لا شك أن الدولة اللبنانية «دولة فاشلة» بالمطلق. ولا شك أيضاً أنها دولة تطورت تحت سلطة السرّاقين، أو حكم الرأسماليين اللصوص الذين جعلوا هذه الدولة دولة مفلسة. أفلست هذه الدولة القائمة على اقتصاد النهب الذي أدى إلى «جهنم»، الوعد الذي تحقق بامتياز. بالتالي، انقضَّت الدولة على رواتب موظفيها ومتقاعديها، المدنيين والأمنيين، و«صناديقهم» فالتهمتها. وتمت مصادرة الودائع المصرفية بمشاركة الدولة والمصرف المركزي وبقية المصارف التي صادرت الصناديق التقاعدية للنقابات وللضمان. وانهارت قيمة الليرة اللبنانية، وصار الجوع منتشراً لولا بقية من محسنين يلبّون جزئياً طلبات تسول اللبنانيين الذين سيتفاقم جوعهم تدريجاً. وارتفعت أسعار السلع، لا سيما الأدوية، وصارت الطبابة مقتصرة على المقتدرين. ولم يعد النقل متوافراً لغالبية الناس. وصار التعليم الرسمي، على المستويات كافة بلا أي قيمة علمية ومهنية. ولا شك أن معظم الفئات المتوسطة من اللبنانيين انحدرت سريعاً إلى مستوى الطبقات الكادحة. هذا فضلاً عن الضرائب الجديدة التي ترتفع بسرعة هائلة. وتصاعدت حركة الهجرة الشرعية والانتحارية في البحار.على الرغم من كل البؤس الهائل الذي أصاب اللبنانيين، لا سيما الطبقات الكادحة، من عمال وفلاحين وعاطلين من العمل، والفئات البرجوازية الصغيرة والوسطى، من جنود ومعلمين وموظفين، فلا تزال شتى أطراف الطبقة الرأسمالية المسيطرة، وهي المسؤولة عن كل ما أصاب الناس من انهيار، تحكم قبضتها على غالبية الجماهير وتتحكم بسلوكها بكل سهولة. فالغالبية الناشطة من اللبنانيين تصرح وتقف إلى جانب الطبقة الرأسمالية النهابة والسلابة، وترفض تلبية الدعوات إلى الاعتراض وإلى المطالبة باسترداد حقوقها وبمحاسبة المسؤولين عن الانهيار.
هذه الحال تدفع بالكثيرين من المناضلين، وحتى المثقفين، إلى الامتعاض الشديد من سلبية وخنوع الجماهير الكادحة والمتضررة، وتتوجه إليها بلوم قاس وبنعوت لا تليق بإنسانية البشر. ولكن دوافع هؤلاء الناقمين على استسلام الجماهير لا شك بأحقيتها وشرعيتها بصرف النظر عن تعابير توصيف السلوك المتخاذل والخائن لمصلحة الطبقات الكادحة والمظلومة.

إنّ حال استسلام الطبقات الكادحة والفئات المظلومة للطبقة البرجوازية المسيطرة، وبالتالي خضوع المظلومين للظالمين، تستلزم من قوى التغيير القيام بأمرين أساسيين: الأول، فهم أسباب ذلك الخضوع. والثاني، كيفية النضال لانتشال المستسلمين من واقعهم اليائس أو المتواطئ.
