تبعثر تأريخ لبنان باللغة العربيّة. في مرحلة المدّ القومي، كانت النزعة لكتابات تاريخ المنطقة العربيّة عبر منهج جامع يُعزّز القواسم المشتركة بين الشعب العربي (حتى فيليب حتي كتب تاريخ سوريا بما فيه لبنان وكان دائماً يوضّح أنه تاريخ المنطقة التي أصبحت حديثاً لبنان). يمكن مثلاً أن تكتب تاريخاً لأوروبا أو تاريخاً لمدينة في دولة أوروبية، كما يمكن أن تكتب تاريخاً لقرية في لبنان، أو تاريخاً للشعب العربي، مع العلم أن القواسم المشتركة بين أفراد الشعب العربي أكبر بكثير مما يجمع بين الأوروبيّين. في مرحلة صعود الوطنيّة الضيّقة والشوفينيّة الوطنيّة، برزت في لبنان كتابات للتاريخ المحلّي، على نطاق القضاء أو القرية، مع الأخذ في الحسبان ما يجمع أبناء الطائفة. وهذا النوع من التاريخ غير ضارّ إذا ما ارتبط بتاريخ أوسع عن المنطقة، في سوريا أو في العالم العربي.

والصعود الشيعي السياسي في لبنان، كما صعود العنصر الأسود في أميركا، أنتج وعياً سياسيّاً وثقافياً وزهواً جديداً كان ممنوعاً عليه في مرحلة فرض الوعي الطائفي الواحد. الكتاب الذي بين أيدينا كتاب ضخم وطموح وموسوعي: «يوسف بك الزين: من جبل عامل إلى الجنوب اللبناني» بقلم منذر محمود جابر (والصادر عن مكتبة أنطوان). منذر جابر مؤرّخ مجتهد معروف وله مجلّد موسوعي ضخم وقيّم جداً عن «الشريط اللبناني المحتل: مسالك الاحتلال، مسارات المواجهة ومصائر الأهالي» والصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة (كتبتُ مقالة مراجعة عنه في مجلّة الدراسات الفلسطينيّة بالإنكليزية). منذر جابر ليس مؤرّخاً عادياً. هو يغوصُ في المراجع وينبشُ فيها إلى درجة مذهلة، وهذا، يعكسُ نفساً طويلاً وحرصاً علميّاً وجهداً فائقاً وأمانة عمليّة. منذر جابر لا يباشر في الكتابة قبل أن يكون قد أتمّ الإحاطة بالمراجع، وخصوصاً بالعربيّة. وهو يقارن المعلومات بين المراجع كي يعطي القارئ صورة شاملة عن الموضوع. سأسجّل أدناه بعض الملاحظات عن الكتاب الجديد المفيد عن يوسف الزين ودوره في جنوب لبنان.
1) كان أفضل لو أن العنوان أورد اسم يوسف الزين خالياً من البيكويّة. صحيح أن البيكوية والأفنديّة والباشوية كانت جزءاً من الاسم القانوني في مراحل سابقة من تاريخنا، لكن التاريخ الحالي يجب أن يتحرّر من أعباء التراتبية الاجتماعيّة والطبقيّة في كتابة الأسماء.
2) الكتاب الذي بحوزتنا ليس سيرة عاديّة لشخصيّة سياسيّة هامّة بل هو أقرب إلى كتاب مرجعي عن تاريخ جنوب لبنان في النصف الأوّل من القرن العشرين. الكمّ المعرفي الهائل في الكتاب سيحفِّز، أو يجب أن يحفّز، لكتابة عدد من الكتب وأطروحات الدكتوراه عن جبل عامل. وهناك، برأيي، متعة خاصّة في قراءة حواشي الكتاب لما تتضمّنه من معلومات إضافيّة مهمة لم يتِح حجم الكتاب ضمّها في متنه. والمؤلّف نجح في الإشارة إلى كل ما كُتب عن المرحلة، من صحف وكتب وأرشيف أجنبي وحتى الأرشيف الخاص بعائلة الزين.
