طوى أنيس النقاش في حياته مراحلَ من حياة الأمّة. لم يدع الانتكاسات والهزائم والسقطات تثبط عزيمته. الرجل لم يكن عادياً. كان، مثل قلّة في لبنان في مرحلة ما قبل الحرب، قد نذرَ حياته لهدف تحرير فلسطين. بات هذا الهدف مدعاة للسخرية في ثقافة رفيق الحريري التي سخرت من المبادئ والقيم السامية. هو من الذين قرّروا أنّ هدف حياته يكمن في تحرير فلسطين. هذا زمن بات بعيداً عنا. نحن في زمن يطلع فيه مارك ضو بخريطة طريق لطمأنة إسرائيل (نائب تغييري يساري وديموقراطي معاً) مُعلناً أن المقاومة المسلّحة ضد إسرائيل انتهت لغير رجعة. لماذا؟ لأن النظام الاستبدادي الإماراتي، الذي يسترشد به، قرّرَ أن يتحالف مع إسرائيل. وبناءً على ذلك، يطلب ضو من الشعب الفلسطيني واللبناني والسوري (هؤلاء الذين يرزحون تحت احتلال إسرائيل ويعانون من عدوان مستمر عليهم منه) ترك السلاح جانباً والتمثّل بـ...تطبيع الإمارات مع إسرائيل. تغيّر الأزمان هو الانتقال بين الأضداد: من أنيس النقاش إلى مارك ضو، مثلاً.

التقيتُ بأنيس النقّاش للمرّة الأولى قبل أكثر من خمس عشرة سنة. كان ذلك في «سيتي كافي». وصلتُ إلى المقهى ولم أجده. اتصلتُ به فأجابني: أنا هنا. فتشتُ عنه لأجده في زاوية لا تراها وأنت تدخل المقهى فيما هو يقدر على مراقبة الداخلين إليه. تشعر مع أنيس النقاش أنّك مع رجل «ضد المرحلة»، على قول درويش. (سمير القنطار كان يكتب على دفتره المدرسي: «الشهيد سمير القنطار»، وعندما تلتقي به بعد الإفراج عنه تتيقّن أنه لم يستكن في كل فترة السجن الطويل، لا بل هو ازداد إصراراً على المضي في سعيه لتحرير فلسطين). أثار غياب النقاش الكثير من الحزن والتأسّف والعزاء على المواقع لأن «المرحلة» كانت تحتاج إليه. كان من القلّة التي لم ترَ تناقضاً بين مقاومة إسرائيل في لبنان وتحرير لبنان من الفساد والطبقيّة والقهر الطبقي. كان غاضباً في أيّامه الأخيرة.
كان النقاش قد سجّل حوارات عن ذكرياته من قبل، لكنّ هذا الكتاب بعنوان «مذكرات أنيس النقاش: أطفال وأقدار» هو بقلمه هو. وأنيس ليس كاتباً أو قصصيّاً لكنّ تجربته الغنية وتفاصيلها المذكورة تكفي كي تنسى أن السرديّة قد لا تكون أدبيّة أو مشوّقة. كما أن أنيس، لكثرة ما خاض من مغامرات، لم يكن مقدّراً للحظات الدرامية الكثيرة التي عاشها. والكتاب يجب أن يكون مقروءاً من المؤرّخين (للحرب الأهليّة ولتجربة منظمة التحرير) ومن قبل كل من يُعنى بشأن المقاومة. تقرأ الكتاب وتلاحظ الفارق بين المقاومة اللبنانيّة الحاليّة والمقاومة الفلسطينيّة. وافقني مؤرّخ فلسطيني معروف في حديث قبل أشهر عن أن تجربة المقاومة الفلسطينيّة لا تُقارن بالتجربة الفذّة للمقاومة اللبنانيّة الحاليّة (لا نتحدّث هنا عن تجربة مقاومة إلياس عطالله والتي انتهت عندما ضرب غازي كنعان يده على الطاولة، كما هو اعترف في حديث مع جريدة مقاومة ما، «نداء الوطن»).
