أسارع إلى أن الحوار المقصود هنا، هو ليس ذلك الذي ينادي به طرف من أطراف المجلس النيابي، من أجل عقد تسوية تفضي إلى انتخاب رئيس الجمهورية العتيد. هذا النوع من الحوار هو جزئي ومقتصر على اسم الرئيس المتعثّر انتخابه. وهو بالتالي، قاصر عن الوفاء بمتطلبات الولوج السليم والضروري في مسار التعامل مع الأزمة الطاحنة التي يعاني منها لبنان وشعبه، منذ حوالي أربع سنوات: على نحو مأساوي، كوارثي، ومفتوح على أسوأ الاحتمالات. الحوار المطلوب، والذي يمكن له وحده أن يقود إلى معالجة إنقاذية، هو الذي يبدأ بالبحث في أسباب الأزمة والمسؤوليات، ومن ثم في بلورة خلاصات تفضي، بدورها، إلى خطط وبرامج وسياسات من شأنها وقف التدهور في المرحلة الأولى، واعتماد معالجات إنقاذية ناجعة في المرحلة الثانية.
في العنوان الأول، المتصل بالحوار المنشود، يمكن الملاحظة، بسهولة، أن أطراف السلطة والمعارضة السلطويّة، وكذلك الأفراد الجدد ممن يطلق عليهم «نواب التغيير، كل هؤلاء، بشكلٍ عام، يحرصون على حصر الحوار في نطاق النظام السياسي القائم. وهم، رغم تباينات جزئية، يصبّون جهدهم، بشكل أساسي، لتعديل توازنات ذلك النظام فحسب. ولذلك يتركز نقدهم على السياسات والمواقف والعلاقات، بشكل جزئي، من دون تجاوز ذلك إلى ما هو جوهر المشكلة وأساس استمراريتها وتفاقمها. إنّ هذه المقاربة هي التي انطلق منها أطراف السلطة منذ حوالي ثلاثة عقود ونصف العقد في تعاملهم مع تسوية «الطائف»، وخصوصاً مع إصلاحات تلك التسوية. فرغم ترحيل البنود الإصلاحية من «الطائف» إلى الدستور، فقد تمّ تعطيلها عن سابق تصور وتصميم.
أدّى ذلك، بين أمور أخرى، إلى بتر تسوية «الطائف» وتشويهها، وإلى تضييع مركز القرار وتشتيته (عبّر عن ذلك الرئيس نبيه بري، دون أن يشير إلى مسؤوليته وسواه، حين صرّح لـ«الأخبار» منذ يومين بالقول: «بتنا نعتمد على الخارج في انتخابات الرئاسة. كل طرف يغني على ليلاه ويمتلك فيتو وله شروطه»). تفاقم هذا الأمر مع تنامي دور التيار العوني الذي لم يتردد زعيمه وممثلوه في المطالبة بتعديل الدستور لإلغاء المواد الإصلاحية من أساسها! نجم عن هذا البتر استشراء التقاسم والتحاصص باسم الطوائف والمذاهب، ونشوء الدويلات على حساب الدولة، وتعطيل المؤسسات باسم «الميثاقية»، وأشكال أخرى من البدع من نوع «حصة الرئيس» و«الثلث المعطِّل» واحتكار المواقع والوزارات، وغياب كل أشكال المحاسبة... وصولاً إلى سرقة موارد الدولة ونهب المال العام وودائع اللبنانيين مقيمين ومغتربين. وفي مجرى هذا التنكر السافر والمتمادي لتطبيق الدستور ومستلزمات التقدم، كان يتفاقم الدور الخارجي مع تعاظم الأزمة الاقتصادية بالنهب والديون والفساد والسرقة والتحاصص، ومع تفاقم الصراعات الإقليمية التي تغذيها واشنطن لمصلحة هيمنتها على المنطقة ولخدمة أداتها الأساسية فيها: العدو الصهيوني.