بداية نتساءل: كيف ولماذا تسيطر هذه البرجوازية اللبنانية الرأسمالية على رغم ما مارسته من ظلم بحق الجماهير الكادحة والخاضعة في الآن نفسه؟ ما العوامل التي تجعل سيطرتها ممكنة وتمنع تعريضها للرفض، بل يسود القبول بها. ولا شك أن أهم ما يلفت النظر في سيطرتها هو، بالضبط، القبول بهذه السيطرة من جانب الخاضعين لهذه الطبقة المسيطرة. وهذا ما يدفع بنا لتكرار ما يقول بورديو: «تكمن المشكلة في أن (هذا) النظام القائم لا يشكل في جوهره مشكلة»(1). بخاصة لأن هذا القبول بالسيطرة ليس ناجماً عن قمع تمارسه هذه الطبقة المسيطرة أو دولتها، باستخدام القوة المادية العادية أو المسلحة لمنع أو قمع أي اعتراض أو تمرد. في التقليد الماركسي، فإن جهاز الدولة هو «آلة» للقمع (الشرطة، والمحاكم، والسجون، والجيش إذا لزم الأمر) تسمح للطبقات المسيطرة بضمان سيطرتها. وهذا ما يقره ماكس فيبر، بقوله: «الدولة تحتكر بنجاح الاستخدام المشروع للعنف المادي في إقليم معين»(2).
ولكن القمع الذي مارسته الدولة (في لبنان)، أو الطبقة المسيطرة أو بعض أطرافها، لم يبلغ درجة منع الجماهير من الاعتراض. وهذا يستلزم وجود دوافع غير القمع المادي لتفسير حالة استمرار خضوع كتل الجماهير الشعبية للطبقة الرأسمالية المسيطرة. فالكثير من الكتل الشعبية ليست مؤيدة لسياسات الطبقة المسيطرة فحسب، ولكنها بالعكس ترفض مناهضتها، بل تدافع عنها وتعبر عن ثقتها بها وعن مشاعر محبتها. وذلك لدرجة تبدو معها هذه الجماهير الخاضعة كأنها سعيدة في سلوكها ومتواطئة مع الطبقة السائدة في خضوعها لهذه الطبقة. فلماذا تحصل هذه الحال؟ وما تفسيرها؟ لنستعرض بعض محاولات تفسير الخضوع للطبقات المسيطرة عبر التاريخ.

إيتيان دو لا بويسيه: العبودية الطوعية
في منتصف السبعينيات من القرن السادس عشر، نشر إيتيان دو لا بويسيه مؤلفه «مقالة العبودية الطوعية»(3) لعرض نموذج عن المسألة التي تعنينا: استسلام الناس وخضوعهم للحاكم الطاغية من دون قمع. فهو يقول:
«أود الآن أن أدرك فقط كيف أن عدداً من الناس، وعدداً من البلدات وعدداً من المدن وعدداً من الأمم، تعاني الأمرّين أحياناً على يد طاغية واحد، لا يملك من قوة سوى تلك التي يمنحونه إياها، والذي ما من قدرة لديه على الإضرار بهم إلاّ بمقدار ما يريدون هم أن يقاسوا. والذي ما كان بوسعه إلحاق أي أذى بهم لولا أنهم يفضلون تقبل كل شيء منه بدلاً من معارضته»(4).
ويضيف: «لكن، آه يا إلهي! ماذا يمكن لذلك أن يكون؟... أن ترى عدداً لا يُحصى من الناس، لا يطيعون فقط بل يخنعون، ولا يساسون بل يمتهنون»(5). وقبل أن يقترح دو لا بويسيه الحل للخروج من هذا الاستسلام، يسائل الجموع الخاضعة: «هل له سلطة عليكم إلاّ بكم؟ وكيف يجرؤ على الهجوم عليكم لو لم يكن على وفاق معكم؟ وأي أذى كان بوسعه لو لم تكونوا شركاء للص الذي يسرقكم ومتواطئين مع المجرم الذي يقتلكم وخونة حيال أنفسكم؟»(6).