لم يهدأ أنيس النقاش في حياته، منذ طفولته. ثارَ مبكراً جداً وتذكر والدته أنه أصرّ على التبرّع بكنزته لدعم التحرير الجزائري (ص. 31) لأن ضيق الحال لم يسمح لعائلته بالتبرّع أكثر. تقارن ذلك بفتى في عمره اليوم وكل حلمه أن يقتني آخر صرعة من حذاء رياضي. أخبار زمن أنيس النقاش، وصحافة تغطية أخبار زمن أنيس النقاش، كانت مثيرة ومحفّزة ومُحمِّسة. الثورة الجزائريّة حرّكت مشاعر جيل كامل وكانت جميلة بو حيرد أشهر من يسرا أو إليسا في زماننا المقموع. تأثّر بعمّه زكي النقاش، وكان كاتباً عروبيّاً جريئاً. اصطحبه عمّه للقاء وزير التربية في أوائل الستينيّات، شارل حلو، بغرض دفع حملة التعريب في الثقافة والتربية. سأله عمّه بعد اللقاء عن رأيه في الحلو فقال أنيس الصغير: «هذا الوزير هيئته كذّاب، وإذا كان بدّو يعرِّب لماذا كان يتحدّث طوال الوقت معك بالفرنسيّة؟ هو وزير لبناني وبيحكي بالفرنسي؟» (ص 39). اكتشف زكي النقاش لاحقاً أن بصيرة أنيس كانت ثاقبة. طبعاً، لم يفِ الفرنكوفوني الحلو بوعده عن التعريب (زها الحلو في مذكراته أنه تدخّل في نقاشات الأكاديميّة الفرنسيّة كي يُبهر الفرنسيّين بإجادته للفرنسيّة، بحضور شارل ديغول، الذي اصطحبه في زيارة بروتوكوليّة).
ثم وقعت الهزيمة في عام 1967 (كان أنيس في السادسة عشرة) وتحطّم عالم أنيس النقاش (أنا كنت في سنّ السابعة وحطّمت الهزيمة عالمي ولا أزال أعاني من ويلاتها إلى اليوم، حتى إنني في أيام حرب تمّوز الطويلة كنتُ أستيقظُ كل يوم وأعِدُّ نفسي للهزيمة بالرغم من تطمينات عسكريّة من عامر محسن). انطلقت التظاهرات غاضبة بعد تنحّي عبد الناصر. الحقّ أقول لكم: كل من يزعم أن تظاهرات رفض التنحّي، في مصر أو في لبنان، كانت مُدبّرة وغير عفويّة يكذب عليكم. عمرو موسى أو غيره يكذبون، والأخير ضعيف أمام المال السعودي والإماراتي، مثله مثل معظم كتّاب ومثقّفي الزمن العربي الحالي. الناس خرجوا من منازلهم بأثواب النوم في ذلك اليوم. أنا شاهد على ذلك من حي المزرعة. وإن نسيت ولكن لا أنسى هتاف الجماهير، في الليل الداكن: «أبو ناصر، يا حبيب. بدنا نحرّر تل أبيب» (طبعاً لو كانت جوقة 14 آذار موجودة آنذاك لكانت اعترضت لأن مشروع مواجهة إسرائيل هو مشروع لولاية الفقيه ولا يعني غير الإيرانيّين فقط). وكان الناس يصرخون، حسب رواية النقاش: «لا عربَ بعد عبد الناصر». واعترض الفتى أنيس على الهتاف وصاح: «لا، هناك عرب بعد عبد الناصر». يقول أنيس: «فاجأ شعاري الجموع، فركضوا خلفي في محاولة للقبض عليّ، ولم أدرك فداحة فعلتي إلا عندما سمعتهم يقولون بأعلى صوتهم: امسكوه. اقتلوه، مع بعض الشتائم» (ص. 45). عن هؤلاء الجماهير الغاضبة يقول عمرو موسى، كما يقول غيره من أنصار السرديّات الخليجيّة عن التاريخ العربي، إنهم كانوا مُوجّهين من المخابرات المصريّة.
