إنّ تصوّرنا لتطوير التجربة اللبنانية يحتاج إلى عمل إبداعي وعلمي في آن، لأنّ الشعبوية أو التحجّر وعدم القبول النفسي بالتغيّر والاعتراف به، فضلاً عن التكيّف معه، لن يزيد المشكلة اللبنانية إلا تفاقماً ولن يسمح لأيّ عمل إبداعي بأن يشقّ طريقه. عالم البشر والإنسان هو عالم التحوّل، والثابت فيه أنّ كل شيء يتغيّر. فالوقوف على الماضي لن يعيد الماضي ولن يساعدنا على النظر إلى المستقبل. ولم تكن فكرة الدولة/السلطة في أحد جوانبها إلّا حاجة مجتمعية وضمانة لمواكبة النظام مع التغيّر بعيداً عن الفوضى.إنّ النظر إلى الأمام، أي المستقبل، يفرض أن ننطلق من ركائز وقواعد مستخلصة من تاريخنا ونعطف عليها كل التغيّرات المنسجمة مع الحركة البنّاءة للتاريخ لنضع قدماً ثابته نحو المستقبل، ولا نتيه في السيولة الضاربة والنسبيات:
- المنطقة كلّها تحوّلت، والتوازنات فيها تبدّلت، ودخلت غالبية دولها في إعادة تعريف لسياساتها الخارجية على ضوء ما استكشفته من حدود القدرة والممكن. ليس هذا فحسب، بل يمكن الحديث عن تحولات أعمق في مشهدية الإقليم؛ تحوّلات هوياتية تصيب عدداً من دوله المؤثرة، وصل ببعضها إلى حد الشرخ كما حال الكيان الإسرائيلي، في حين أنّ السعودية تبتعد، بقيادة محمد بن سلمان، عن الخط التاريخي للوهابية، وتركيا تدخل في قسمة حادة بين العلمانية والسمة الدينية.
- يدخل العالم تطورات وتغيّرات ثورية، الغرب لم يعد سيّد اللعبة ومحدّد أجندتها في منطقتنا، بل أصبح أحد اللاعبين إلى جانب آخرين، ومؤشرات مساره تنبئ بمزيد من التراجع. وبالتالي منطقتنا ولبنان سيشهدان في المرحلة المقبلة مزيداً من حضور وتأثير قوى دولية مناوئة للغرب، وسيفتح ذلك على وقائع كثيرة لم تكن موجودة من قبل على الصعيد اللبناني، قد يشبه بعضها مرحلة من تاريخه زمن المتصرفية والقائمقامية (1840-1860) وما تلا.
- القضية الفلسطينية عادت لتكون الحاضر الأوّل على أجندة الجميع وفرضت نفسها، وكل الرهانات على تراجعها أو خبوّ أوارها لم تنجح حين كان الحضور الأميركي الغربي في ذروته، ما يعني أنّ منطق التسوية أو تبديل أولوية الشعوب عن فلسطين سقطا وولّيا إلى غير رجعة، ولم تعد المبادرة بيد إسرائيل بل صارت موزّعة بين عدد من اللاعبين، وفي مقدّمهم المقاومة الفلسطينية التي عادت لتؤثّر في قلب المشهد في غزّة والـ 48 - 67.
- لبنانياً، نرى أنّ مجتمعاً جديداً يولد وديناميكية جديدة اختلفت عن بنية 1920-1943، أي أنّ دولته العميقة لم تعد تشبه اجتماعه الحاضر، ولم تعد قادرة على تلبية احتياجاته الجديدة وأسئلته. لقد بات المجتمع اللبناني أحد أهمّ اللاعبين في الإقليم وأحد المساهمين في رسم وجهته وتوازناته، بينما الدولة لا تزال أسيرة الفساد السياسي والمالي والفشل في الدفاع عن سيادتها وفي تحقيق التنمية.
- هناك خلاف يصعب حلّه حول تاريخه وتضارب المقولات فيه، لكن الشيء المتّفق عليه أنّه تجمّع لشعوب ومكوّنات لكل منها خصوصيته. هذا الاعتراف المهم يحضّنا على كشح النظر عن مساعي توحيد النظرة إلى تاريخ لبنان كما كان سعي كمال صليبي وغيره، وأن نرمي ببصرنا إلى المستقبل علّنا نؤسّس لمنطق عيش واجتماع أقوى وشائج.