ما الحل الذي يقترحه؟ «إنّ بوسعكم التخلص منه إذا ما سعيتم. لا تسعوا إلى التخلص منه بل أعربوا عن الرغبة في ذلك فقط. احزموا أمركم على التخلص نهائياً من الخنوع وها أنتم أحرار. أنا لا أريد منكم الإقدام على دفعه أو زحزحته، وإنما الكف عن دعمه فقط، ولسوف ترونه مثل تمثال عملاق نُزعت قاعدته من تحته، كيف يهوي بتأثير وزنه فيتحطم»(7). واضح أن دو لا بويسيه يلوم الجموع الخاضعة، ويتهمها بالتواطؤ وبخيانة نفسها. بينما المطلوب منها مجرد التخلي عن الطاغية، وعدم دعمه، ليسقط من تلقاء نفسه. ومع ذلك فهم لا يفعلون! ألا ينطبق منطق دو لا بويسيه على واقع خضوع الجماهير الشعبية لسيطرة البرجوازية اللبنانية؟

ديفيد هيوم: الرأي (الفكر) سبب الخضوع
يستهل دِيفيد هيوم كلامه في مؤلفه «المبادئ الأولى للحكم» (1752) بقوله: «لا شيء يبدو أكثر إثارة للدهشة بالنسبة لأولئك الذين يفكرون الأشياء البشرية بعين فلسفية، من أن يروا السهولة التي تحكم بها الأقلية الكثرة من الناس، والخضوع المتواضع الذي بموجبه تضحي غالبية الناس بمشاعرها وميولها لمصلحة مشاعر وميول القادة. ما سبب هذه الأعجوبة؟ إنها ليست القوة؛ فالرعايا دائماً هم الأقوى. لذلك لا بد إلا أن يكون الرأي (أو الفكر) هو السبب. ولقد تأسست كل الحكومات استناداً إلى الرأي (الفكر)، من الأكثر استبداداً والأكثر عسكرية، إلى الأكثر شعبية والأكثر حرية»(8).
ويضيف أنه «ثمة نوعان من الرأي: رأي المصلحة ورأي القانون... بعبارة المصلحة، أعني الشعور بالمنفعة العامة، التي يمكن للحكومة عموماً توفيرها، هذا بالإضافة إلى القناعة بأن الحكومة، التي نعيش في ظلها، تثبت أن أي حكومة أخرى يمكنها فعل ذلك. عندما يسود هذا الرأي في الدولة، أو على الأقل بين أولئك الذين يصنعون قوة الدولة، يوفر أكبر قدر من الأمن للقادة»(9). مع فكرة «الأمن للقادة» تبدأ في الظهور الحاجة إلى مسألة تعبئة رعايا الدولة، المواطنين، للقبول أو للانخراط في اشتغال الدولة(10).
وهذا ما يطرح على بساط البحث موضوع سيطرة الدولة وعلاقتها بالرأي (كما يرى هيوم)، أي علاقتها بالأفكار، أو الوعي، أو دور الوعي في توفير أو تسهيل سيطرة الدولة والطبقات السائدة على الجماهير الشعبية الخاضعة.
في حين أن فهم الآليات الدقيقة التي بها يشتغل التدجين الطائفي يهم المثقف في المقام الأول، فإن أدوات مقاومة هذا التدجين موجهة إلى الجميع


نيتشه: تدجين الحيوان البشري Domestication
عمدت الفلسفة والعلوم الاجتماعية الحديثة، منذ القرن التاسع عشر، ومع تطور الرأسمالية المتصاعد، إلى اعتبار أن خضوع البشر لاستبداد الطاغية أو الدولة يتم عبر عملية تدجين Domestication شبيهة تماماً بتدجين الحيوانات البرية. ولعل نيتشه من أول من استخدم مفهوم التدجين لتفسير خضوع البشر. فهو يقول في مؤلفه «نهاية الأصنام»: «لطالما كان هناك من أراد "تحسين" العرق البشري: وهذا، قبل كل شيء، هو ما سُمي الأخلاق. ولكن تحت نفس كلمة "الأخلاق" هذه يتم إخفاء الميول الأكثر اختلافاً. إن تدجين الحيوان البشري، تماماً مثل تربية (في المزرعة) نوع معين من البشر، يسمى "تحسين": فهذه المصطلحات الحيوانية تعبر وحدها عن الحقائق -لكن هذه حقائق لا يعرف عنها "المُحَسِّن" النموذج، الكاهن، شيئاً ولا يريد أن يعرف شيئاً عنها- أن نطلق على تدجين حيوان ما عبارة "تحسين" هو، في نظرنا، مزحة تقريباً... مَن يدري ما يجري في مزارع الحيوانات، لكني أشك في أن الحيوان "تحسن" هناك. بل يتم إضعافه، وجعله أقل خطورة، من خلال الشعور بالاكتئاب، بالخوف، بالألم وبالجروح وبذلك نجعل الوحش مريضاً - لا يختلف الأمر مع الإنسان المروَّض الذي جعله الكاهن "أفضل"»(11).