يحضر مهرجاناً شبابياً ويلاحظ أن «الموسيقى التركيّة فيها الكثير من موسيقى الرحابنة والفولكلور اللبناني، ثم بدأتُ بالتساؤل ما إذا كان العكس هو الصحيح» (ص.63). يتحدّث عن الاعتداء على مطار بيروت في عام 1968 ويقول: «تبيّن لاحقاً... أن أجهزة الدولة كانت تتحسّب لمثل هكذا عدوان وكان لديها معلومات تتعلّق بالاعتداء على بعض المرافق اللبنانيّة ومنها المطار، ولكن قيادة الجيش...وخاصة قيادة منطقة بيروت لم تتخذ أي إجراء ولم تكن مستعدّة للردّ على العدوان» (ص. 67) ولم يكن قائد منطقة بيروت إلا إسكندر غانم الذي أتى به سليمان فرنجيّة من التقاعد وعيّنه قائداً للجيش بعد وفاة جان نجيم. ويقول أنيس إن المكتب الثاني بقيادة غابي لحّود حمى غانم من المحاسبة. كان ذلك زمن حصريّة السلاح.
وشارك أنيس في تظاهرة 23 نيسان 1969، ويقول إن رفيقه إبراهيم عمل بنصيحته و«أحضر مجموعته التي ألقت المولوتوف على سيارات الشرطة. وهكذا سجّل العنف الشعبي والثوري نقطة ولو صغيرة بحجم المجزرة» (ص. 72). لم يهدأ أنيس النقاش في تلك الفترة، وفي كل فترة. وعندما التحق بالخدمة المدنيّة (التي كانت بديلاً للخدمة العسكريّة بعد البكالوريا) ساهم في تنظيف شوارع في القبيّات مع زملائه من الكليّة العامليّة. وقدّمت امرأة لهم الشكر منوّهة بدورهم «كطلاب مهذّبين ومرتّبين من مدرسة الفرير المسيحيّة وليس كهؤلاء المسلمين الوسخين الذين يسكنون في قرية وادي خالد القريبة من القبيّات» (ص. 96). ردّ أنيس عليها بالقول: «طانت. اسمحي لي أن أعرفك بالشباب. هذا علي وهذا مصطفى وهذا حسين وهذا محمد وأنا أنيس».
تقرأ هذه المذكرات ويزداد إعجابك بأنيس ولكن خيبتك تزداد كثيراً بوضع المقاومة الفلسطينية في لبنان كم كانت فاشلة، وكم أن قيادات المقاومة لم تكن جدية في خطة تحرير فلسطين أو حتى خطة مقاومة الاحتلال


عملت أخت أنيس في مكتب المعلوماتيّة في وزارة الدفاع وكان يصله معلومات، منها أن داني شمعون كان يقوم باتصالات بجهات إسرائيليّة وأن سميرة توفيق كانت تعمل لصالح المخابرات الأردنيّة وأن أنيس النقاش ناشط في حركة «فتح» (ص. 117). ويصارحنا أنيس بالمبالغات والتبجّح الذي رافق مسيرة عرفات فيقول عن موضوع مشاركة القوات الفلسطينيّة في «جبهة راشيا الفخار» في حرب 1973: «حقيقة الأمر أن دور هذه الجبهة كان محدوداً جداً رغم حجم البلاغات، فكل ما كانت تملكه من تسليح لم يتجاوز هذا المدفع وبضعة صواريخ أُطلقت على المستعمرات» (ص. 157). وكانت حالة من الفوضى وعدم التنظيم وفقر المعلومات تسود أوساط المنظمات الفلسطينيّة مثل تنظيم أراد تعطيل خط نفط تابلاين الذي كان قد أوقف الضخ فيه منذ سنين.