3) يجب أن نقرّر كيف نتعامل مع مرحلة الإقطاع الشيعي في حياة جنوب لبنان. هل نتعامل معها باعتذاريّة تنفي عن المرحلة جَوْرها وظلمها أم نحن نبجّل في الحديث عنها لنقارن مع مساوئ المرحلة الحالية من الزعامة السياسيّة للجنوب ولشيعة لبنان؟ منذر جابر خلطَ بين الحاضر والماضي في تقديمه لمشروع الكتاب إذ يقول: «وهذه الصورة المسخوطة للزعامات الجنوبيّة، تستثمرها حالياً القوى السياسيّة القائدة في الجنوب، والتي تنظر إلى ما سبق "زمنها" من تاريخ الجنوب اللبناني على أنها "جاهليّة" في هذا التاريخ، غمرَ الجنوب خلالها ليل بهيمٌ عميم» (ص. 33). هنا أختلف مع تقييم جابر. أنا أرى أن حركة «أمل» وحزب الله يتعاملان مع تاريخ الجنوب بالكثير من الاعتزاز الطائفي، ومن نزوع لتجنّب نبش الجروح والقبور وإثارة الخلافات. كيف يقول جابر إن القيادة الحاليّة في الطائفة الشيعيّة تتعامل مع المرحلة الماضية على أنها جاهليّة، ونبيه برّي يصرّ لسنوات على ضمّ ممثّل عن عائلة الزين نفسها، وعن عائلة عسيران، كما أن حزب الله تفاوض في الماضي مع كامل الأسعد، الذي مثّل في زمانه المثال الأكثر إثارة للجدل والاستفظاع ــ وعن حق. الثنائي «الشيعي» (والتسمية طائفية) لا يريد تأجيج أيّ من الصراعات في داخل الطائفة وخصوصاً أنه ينجح في الفوز بكل المقاعد الشيعيّة في الانتخابات. لكن كيف نتعامل مع مرحلة الإقطاع؟ هذه مسألة عنتني شخصيّاً عبر السنوات. نشأتُ على علم بأن عمّي الراحل، ناجي أبو خليل، تمرّدَ على أبيه (جدّي لأبي، محمد أسعد أبو خليل) لأنه كان إقطاعيّاً. ولا يزال أنصار حركة «أمل» يعيّرونني بإقطاعية جدّي (والكتاب يورد اسم جدي ودوره مع زعماء إقطاع تلك المرحلة). لكن هل كان هناك إقطاع في جنوب لبنان؟ وتناقشتُ أخيراً في ذلك مع العزيز، صائب الزين، حفيد يوسف الزين. أنا أرى أن مصطلح الإقطاع يصلحُ في هذه الحالة عن تاريخ جنوب لبنان، وإن كان يختلف عن سمات الإقطاع الأوروبي. الإقطاع الأوروبي كان نسقاً من التملّك الذي مارس فيه رجال الإقطاع دور الدولة المركزيّة بالكامل. في الجنوب اللبناني، كان الزعيم الإقطاعي يمارس دوره ويحصل على ولاء السكّان بالتزاوج مع سلطة مركزيّة للدولة العثمانية أو دولة الاستعمار الفرنسي أو مرحلة الاستقلال. أي إن مرتبة الزعيم الإقطاعي السياسيّة والتقريريّة لم تصل إلى مرتبة زعماء الإقطاع في أوروبا. لكن هذا لا يجب أن يخفّف من ظلم المرحلة وقساوة الفروقات الطبقيّة في المجتمع. ما سمعتُه في طفولتي عن المرحلة، وحتى عن سمات في مرحلة زعامة جدّي، يكفي لإدانة ما كان سائداً اجتماعيّاً وسياسياً. كيف يمكن أن نعرّف الإقطاع في جنوب لبنان في حينه؟ هو يصف نوعاً من العلاقة الاجتماعية والسياسيّة التي اعتمدت على قدرة تملّكيّة تخطّت الأراضي لتشمل قرى بحالها مع طاعة كليّة من سكّانها. وعائلات الإقطاع احتكرت التمثيل السياسي وأقصت عنها عائلات الفلاحين (لم تتمثّل عائلات الفلاحين في جنوب لبنان في المجلس النيابي إلا في حقبة ما بعد الطائف، وبعض تلك العائلات اغتنت في ظروف مختلفة). صحيح، أن العائلات المتوسّطة نجحت في اختراق الاحتكار في الستينيّات لأن الشهابيّة حاولت أن تعزّز من موقعها وأن تحارب عائلات إقطاعيّة كانت تنتمي إلى أعدائها. لكنّ مجلّة «العرفان» في مطلع القرن العشرين تعطي في أعداد لها، عن أسماء القرى في جبل عامل، لمحة عن الإقطاع من خلال أسماء عائلات كانت تملك قرى بحالها: ملك آل الأسعد أكبر عدد من القرى (21 قرية) مقابل 14 قرية لآل الزين وعشر قرى لآل عسيران، إلخ (ص. 118-119).