وفي مقال سابق، «تأصيل الأخلاق»، يقول نيتشه: «هل نعني بهذا أن مثل هذا النظام (التربية) قد جعل الإنسان أفضل، لن أعارض هذا الكلام: لكنني أضيف أنه بالنسبة لي، إن جعل الإنسان "أفضل" يعني "تدجين"، "إضعاف"، "تثبيط"، "تخنيث" (فالتحسين يكون بالتالي مرادفاً للحط من القدرة...)»(12). نظرية نيتشه في التدجين تعني عمل المسيطرين (الطبقة-الدولة) على إخضاع المواطنين بإضعافهم وتسهيل التحكم بهم والسيطرة عليهم. والمجال الأساسي لتدجين البشر هو التحكم بوعيهم بالتحديد. وبشكل خاص عبر الفكر الديني، ومن هنا اعتبار نيتشه أن المُدَجِّن النموذجي، «المُحَسِّن»، هو الكاهن. أليست الطائفية، في لبنان، هي تفعيل الفكر الديني للحط من إنسانية اللبناني وإدخاله في أقفاص الطائفية بدل ولوجه إلى رحاب المواطنة؟

ماكس فيبر: تدجين الخاضِعين Domestication des dominés
مفهوم التدجين استمده ماكس فيبر من نيتشه(13). في مؤلفه «سوسيولوجيا الأديان» تحدّث فيبر عن «تدجين الخاضعين» و«تدجين الجماهير»(14).
بالطبع «الخاضعون» و«الجماهير» عبارتان تعنيان الطبقات الشعبية الكادحة (لا سيما البروليتاريا) التي تسيطر عليها الطبقة الرأسمالية، من خلال الدولة، وبالتحديد، من خلال «أجهزة الدولة الأيديولوجية» على حد تعبير ألتوسير. ما هي هذه «السيطرة» التي تحققها وتمارسها الطبقة الرأسمالية؟ وكيف تتفاعل السيطرة مع الخاضعين في سياق التدجين؟ يقول فيبر في تعريفه النهائي للسيطرة، في مؤلفه الحامل لنفس الاسم «السيطرة» la domination: «نعني بـ"السيطرة" حقيقة أن إرادة معلنة (الأمر) لـ"مسيطِر أو مسيطِرين" تبغي التأثير على فعل الآخر (الخاضع أو الخاضعين) والتأثير فيه بشكل فعال، بحيث أن هذا الفعل يحصل، إلى حد كبير من وجهة نظر اجتماعية، كما لو أن الخاضعين قد جعلوا من محتوى هذا الأمر، مبدأ فعلهم (طاعة)»(15). معنى ذلك أن الخاضعين استدخلوا في وعيهم مشروعية «الأمر»، أي إرادة المسيطِرين، وعليه بنوا سلوكهم في الخضوع لهم. كأن هذا التعريف يصف السيطرة على الجماهير الشعبية اللبنانية الخاضعة حالياً. أمّا «التدجين» الفيبري للجماهير الشعبية الخاضعة فهو، كما جاء في القسم الأخير من مؤلف فيبر (السيطرة)، وهو بعنوان «الدولة والسلطة الروحية»، نتيجة تحالف الاندماج بين السلطتين السياسية والدينية: «جعل تحالف السلطتين أداة تدجين الخاضعين».