وسمع أنيس النقاش عن منظمة جديدة اسمها «منظمة الفدائيّين العرب»، فانضم إليها سراً بالنيابة عن «فتح» فيما انضم إليها آخر من قوات القادسيّة يعمل لصالح المخابرات العراقيّة، وآخر يعمل لصالح المخابرات السوريّة وكانوا في التنظيم للتجسّس على بعضهم البعض (ص. 189). والطريف أن الرجل الذي يعمل لصالح المخابرات السوريّة في الدكّان المذكور أصبح مرافقاً لنايف حواتمة (ص. 191) والرجل الذي عمل في الدكان لصالح المخابرات العراقيّة أصبح مسؤولاً في قوة حماية العمليّات المركزيّة «حيث يتواجد أبو عمّار (فيها) أكثر أوقاته». التقى أنيس بـ«أبو الطيّب» (مسؤول أمن الـ17) وحذّره من الرجل فما كان من «أبو الطيّب» إلا أن قال: «إنت عارف يا مازن (اسم أنيس الحركي). إحنا الفلسطينيّة طالعين من منظمات داخلين منظمات، وكثير منا رايحين جايين، يعني مش كل واحد صار جاسوس» (ص. 193).
ويتحدّث أنيس بصراحة عن تجربة وديع حدّاد وعن فشل الكثير من العمليّات التي حُضِّر لها، ويقول إنّ «فشل العمليّات المتتالية انطلاقاً من دول أوروبيّة باتجاه الكيان الصهيوني دفع أبو هاني لاتخاذ قرار مهاجمة المصالح الإسرائيليّة في أوروبا نفسها» (ص. 201، وبعض العمليّات انتهت «بفشل ذريع» مثل محاولة قصف طائرة في مطار أورلي بقاذف أر بي جي). وكانت مجموعة كمال خير بيك (في الحزب القومي) تتشارك مع مجموعة وديع حدّاد في العمليّات. ويكشف في حديث مع أبو حسن سلامة أنه كان يفتقر للحس الأمني والسرّي، ما جعل أبو عمار ينهره قائلاً: «اسمع يا «كذا». مازن بقلك. إيه إنت ما تجمّعش؟ لازم تتم العمليّة بسريّة» (ص. 223). ويريحنا أنيس في الحديث عن ميشال مكربل وينفي عنه تهمة الخيانة التي ألصقها كارلوس به، ويقول إنه عندما اصطحب الشرطة إلى منزل كارلوس لم يكن يعلم أنه في داخله (ص. 226).
أمّا عمليّة فيينا، فكانت، كما يقول أنيس: «العمليّة وأهدافها ليبيّة محضة» وأن الهدف هو الحصول على تمويل فدية من السعودية وإيران مقابل إطلاق سراح الرهائن (بالإضافة إلى مكافأة من القذّافي) (ص. 231). هذا النوع من العمليّات حوّر نمط العمل الثوري في الخارج، كما أن وضع المنظمات الفلسطينيّة في موقع الأداة بيد أنظمة عربيّة كان التزامها بالقضيّة الفلسطينيّة أضعف من التزامها بمصلحة الحفاظ على سلطتها. واعترض الوزير العراقي على العمليّة وعاتب أنيس لأنهم أضاعوا عليه «فرصة عشاء الهيلتون» (ص. 259).
وينقل أنيس عن أفراد في الجيش اللبناني في عام 1975 أن التعبئة السياسيّة فيه كانت موجّهة «ضد المقاومة الفلسطينيّة وليس ضد العدوّ الإسرائيلي. شعبة التوجيه في الجيش لم تكن ترى من خطر على البلاد سوى المقاومة الفلسطينيّة والأحزاب اليساريّة المتحالفة معها» (ص. 278). وكان هناك تحضير «لاشتباك كبير... لتطهير لبنان من العمل الفدائي» (ص 280). ويتألّم أنيس لأن «لا القيادة في الثورة الفلسطينيّة ولا قيادات الأحزاب التي كانت مجتمعة بما يُعرف بالحركة الوطنيّة، كانت تستعدّ لمثل هكذا تحدّ» (ص. 280). وتحمّس أنيس للقيام بعمليّة لفكّ الحصار عن تل الزعتر. التقى بعرفات الذي قال له: «العمليّة يجب أن تكون سريّة ولا يعرف بها أحد. كمال بيك جنبلاط لا يريد اشتباكات في الجبل ونحن الحلّ الوحيد لدينا لفك الحصار عن المخيّم هو فتح جبهة في الجبل» (ص. 300). ثم «وصل عبد الحليم خدّام إلى بيروت واجتمع بالقيادة الفلسطينيّة وقادة الحركة الوطنيّة وكان على عادته سليط اللسان، لا يقدّم رأيه بالمنطق بل بالتهديد، الرسالة كانت واضحة: إياكم ثم إياكم من توسيع المعارك للجبل. أي تحرّك عسكري في الجبل القيادة السورية تخالفه تماماً» (ص. 309).
