبا وأميركا في تاريخهما. فدول العالم وشعوبه اليوم غير دول عالم الماضي وشعوبه. أمّا من الناحية العلمية والمنهجية الصحيحة فلا يمكن مساواة ما هو فرضية، أو مخاوف، وما هو مجرّب، ويجب التخلص منه.
وخلاصة، تبقى الدنيا تدافعاً، ولا يُكرّس عدل إلا مغالبة وجهاداً وكفاحاً. وبالتأكيد لكل حادث حديث، بعد تحرير العالم من ظالمه اليوم.

* كاتب وسياسي فلسطيني