هنا يلتقي ماكس فيبر بالماركسية (ماركس-أنغلز) (16) لجهة أن الطبقة المسيطرة (الطبقة الرأسمالية) تفرض على الجماهير الخاضعة (البروليتاريا تحديداً) فكرها، أو وعيها، وأنماط السلوك المرتبطة بهذا الفكر. «إن أفكار الطبقة السائدة هي في كل عصر الأفكار السائدة أيضاً، يعني أن الطبقة التي هي القوة المادية السائدة في المجتمع هي في الوقت ذاته القوة الفكرية السائدة. إن الطبقة التي تتصرف بوسائط الإنتاج المادي تملك في الوقت ذاته الإشراف على وسائط الإنتاج الفكري، بحيث أن أفكار أولئك الذين يفتقرون إلى وسائط الإنتاج الذهني تخضع من جراء ذلك لهذه الطبقة السائدة. ليست الأفكار السائدة شيئاً آخر سوى التعبير المثالي عن العلاقات التي تجعل الطبقة الواحدة طبقة سائدة؛ وبكلام آخر، فهي أفكار سيطرتها»(17).
ويعتبر الماركسي لوكاش أن أفكار الطبقة المسيطرة المفروضة على الخاضعين هي، عملياً، بالنسبة لهم، مجرد «وعي خاطئ» يتطبع به (بمفهوم فيبر وغيره: يتدجّن به) الخاضعون، ما يشكل عقبة رئيسية بوجه التمرد والاعتراض. فـ«الوعي الخاطئ» يتعارض مع «الوعي الطبقي المفترض» الذي يعرِّفه لوكاش بمثابة «الأفكار والمشاعر، وإلخ. التي يمتلكها الناس، في ظرف معين، فيما لو كانوا قادرين على إدراك هذا الظرف بمجمله، وكذلك المصالح الناجمة عنه، والمتعلقة في نفس الآن بالفعل المباشر وببنية المجتمع المطابق لهذه المصالح»(18).

بيار بورديو: تدجين المقهورين-جدلية الانضباط والإحسان
في سياق بحثه في نشوء الدولة الحديثة (دولة الطبقة البرجوازية- الرأسمالية) يطرح بورديو موضوعة الدولة كنظرية لدمج الخاضعين في جسم الأمة والدولة. يرى بورديو أن بناء الدولة ينطوي على بناء الأمة. والأمة يجب أن تضم طبقات وفئات الشعب كافة. فهو يتساءل (بخصوص بناء الأمة الفرنسية، مثلاً): «ما العمل بحيث يصبح "الشعب"، بمعنى الطبقة الشعبية، جزءاً من "الشعب الفرنسي"؟»(19). المقصود بعبارة «الطبقة الشعبية» البروليتاريا وسائر الطبقات والفئات الكادحة. ويعتبر أن «صنع الدولة» و«صنع الأمة» يستلزمان أولاً: «إدارة نتائج التداخل والارتهان المتبادل بين المسيطِرين والمسيطَر عليهم»(20). ويستلزمان ثانياً تفهم ومعالجة حقيقة أن «المقهورين خطرون أيضاً لأنهم يُعبّأون ويُستنفرون، لأنهم يحتجون، لأنهم يقومون بانتفاضات جوع، لأنهم يهددون... الأمن الجماعي والنظام العمومي أيضاً»(21).