ما ذكرناه من الأسباب، وما اعتُمد من مقاربات، واستُخدم من أشكال التضليل باستنفار العصبيات لحجب الحقيقة وتضييع المسؤوليات، أدى إلى بروز مفارقة خبيثة تتمثل في تحييد السبب الأساسي عن إنتاج الأزمة، ليُصار إلى حصر المسؤولية في الممارسة والأخطاء الفردية الموزّعة هنا وهناك، من دون النهج الذي استندت إليه هذه الممارسة والأخطاء: أي من دون الاقتراب من أصل الخلل فيما حصل؟
يقودنا هذا الاختلال في مقاربة الأزمة إلى نتائج تزداد خطورتها يوماً بعد يوم. أولها: التصويب على النتائج من دون الأسباب. ثانيها: تسهيل الإفلات من أي عقاب أو مساءلة بشأن ما يكابده اللبنانيون من مآس وكوارث وما يتهدد لبنان من مخاطر على سيادته ووحدته، وحتى على وجوده نفسه! بالمقابل، فقد تمكنت قوى السلطة التي انبثقت عن تحالف بقايا الإقطاع والبورجوازية الكبيرة وأخطبوط الاحتكارات والمصارف... عبر ما خبرته وراكمته من أساليب التضليل، وتغذية وإثارة العصبيات الطائفية والمذهبية، وتسخير وتقاسم موارد الدولة، والاستقواء بالخارج... تمكنت من الاحتفاظ بالسلطة، مواصلة بكل وقاحة استخدامها، وكأن شيئاً لم يحدث، وفي خدمة استمرار سيطرتها، ووفق المنهج نفسه والممارسات نفسها! ساهم في ذلك عاملان آخران: الأول انخراط كامل لواشنطن وحلفائها الغربيين والعرب من أجل استغلال الأزمة وتوجيه مسؤولية حصولها حصرياً، على أطراف دون سواهم... وذلك لأهداف أميركية وإسرائيلية محضة: حصر المسؤولية بالمقاومة والتحريض على سلاحها. الثاني غياب المعارضة الوطنية وعجزها على أن تتكّتل في صيغة جبهويّة على أساس برنامج وأولويات وخطة وقيادة، لرفع صوت المتضررين وهم الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني، وجعل حضورهم فاعلاً في تحديد المسؤوليات وبلورة المعالجات.
إنّ فئوية القوى المسيطرة، والخلل في النظام السياسي، يمنعان غالباً، في المنعطفات، إمكانية بلورة تسويات داخلية في الشؤون السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية. ودفع ويدفع تدخلُ القوى الخارجية، وخصوصاً واشنطن، ذات النفوذ الطاغي والتأثير الكبير على أكثرية قوى السلطة، نحو مزيد من الانهيار طالما لم يجرِ تبني الأجندة الأميركية وأولوياتها في لبنان. ولم يكن من قبيل الصدفة أن التدخل الأميركي هو الذي حسم مسألة ترسيم الحدود البحرية مع العدو الصهيوني (قلّص من خسائر الترسيم تدخل المقاومة). أمّا كل المسائل الأخرى فمعلقة بسبب التعطيل الأميركي: من تأمين الحد الأدنى من الخدمات، إلى تحقيق المرفأ، إلى محاسبة المسؤولين، إلى وقف التدهور بقطع المساعدات الخارجية، وبمنع دول صديقة منافسة من تقديم المساعدات للبنان...
إنه، إذاً، خلل داخلي تغذّى بالفئوية وبالعصبيات وبسوء استخدام السلطة وتسخيرها، وبالإصرار على نظام، أثبت قيامه واستمراره ونقله إلى بلدان أخرى، أنه جزء من أدوات الخارج الاستعماري لإبقاء منطقتنا وشعوبنا ضعيفة ومفككة وعاجزة عن إدارة شؤونها وصيانة استقلالها ووحدتها وثرواتها.
ما يتطلبه لبنان لا أقل من حوار تأسيسي: أولاً، لإعادة وحدة القرار الشرعي الموزّع حالياً بين «الرئاسات» والوزارات... والخارج. ثانياً، لن يتم ذلك بدون اعتماد آلية تنفيذية متكاملة للمباشرة، كمرحلة أولى، في تطبيق الدستور، وخصوصاً ما نصّت عليه المواد 22 و24 و95. ذلك يشكل محطة إجبارية نحو تحرير السلطة من القيد الطائفي الذي أدى استمراره، كما أشرنا، إلى بتر آلية الإصلاح من خلال تحويل المؤقت إلى دائم، وبالتالي إلى تعطيل وحدة القرار المركزي، ونشوء الدويلات، والتحاصص، ومنع المحاسبة... وإلى النهب والفساد والكوارث التي تطحن اللبنانيين، وتهدد بلدهم ومصيرهم جميعاً بالأسوأ. ستكون هذه المقاربة، بالضرورة، ذات دينامية مفتوحة على التقدم والتطور، ومؤهلة لإتاحة البحث في كل العناوين والمشكلات والإشكالات، وللتعاطي مع كل التحديات الماثلة والمحتملة استناداً إلى المصالح الحقيقية اللبنانية العليا.

* كاتب وسياسي لبناني