وعن المواجهة بين قوّات المقاومة والجيش السوري في عام 1976 يؤكّد أن أبو جهاد كان ضد القتال معها وأنه قال إن الجيش السوري «جيش حليف وسنقاتل معه يوماً ما ضد العدوّ الصهيوني» (ص. 333). وعرفات نفسه لم يكن متحمّساً مثل بعض الفصائل اللبنانيّة للقتال بين الطرفيْن. ويتحدّث عن حقبة جرت فيها عمليّات اغتيال وتفجيرات بين حركة «فتح» والنظام العراقي: وأعدّت عمليّات «أخرى لاحتلال السفارات العراقيّة في باريس ومدريد». تقرأ ذلك وتحزن أن قوات الثورة الفلسطينيّة كانت منصرفة لعمليّات ضد سفارات عربيّة وبناءً على خصومات كانت تطول أو تقصر بين «فتح» والأنظمة العربيّة (وحدها علاقة عرفات وأنظمة الخليج بقيت ثابتة حتى الاجتياح العراقي للكويت).
ويتحدّث بإعجاب عن شخصيّة جلال الطالباني عندما كان يساهم في العمل الفلسطيني الثوري. ويقول عن إذاعة «مونت كارلو»: «ليست سوى أداة بروباغندا سوداء تشغّلها الأجهزة الفرنسيّة ولكن بتمويل خفي عراقي ومن بعده تحوّلت إلى تمويل سعودي، وتبيّن بالأدلّة أن كل الإذاعات التي تنطق باللغة العربيّة من الغرب... كانت تنسّق الخطط الإعلاميّة مع حلفاء الغرب في منطقتنا» (ص. 422).
ويتحدّث بالتفصيل عن محاولة اغتيال شهبور بختيار وعن تجربة المحاكمة والسجن. كم هو صلب هذا الأنيس النقاش. في كل معركة أو مفصل في حياته، يتعامل مع التحديات بقوّة وثبات وعزم. أنيس النقاش كان يمكن أن يكون أكثر فائدة بكثير لو أنه انضمّ إلى تنظيم أكثر فعاليّة من تنظيم حركة «فتح». أنيس كان أكثر انضباطاً وسريةً وقدرةً مما تسمح به فوضى دكاكين حركة «فتح»، حتى في سنوات عزّها (الإعلامي). ويلتقي أنيس بجورج عبدالله في السجن الفرنسي ويتحدّث عن تجربة تنظيمه الصغير الذي ركّز على الاستهداف الحصري للمراكز العسكريّة والمخابراتيّة (ص. 667). ويصارحنا أنيس بالقول إن جورج تعرّض لـ«خيانة وتخلّ من دولة عربيّة هي الجزائر» (ص. 668).