4) حدود عمل ودور زعماء الإقطاع رسمتها سلطة مركزيّة وضمير كل شخص. لم يكن من روادع قانونيّة أو شعبيّة، لا بل إن بعض الزعامات، مثل الأسعد، كانت تدير سجوناً لها. تسلّط بعض الزعماء على حياة مواطنيهم. اغتيال إسماعيل الزين، والد يوسف، في عام 1909 يعطي فكرة عن العلاقة بين العامّة وبعض الزعماء، وربما عن الصراع بين الزعماء (حسب تفسير الاغتيال). الاغتيال السياسي حدث نادر جداً في جنوب لبنان وجابر اعتمد في تفسير الحادثة على «العرفان» المملوكة من آل الزين (إسماعيل هو عمّ أحمد عارف الزين)، «العرفان» نسبت الاغتيال إلى «الحسد والغيرة»، في إشارة إلى عائلة الأسعد. وكان إسماعيل قد نجا من محاولة سابقة اغتيال في عام 1905. يذكر الأرشيف العثماني، حسب ما أورد جابر عرضاً، الشكاوى التي تراكمت من قبل أهالي الكوثريّة التي ابتاعها إسماعيل من آل سرسق (وكان آل سرسق قد ابتاعوها من آل الأسعد). يعترف تقرير الأرشيف العثماني أن الأهالي في الكوثرية اعترضوا على «عدم المحافظة على شرفهم وأعراضهم» (ص. 81). عائلة الزين لامت خصوم إسماعيل السياسيين، أي آل الأسعد. ويقول لي رجل جنوبي متحدّر مباشرةً من واحد من الذين اغتالوا إسماعيل الزين أن الدافع كان لأن إسماعيل كان «يستعبد الناس ويمارس التفخيت»-الذي كان شائعاً في إقطاعات كسروان، أي عادة مرور العروس على الزعيم قبل زواجها). و«التفخيت» لم يكن شائعاً في الجنوب. وأصدر رجل دين من آل إبراهيم (محمد إبراهيم، جد محسن إبراهيم) فتوى بقتل إسماعيل الزين وقام رجلان من النميريّة بقتله (محمد حمادة هرب إلى الأرجنتين وعلي جعفر سنان). وضاح شرارة في «الأمة القلقة» أخذ برواية آل الزين عن دوافع البغض من عائلات إقطاعيّة منافسة. أمّا عباس جعفر الحسيني (المتحدِّر من عائلة إبراهيم) فقد كتب رواية تاريخيّة مشوّقة (بعنوان «فتوى في بيت إبراهيم») يتحدّث فيها عن صيت الظلم والتسلّط الذي شابَ زعامة إسماعيل الزين (غاب هذا الصيت بالكامل في سيرة ابنه السياسيّة من بعده). أفردَ جابر قسماً للحديث عن الاغتيال لكنّ الموضوع كان يحتمل المزيد من التمحيص والتدقيق وخصوصاً أن الروايات عنه تختلف. من الأكيد أن الحادثة شكّلت عبئاً على يوسف الزين وهو يرسم دوره السياسي.