- إنّ لبنان بلد بنيته الأولى والأصلب هي البنية الطوائفية. إنّ محاولات إلغاء الطائفية السياسية عمرها من عمر الكيان اللبناني، ولم تنجح، بل استمر تبادل كرة الطاولة - إلغاء الطائفية السياسية مقابل العلمنة الشاملة - في محاولة للهروب، ما يعني أنّ طرح إلغاء الطائفية وادّعاء العلمنة الشاملة ليسا أكثر من أوراق على طاولة المناورة السياسية.
- تُعدّ إسهامات المكوّنات أبرز أركان الهوية الوطنية، فيجب أن نستحضر إسهامات كلّ المكوّنات كونها مصدر القوّة والغنى الأبرز، من دون الأخذ بها سيشعر أيّ مكوّن بالتهميش المعنوي والنفسي قبل المادي، وهذا أخطر خدش في الهوية سرعان ما يولد اللااستقرار. فإذا كانت الهوية قامت على مساهمة مكونات سياسية واجتماعية محدّدة حين التأسيس، فيجب أن تتّسع للفاعلين الجدد والأكثر تأثيراً اليوم، أي مكوّن المقاومة الممتدّ طوائفياً. فلا يمكن الاستئثار في تحديد معنى ومضمون الشراكة وتعريفها كأنّها حقٌّ صرفٌ لطرف، بل هي ملك للجميع دون استثناء، مع ما يستلزمه ذلك من شراكة شاملة وعادلة.
- لا يمكن أن يكون هناك طائفة قائدة أو حزب قائد مهما علا وامتلك من مقوّمات ولياقات وقدرات، ففي بلد لم يتنشّأ بنوه على فهم موحّد لمعنى الانتماء للوطن يمكن بأيّ لحظة «تخلٍّ» أن تصبح أطراف فيه بيدقاً للخارج.
- الحرّية أصل في لبنان ولا يجب التراجع عنها بأيّ ثمن. فهي معطى أوّلي لا يمكن تجزئته أو التهاون فيه، لكن ما أفرزته الوقائع هو أنّ العدالة فرضت نفسها كشرط استمرار الكيان وديمومته. حرية بلا عدالة هي طعن بالحرية ونسف لها، فقوامها في توافر الإمكانية للجميع.
- لبنان بلد نهائي برضى الجميع وقبولهم، وهذا تقدّم نوعي وكبير، ولا ننكر أنّ الاختلاف حول مضمون النهائية وطبيعة الدور ومقصد الشراكة البينيّة لا يزال قائماً ولو بدرجات أدنى من الماضي نتيجة ما أشبعته المرحلة الماضية من دلائل وعِبر قوّت من حجّة طرف وأضعفت من حجة آخر.
- لبنان بلد مسيّس بامتياز، شعبه لا يشبه الشعب الأميركي والغربي، بل هو منغمس في الفعل السياسي لأسباب وأسباب. اللبنانيون يرون لبنان كائناً سياسياً وليس اجتماعياً فحسب. وعلم السياسة يفيدنا بأنّه لم يكتب التاريخ بمنطق القيم السامية إذا لم يكن متلازماً مع القوة، ناهيك أنّ مفهوم السلطة تلازم مع القوة حتّى ذهبت بعض المدارس إلى القول إنّ علم السياسة هو علم القوّة (القوّة إزاء الذات وإزاء الآخر).
- إنّ قوّة لبنان كانت ولا تزال تكمن في حيوية «شعوبه» ومبادرتهم، واليوم نلحظ أنّ مصدر حمايته والحفاظ على استقراره وبقائه ومواجهته السقوط تعود إلى مكوناته وليس إلى سلطته، لذلك ميّزة لبنان في مجتمعه وحيوية هذا المجتمع، وبالتالي الدولة المنشودة فيه يفترض أن تكون دولة مركزية في الحكم، مرنة في الآليات والأساليب، ليست شمولية ولا بوليسية ولا عسكرية، دولة راعية ومساعدة للمجتمع ومهيِّئة لجميع المكوّنات فرص الانطلاق بأفضل حدّ ممكن من العدالة.
- إنّ أي منظور يراقب الديموغرافيا ويحمل عدّاداً يشكّل خطراً على لبنان. لبنان يحتاج إلى كل مكوّناته ويقوى بهم، وفي ظل هذا التنوّع لا ممرّ إلا بالحوار والتوافق، رغم امتعاض كثيرين من التوافق لإبطائه الحركة وأحياناً كثيرة إعاقتها. فالعمل بالتوافق يحتاج إلى رجالات وطنية يعملون للوحدة، لا إلى طبقة انتهازية، لكن رغم ذلك نقول إنّ التوافقية - مع سلبياتها - أقّل خطراً من تجاوزها.