يتحدّث بورديو عن الخاضعين باعتبارهم الطبقات الخطرة، وبالتالي فجزء من عمل الدولة موجه نحو هذه الطبقات الخطرة التي ينبغي ترويضها عبر إدخالها في لعبة السلطة والدولة، بغرض تفادي خطرها. يتصور بورديو الصراعات وهي قاطرات التاريخ على أنها نضالات تكاملية: يحصل الخاضعون على حقوق معترف بها للجميع في المجتمع في إطار الدولة القومية. وبالتالي يمكن اعتبار تاريخ الدولة كتاريخ لتحصيل تدريجي للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية لمصلحة الخاضعين... كما هي الحال في «دولة الرفاهية» أو «دولة الرعاية».
تحصيل هذه الحقوق وسيلة للحفاظ على سيطرة الطبقات المسيطرة، وسيلة لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية. ولكن، عندما تكون المكتسبات التي حصلت عليها الطبقات الكادحة تنازلات قدمتها الطبقة السائدة فإلى أي مدى ستستمر لعبة التنازل (من جهة الطبقات المسيطِرة) والتحصيل (من جانب الخاضعين)؟ إن «دولة الرفاه»، أو «دولة الرعاية» هي نتيجة هذا الخيار القلق باستمرار، الذي استمر على مدى السنوات الثلاثين «المظفرة» بعد الحرب العالمية الثانية. وعليه، ما كانت الدولة لتنهض وتقوم لو كانت تدجيناً فحسب: فهي أيضاً معونة (حقوق مكتسبة، أو إحسان).

مفهوم التدجين استمده ماكس فيبر من نيتشه. في مؤلفه «سوسيولوجيا الأديان» تحدّث فيبر عن «تدجين الخاضعين» و«تدجين الجماهير»


في لبنان... خاضعون مدجنون برعاية المقدسات الطائفية
لم تكتفِ الدولة والطبقة السائدة في لبنان بنهب المال العام، ومال المودعين في المصارف ومدخرات صناديق التقاعد والتعاضد والضمان الاجتماعي وسواه، وبالتمهيد لنهب ما بقي من مؤسسات وعقارات وطنية عامة. ومع ذلك فتدجين الطبقات الشعبية يسري بكل نجاح، مع إلغاء الحقوق المكتسبة المعادل لإلغاء إحسان الدولة، وإلقاء المواطنين فريسة التسول الرسمي والخاص، وفريسة الجوع والموت. ففي نظام الدولة الطائفية تم إدراج الكادحين في أحزاب الطوائف الأربع (المسيحية السياسية: التيار العوني، حزب القوات-جعجع، بقايا كتائب أمين الجميل. الشيعية السياسية: حركة أمل، حزب الله. الدرزية السياسية: الحزب الاشتراكي الجنبلاطي. السنية السياسية: مجموعات حزب المستقبل– الحريري، الميقاتي،...). مع غياب أحزاب المعارضة الجذرية من شيوعية وقومية وديموقراطية، واتجاهها السريع نحو اضمحلال حضورها الشعبي وفعاليتها النضالية.
وعبر هذه الأحزاب/الأقفاص الطائفية تمارس الطبقة الرأسمالية المسيطِرة سلطتها على جماهير الطوائف المُدَجَّنَة. فكل حزب طائفي زرع في رؤوس أعضائه براءة -بل قل قدسية قيادته- وشيطنة قيادات الأحزاب الأخرى. ويتم ذلك لهذه الأحزاب عبر، أولاً، شبكة من أزلام الأحزاب المأجورين من المال العام كموظفين يحتلون في الدولة حصة الطائفة في غنيمة السلطة، أو المأجورين من شبكات الرأسمالية الحزبية، أو المأجورين من التهريب ومخالفة القوانين. ثانياً، عبر شبكة من المؤسسات الإعلامية (فضائيات، إذاعات، جرائد ومجلات ونشرات...) تحتكر الإعلام الرسمي بمنع الترخيص لوسائل الإعلام، أو بمطاردة الإعلام الحر بكل الوسائل «المقوننة» وبمعونة القضاء.