نلاحظ ظهور سير لزعماء وحكّام من قبل مؤرّخين، وهذا حسن. لكن: من يكتب سير «الناس اللي تحت»؟ من مظاهر ضعف هذه السيرة أنها أهملت نمط حياة الفقراء والفلاحين في الجنوب باستثناء مزارعي التبغ


5) تدفعنا قراءة الكتاب لتبيان فروقات كبيرة بين شخصيّات زعماء الإقطاع. وشخصيّات الزعماء كان لها أثر كبير على زوال الظاهرة (مقارنة باستمرار الزعامة الجنبلاطيّة مثلاً). شخصيّة كامل الأسعد (آخر زعيم أسعدي) نفّرت الكثير من الجنوبيّين منذ انطلاقته في الستينيّات. كان زعماء الإقطاع أقرب إلى الناس قبله. أبوه مثلاً كان أحياناً يوقف سيارته الكاديلاك في وسط بيروت كي يصطحب معه حمّالاً جنوبيّاً استوقفه في الطريق. صبري حمادة كان قريباً جداً من أهل منطقته (رأيتُه وأنا طفل وهو يتعامل معهم من دون العجرفة التي وصمت شخصيّة كامل الأسعد). عادل عسيران كان نخبوياً وصارماً ولم تكن لديه المقدرة على الاقتراب من الناس (كان يمنع في مجلسه التشدّق بالعلكة أو اللعب بالمسابح). يوسف الزين، على ما يقول جابر وهو محقّ، كان يتحدّث عن معاناة عمّال التبغ كما تحدّثت عنها في ما بعد بعض أدبيّات الأحزاب اليسارية والقوميّة. تحدّث الزين عن الفلاح والفقراء بخطاب غير موجود في خطب كامل الأسعد وعسيران وحتى حمادة. يقول في تقرير له من عام 1936: «إذا قلنا الفلاح في الجنوب، فقد أتينا بعنوان يدلّ مدلوله على الفقر والشقاء والجهد والبلاء، وعلى البؤساء الذين أهملتهم الحكومة التي تولّت أمرهم...وإنني أعرف الكثير من الفقراء منهم وجلّهم فقراء» (ص. 650). ويقول في مقطع آخر: «للعيلة الواحدة ونفوسها ثمانية أو تسعة، لحاف واحد لبرد الليل، على حصير واحد من البابير الجافي، وما ذاك إلا لعدم وجود المال الذي كان يؤمّل قبضه من ثمن دخانه» (ص. 27). جريدة «المعرض» قالت عنه: «أمّا إذا كان زعماء الجنوب يقطّبون أساريرهم لدى ذكر يوسف الزين، فأسارير الفلاحين فيه لا تزال تشرق لدى ذكره» (ص. 27). أجزم أن كامل الأسعد، مثلاً، لم يعرف فقيراً واحداً في حياته، وأجزم أنه لم يعرف شيئاً عن حياة الفقراء في الجنوب. في المقابل، يتحدّث يوسف الزين عن لباس الفلاحين فيقول: «معظم أكسية الفلاحين من خاميات الثياب، وسوق الثياب العتيقة في بيروت تعرف مقطوعية جبل عامل منها» (ص. 651). والحياة الشخصيّة والموقف من العامّة كانا علامتين في صعود أو سقوط الزعماء، كما حلّ بزعامة كامل الأسعد التي بلغت أوجها في الستينيّات. وفي الحياة الشخصيّة، تزوّج يوسف الزين من نساء أربع من عائلات فلاحيّة في كفررمّان، بعد زواجه الأوّل من ابنة عمّه (في عام 1955، قام يوسف الزين بتطليق نسائه جميعاً لأسباب تتعلّق بالميراث، ص. 44). زعماء الإقطاع الآخرون حرصوا على التزاوج في ما بينهم (أخت كامل الأسعد تزوّجت من صبري حمادة، وآل عسيران تزاوجوا مع آل الخليل، إلخ).