ويتحدّث أنيس عن الاشتباكات في إقليم التفاح بين حركة «أمل» و«حزب الله» وكيف أن قوات من «فتح» تدخّلت لصالح «أمل» كما أنه يتحدّث عن لقائه في تونس مع أبو الهول وكيف أن الأخير اعترض على عدم مدّ أبو عمار له بالمعلومات الآتية من لبنان، والمسؤول عن الساحة اللبنانية بقي هو الحاج إسماعيل ويقول أنيس عنه: «تعجبت من إصرار أبو عمار على التمسّك بالحاج إسماعيل مع أنه لم يبل بلاء حسناً في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 بل كانت هناك أخبار على أنه انسحب من أرض المعركة في الجنوب وترك قواته تواجه الاجتياح بدون توجيهات من قيادة القطاع» (ص 734). وفي لقائه مع عرفات في تونس يحاجِج أنيس عرفات بالنسبة إلى تعاطيه مع الأزمة اللبنانية ومع النظام السوري. كان أنيس يرى أن عليه أن يتفاهم مع النظام السوري وأنه كان عليه ألا يخرج من البحر إلى تونس بل عبر البر إلى سوريا. حاول عرفات أن ينفي دعم «فتح» لحركة «أمل» لكن أنيس واجهه بالمعلومات والحقائق ونصحه بأن يتحالف استراتيجياً مع إيران و«حزب الله». وفاجأ عرفات أنيس بأنه وافق على كلامه وأبدا استعداده للتحالف مع الحزب على أن يتم ذلك في طهران وبشهادة الإيرانيين. كما اشترط أن يتم التعاطي بين «حزب الله» وحركة «فتح» عبر عماد مغنية فقط. وانزعج أنيس نقاش من مسألة دعم حركة «فتح» لحركة «أمل» في لبنان وأبدى أبو إياد استغرابه لذلك لأن عرفات أبقى الموضوع سراً يحتفظ به لنفسه. أمّا هاني الحسن فكان يعلم ذلك وقال إن أبو عمار كان يناور كعادته وإن الذي قام بالوساطة بين حركة «أمل» و«فتح» كان محسن إبراهيم.
أمّا أبو إياد فاعتبر أن اجتياح الكويت كان خيانة من صدام للقضية الفلسطينية وعملاً تهوّرياً، وفي اللقاء الذي جمعه مع أبو عمار أبدى وجهة نظره أمام صدّام وأن الاجتياح ضربة لفلسطين وكان صدام غاضباً منه.
وتنتهي هذه المذكرات قبل أوانها. خسرنا وخسرت القضية الفلسطينية أنيس النقاش الذي نذر حياته لخدمة فلسطين. مرض الكورونا قضى عليه وكان أمامه سنوات لتقديم المزيد من التضحيات والمساهمات في القضيّة. كما أنه في آخر أيامه كان شديد الحماس لإمكانية التغيير والقضاء على النظام الفاسد في لبنان وقد أزعج كلامه الصريح بعضاً من حلفائه، وكسب أنيس جمهوراً جديداً له. تقرأ هذه المذكرات ويزداد إعجابك بأنيس ولكن خيبتك تزداد كثيراً بوضع المقاومة الفلسطينية في لبنان كم كانت فاشلة، وكم أن قيادات المقاومة لم تكن جدية في خطة تحرير فلسطين أو حتى خطة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ليس لأنها كانت تفتقر إلى الوطنية بل لأنها لم تكن تدرك أهمية الإعداد والتنظيم والتدريب والحفاظ على السرية الفائقة التي (أي غياب السريّة) شكّلت مقتلاً لمنظمة التحرير منذ انطلاقتها في لبنان. تقرأ عن سهولة الدخول إلى مكتب عرفات والتحدّث معه وتدرك أن إسرائيل لم تجد صعوبة في اختراق كل المنظمات الفلسطينية. ونقد تجربة المقاومة الفلسطينية يجعلك أكثر إدراكاً للفروقات الهائلة بينها وبين المقاومة اللبنانية الحالية التي شكّلت وتشكّل أكبر خطر وتهديد لإسرائيل منذ احتلال فلسطين. وكل المليارات التي أُنفقت، وتُنفق، لتقويض سمعة وشعبية «حزب الله» كانت بسبب نجاحه الفائق وقدراته الخارقة وردعه غير المسبوق للدولة الإرهابية على حدودنا الجنوبية. يكفي أنيس فخراً أنه ما وقع على حركة مقاومة، لبنانية أم فلسطينيّة، إلا وانضوى في صفوفها، لعله يساهم في تصحيح مسارها وزيادة فعاليتها.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@