لبنان لا يستطيع أن يستمرّ إلا إذا تشبّه بذاته واقتنع أهلوه بأنّه لا يشبه إلّا ذاته وأنّ عليه اجتراح حلول تشبهه من دون التشبّه بأي آخر غربي أو شرقي


- إنّ نظرية حماية لبنان واقتداره تبدو مختلفة عن غيرها من التجارب الديكتاتورية كما في واقعنا العربي، أو الليبرالية كما في الغرب، يجب أن تنبع من خصوصية لبنان لا أن تُستورد.
هذا البلد أمام خيارات لتحقيق الحماية: إمّا أن تتصدّى الدولة/ الحكومة للحماية، وهو ما لا يُسمح لها به، أو أن تنضم إلى أحلاف تقوّي موقفها وهذا ما لا يراه أحد في لبنان مناسباً، أو أن تذهب إلى حياد وهو ما أثبتنا بطلانه، أو أن تبحث عن صيغة مرنة يشترك فيها الشعب وقواه بهذه المهمة، أو أن تبحث عن تكامل إبداعي بينها وبين الشعب متجاوزة الثغرات البنيوية في بنيتها السياسية الدولاتية ومستفيدة من هامش المرونة والظروف التي استولدت المقاومة وراكمت معها عناصر القوّة، فتتكامل مع المقاومة وتتوزّع الأدوار بذكاء. ما من شّك أنّ هذه الفكرة ليست الحل النهائي، إنّما هي حل وسيط لنصل إلى يوم نكون فيه أمام دولة قادرة وعادلة وحامية ولديها رؤية محددة لأمنها القومي. ما من شّك أنّ وجود قوّة شعبية مسلّحة بإمكانات تردع العدو قد تترك بعض الهواجس عند بعض اللبنانيين، وهذا نقاش مشروع وله محلّه: لو كانت المقاومة تريد عكس انتصاراتها في الداخل اللبناني لفعلت ذلك، ومع ذلك لا مانع من القيام بهذا النقاش والتفتيش الأمين وبروح وطنية منفتحة عن ضمانات للأطراف.
- كما أنّ العقد الاجتماعي يحتاج إلى تدقيق لجهة طبيعته، وبين مَن ومَن عُقِد. فمع مرور الوقت، ثبت أنّ عقد لبنان الاجتماعي هو بين مجال المال والشعب وليس بين مجال السياسة والشعب، فمع أوّل رئيس عند الاستقلال ولدت علاقة بالغة الخطورة بين المجال السياسي والمجال المالي، ولم تقتصر آثارها على تشويه الحرية السياسية وتسليع السياسة، بل تعدّته إلى نشوء علاقة مرعبة بين طبقة الحكم وظهيرها المالي.
- ضرورة كسر ما نسمّيه الحلقة المفرغة التي دار فيها لبنان، لقد عاشت الطبقة السياسية رهينة تقلبات وتغيّرات موازين القوى الدولية وانتظار نتائجها. نشأ لبنان بقرار فرنسي بريطاني على أثر تقاسم الغنائم، ثمّ عقد ميثاق 1943 في مصر تحت رعاية بريطانية أتت ببشارة الخوري ورياض الصلح (هواهما إنكليزي) كانعكاس لتراجع فرنسا وتقدّم بريطانيا، ثم عقدت صيغته الثالثة برعاية أميركية في الطائف عبر التسوية السورية - السعودية، وحين تراجع الراعي واختلفت الـ«س - س» دخل اللبنانيون في تيه. فلا يصحّ أن نبقى نعيش دوامة انتظار الخارج وتقلباته.
- نُظِر إلى لبنان كبلد سمته التجارة. لا شكّ أنّ التجارة والترانزيت إحدى سماته، لكنّها ليست الوحيدة ولا الأهمّ، لبنان لديه سمات أخرى كما أثبتت وقائع العقود الأخيرة، حيث تعدّت نجاحاته المهجر والتجارة، تعدّتها إلى سمة الاعتماد على الذات وتحدّي العقل اللبناني مع العقل الإسرائيلي بما يمتلكه من مقدّرات ودهاء. وتزداد حاجة لبنان إلى عناصر القوّة بعد دخوله نادي دول الطاقة، وازدياد تأثيره الإقليمي والدولي، ويحتاج إلى تعبيد الطريق أمامه لضمان مشاركة فاعلة على البحر المتوسط ونحو بلاد الشام والشرق.