6) لا يجب أن نبالغ في الدور السياسي لكل زعماء الشيعة والسنّة على حدٍّ سواء في لبنان ما قبل الطائف. زعماء الموارنة حكموا لبنان بالتوافق مع سفارات الغرب. كانت القيمة السياسيّة للزعيم تتأتّى من مدى التحاقه بزعيم ماروني نافذ. زعامة كاظم الخليل استفادت من صعود كميل شمعون ومن علاقاته العربيّة والإيرانيّة والتي وظّفها في خدمة زعامة آل الخليل في صور. يوسف الزين كان من حصّة إميل إدّه، كما كانت الزعامة الأسعديّة تتأرجح بين الزعمات المارونيّة المختلفة. ولم يستقرّ المقام لكامل الأسعد في رئاسة المجلس إلا بعد أن طلع في تكتّل «الوسط» (مع صائب سلام) بصيغة المرشّح سليمان فرنجيّة للرئاسة. كافأه فرنجيّة في كلّ عهده وبقي رئيساً للمجلس فيه. لكنّ الولاء لزعامات مارونيّة مثل إميل إدّه، والتعايش مع الانتداب الفرنسي، تناقضَا مع مواقف عروبيّة وسوريّة للزعماء الشيعة (وهذا يسري على جدّي الذي حضر مؤتمر وادي الحجير مع يوسف الزين وكامل الأسعد وإسماعيل الخليل وغيرهم، ص. 176). تواءم هؤلاء في ما بعد مع الانتداب الفرنسي: والإمام عبد الحسين شرف الدين زار الجنرال غورو في عام 1920 وتكلّم باسم وجهاء جبل عامل برئاسة كامل الأسعد «فذكر ميلهم للدولة الفرنسيّة، وأطرى على ما امتازت به هذه الدولة من العدالة والحريّة، وما لها من فضل على الإنسانيّة» (ص. 162، جابر يعتبر ذلك من باب «الواقعيّة»). وزعماء السنة لم يختلفوا في قاعدة استفادة الزعامة من القرب من زعامات مارونيّة مؤثّرة، وكلّهم اصطدموا بالزعيم الماروني النافذ عليهم. صائب سلام ترك الحكم في عام 1973 عندما أدرك أن لا صلاحيات له في الإصرار على أي موقف إذا اختلف الموقف مع مشيئة ومزاج الرئيس الماروني.
7) نلاحظ ظهور سير لزعماء وحكّام من قبل مؤرّخين، وهذا حسن. لكن: من يكتب سير «الناس اللي تحت»؟ من مظاهر ضعف هذه السيرة أنها أهملت نمط حياة الفقراء والفلاحين في الجنوب باستثناء مزارعي التبغ، لأن يوسف الزين أولى الموضوع اهتماماً كبيراً وألقى فيه خطباً عاطفيّة وسياسيّة وكتب تقارير عن أحوالهم، حاضاً الحكومة على التدخّل لإصلاح معيشتهم. عندما كان حنا بطاطو يعدّ كتابه عن سوريا، أصيب بضيق شديد لأنه لم يجد في تاريخ سوريا في القرن التاسع عشر ما يعطي فكرة عن حياة الناس العاديّين والفقراء. كان يقول لنا: فقط كتاب الحلّاق البديري أعطانا لمحة عنهم. سير زعماء الإقطاع تحتاج إلى سير مُرافِقة عن الفلاحين والفقراء. نحتاج أن نفهم الظروف التي أدّت بعد الحرب الأهليّة إلى القضاء، كليّاً، على زعماء الاإطاع في عكّار (سليمان العلي كان ظاهرة متسلّطة ومجرمة بحدّ ذاتها، وكان واحداً من عشرين سنيّاً وعده بشير الجميّل برئاسة الوزراء) وفي جنوب لبنان تمّ القضاء على الإقطاع بالكامل. تمَّ نبش قبر أحمد الأسعد وتم التمثيل بما تبقّى من جثّته. لماذا جرى ذلك وما سبب هذا الغضب الدفين؟ الكتاب لا يجيب عن ذلك. وكان يجب التفريق: لم يكن كامل الأسعد أو عادل عسيران أو كاظم الخليل يسعون لتحسين شروط عمل عمّال التبغ، كما فعل يوسف الزين. ولم يكن الشيوعيّون وحدهم من قاوموا ثقافة الإقطاع في الجنوب بل سبقهم إلى ذلك القوميّون العرب (من «البعث» ومن حركة القوميّين العرب). كان كامل الأسعد يمقت كل ما له علاقة بالبعث العراقي في حقبته الجذرية في أوائل السبعينيّات (قبل رئاسة صدّام حسين). موسى شعيب لم يستكنْ في التحريض ضد الإقطاع قبل أن يقتله النظام السوري. هو الذي أنشدَ: «يا قصوراً عشّش الإثمُ على أسوارها جيلاً فجيلاً، مجدك الزائف شيّدناه والجوع طويلاً، كم زرعنا في المداميك قتيلاً؟». لا تكتمل سيرة أي زعيم جنوبي، بمن فيهم يوسف الزين، من دون سير الفقراء الذين أنتجوا، بسبب حرمانهم، حركة «أمل» وحزب الله (وبصرف النظر عن التجربتيْن من ناحية حمل هموم الفقراء). هل تجوز المفاضلة أو المقارنة بين إقطاع الأمس وزعامة نبيه برّي وما رافقها من ثراء ونفوذ هائليْن لم يسبقه إليه زعيم جنوبي من قبل؟ الجواب: لا، لسبب بسيط. زعامة نبيه برّي ليست نتاج وراثة عائلية بل هي نتاج ظروف سياسيّة وعسكريّة دفعته إلى موقع الصدارة في سياق الحرب الأهليّة. وفي تضاد مع ثقافة الإقطاع، لن يستقيم لبرّي توريث خليفة له، وهو ـــ للأمانةـــ أعلن نبذه للتوريث ولم يسمِّ أياً من أبنائه على طريقة بيت معوّض وفرنجية وجنبلاط. ولن يخلف نصرالله ابنه. هذا أكيد.
8) يصف جابر الحركات المسلّحة التي نشأت ضد الاستعمار الفرنسي، بما فيها حركة أدهم خنجر الذي حاول اغتيال الجنرال غورو، بـ«العصابات». لا بل إنه يقول إن ذلك ترك حالة من غياب الأمن و«انتشار قطاع الطرق» وينقل عن سليمان ظاهر قوله إن الحركات تلك كانت تضمّ «أوباشاً وأخلاطاً» (ص. 164) من الطبيعي أن ترتاع زعامات الإقطاع من بروز حركات مسلّحة تضمّ فقراء الجنوب، كما ارتاعت سلطات الاستعمار الفرنسي. لا يبدي جابر إعجاباً بشخصيّة أدهم خنجر، الذي عظّمته وقدّرته الثورة العربيّة في سوريا (وحاول أتباع سلطان باشا الأطرش تحريره من السجن لكنه أُعدمَ، راجع كتاب مايكل بروفنس، «الثورة السوريّة الكبرى وبروز القوميّة العربيّة»، ص. 3-5).
9) يبدو جابر مصرّاً على فصل الأهواء السياسيّة المبكرة للشيعة عن السنة، ويقول إن الشيعة لم يُصدموا من جراء ضمّهم إلى لبنان الكبير (ص. 220). لكنّ خطب سليم حيدر في مناقشات أوّل دستور للبنان كانت واضحة في توجّهها السوري-العربي.
هناك كمّ هائل من المعلومات المفيدة والقيّمة والجديدة في الكتاب الموسوعي الهام، لكننا احتجنا إلى المزيد عن شخصيّة يوسف الزين. تشمل السيرة مواضيع كثيرة جداً (وأحياناً تستفيض في حادثة معيّنة مثل جرّ مياه نبع الطاسة). لكنّ الكتاب الموسوعي دليل غزير سيستفيد منه جيل جديد من الباحثين والباحثات. هذا الكتاب ليس نتاج بحث عادي بل نتاج سنوات من العمل المضني الذي سيفيدنا على مدى سنوات مقبلة.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@