- منذ نشأة لبنان ومشكلة فساد الطبقة السياسية تطارده وتأخذ أشكالاً مختلفة وكثيراً ما تقنّن، تساعد في ذلك البنية الاجتماعية والطوائفية، لذلك سيكون المخرج الوحيد هو في العمل لإنتاج دولة القانون، والأخيرة تحتاج إلى تحديد وتعريف في مواجهة الفساد.
- دولة تقدّر الدِّين وتعلي من شأنه، إذ ثبت أنّ مسألة الدِّين متجذّرة في الواقع اللبناني والعربي والإسلامي، وكلّما ظنّ البعض أنّ الدِّين قد تراجع حضوره سرعان ما يُفاجأ الجميع بدرجة حضوره وقدرته، ناهيك أنّ غالبية النقاط المضيئة في لبنان في العقود الأخيرة انفتحت له من منطلقات دينية المنشأ، اعتقدت بها بعض مكوناته وبادرت على ضوئها، لذلك فالمسألة الدينية يجب تثبيتها وتعزيزها في لبنان. وأغلب الظنّ أنّ النتوءات التي شهدها لبنان بمسمّيات دينية كانت عبارة عن تشغيل سياسي أو جهل وإغلاق عقل.
- الدولة وفق المفهوم الوستفالي ليست بالضرورة النموذج الأنسب للبنان، ومن الخطأ السعي للتشبّه بها والمسارعة لإسقاطها على الواقع اللبناني. للتذكير، فإنّ عناصر نجاح الدولة القومية في الغرب لم تنفكّ عن واقع هيمنة الدول الغربية، إذ إنّها كانت تواجه أزماتها بهيمنتها الخارجية مضافاً إليه بنيتها العسكرية القوية وتحالفاتها الاقتصادية وتوفّر الحماية لها من أميركا وعبر «الناتو».
- لا يمكن للبنان أن يكون حيادياً، بل عليه أن يحدّد مقدار مسؤوليته بحسب الموضوعات والقضايا وقدرته. فأن نكون محايدين بين الحق والوهم هو الوهم بعينه، لا يستقيم الحياد بين مهيمن ومتسلّط ومحتلّ، وبين شعوبنا وتاريخنا وامتدادنا الاجتماعي والثقافي، لا يستقيم الحياد في مجتمع يمتلك أبناؤه تراثاً قيمياً ودينياً ضارباً في التاريخ، ضحّوا وكافحوا ونافحوا وشرّدوا كي لا يتخلّوا عن قيمهم وخصوصياتهم أمام المتسلّطين والظالمين. شعوب لبنان عانت الصعوبات لتحفظ هويتها الإيمانية والدينية وقيمها. كما أنّ غالبية اللبنانيين ترى لبنان كائناً سياسياً وليس اجتماعياً فحسب، بمعنى تنظر إليه كبلد شهادة لا عيش فقط. إنّ دعوى الحياد وفرضيّتها مخالفة للتجربة اللبنانية حتّى عند من يدّعي الحياد، فلم يحيّد لبنان نفسه منذ ما قبل تأسيس لبنان الكبير وخلال الحرب العالمية الأولى وإلى ساعتنا هذه. لا بأس من أن يُقال ولو لمرّة أخيرة، لا يوجد في لبنان إمكانية حياد لأسباب لا حصر لها، فكل محاولات التشبّه بسويسرا والسويد ونظريات الحياد أسقطتها الوقائع – هذه الدول خرجت عن حياديتها في الحرب الأوكرانية – وهي في بيئة مختلفة تمام الاختلاف عن واقع لبنان.
كل ما ذكرناه يؤكد أننّا أصبحنا بحاجة إلى مراجعة المرجعية الفكرية والقيمية التي فشلت في حمل لبنان في القرن الماضي، والبحث في تلكم القادرة على مواكبة الصيرورات في بعدَيها الداخلي والخارجي والضامنة لبقاء الكيان ونمائه. لبنان لا يستطيع أن يستمرّ إلا إذا تشبّه بذاته واقتنع أهلوه بأنّه لا يشبه إلّا ذاته وأنّ عليه اجتراح حلول تشبهه من دون التشبّه بأيّ آخر غربي أو شرقي. ولبنان الذي قام على تثقيل البعد الخارجي منذ التأسيس حتّى الطائف على حساب الداخلي، لديه فرصة اليوم لإعادة إنتاج ذاته بمعيار داخلي أولاً. فهل تنوجد الشجاعة والإرادة؟
* كاتب لبناني