مواجهة التدجين الطائفي
في حين أن فهم الآليات الدقيقة التي بها يشتغل التدجين الطائفي يهم المثقف في المقام الأول، فإن أدوات مقاومة هذا التدجين موجهة إلى الجميع. وهنا بوسعنا رسم بعض التوجهات لمقاومة هذا التدجين. الأول منها فكري. وهو يكمن في عملية إخضاع نقدي للأفكار والوقائع الاجتماعية التي يتم تداولها باعتبارها بديهيات، كقولنا إن الطائفية واقع تاريخي ولا يزال قائماً. أو أن الطائفية واحد من مظاهر الأمور الطبيعية. يهدف جهد النقد هنا إلى توضيح واقع الصراعات داخل الطائفة الواحدة، من جهة، وإيضاح واقع التوافقات بين الطوائف على تقاسم المغانم (المحاصصة) والمشاركة العضوية في عمليات الفساد، فأطراف الطبقة المسيطرة هي دوماً «متحالفة-متخالفة». تتحالف في الفساد واقتسام الغنائم، وتتخالف في مساعي الهيمنة في السلطة وفي العلاقات الخارجية.
المسار الثاني للمقاومة الذي نقترحه يكمن في النضال في وسط طبقات الخاضعين، عن طريق المثقفين العضويين، الذين يتقنون أدوات التعبير العام والنقد الضروري لأي عمل جماعي. إذا كان لهذا المسار فاعلية سياسية معينة، فلن يكون ممكناً إلا استناداً لتصورات وأعمال غرامشي باتجاه بناء كتلة شعبية وازنة.
المسار الثالث الذي ندعو إليه، هو العمل على توحيد ما بقي من القوى اليسارية والتقدمية، وذلك على أساس تحرير المنظمات الحزبية الشيوعية من الفساد المسيطر في صفوفها من القيادة إلى القاعدة. ولا بد من البدء بورشة نقد علني لـ«أمية» العديد من الرفاق الشيوعيين الذين يحتلّون مواقع قيادية يعطلون بأميتهم وكسلهم وانتهازيتهم دورها.
في النقاش حول مقولة هيغل (من مؤلفه «فلسفة الحق») «كل ما هو واقع هو معقول، وكل ما هو معقول هو واقع»، يرى أنغلز هذه المقولة المطبقة على الدولة البروسية تعني أن «هذه الدولة معقولة وتناسب العقل، بقدر ما هي ضرورية. وإذا كانت مع ذلك، في نظرنا، فاسدة، ولكنها تستمر في الوجود، بالرغم من فسادها، ففساد الحكومة يجد تبريراً وتفسيراً في فساد الرعايا. فإن البروسيين في ذلك العهد كانت لهم حكومة يستحقونها»(22)!

*كاتب لبناني

مراجع وهوامش

(1) Pierre Bourdieu Méditations pascaliennes, Éditions du Seuil, Paris, 1997, p. 213.
(2) Max Weber, Le Savant et le politique, Paris, UGE, 1963, p. 29.
(3) دو لا بويسيه، إيتيان: مقالة العبودية الطوعية، ترجمة عبود كاسوحة، مراجعة جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، كانون الأول 2008. ظهر باللاتينية عام 1574، وبالفرنسية عام 1576.
(4) المرجع السابق، ص 146-147.
(5) المرجع السابق، ص 148.
(6) المرجع السابق، ص 153.
(7) المرجع السابق، ص 154.
(8) David Hume, Essais moraux, politiques et littéraires, Les premiers principes du gouvernement (1752), Édition complétée le 25 juillet 2002 à chicoutimi, Québec. Avec l’autorisation de M. Philippe Folliot., p 3.
(9) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(10) ثمة تقليد في الفلسفة الاجتماعية الفرنسية أيضاً بدأ مع أوغست كونت يؤكد أن «كل الأوالية الاجتماعية تستند في النهاية إلى الآراء». راجع: Comte, Auguste: Cours de philosophie positive, 1ère leçon (1830), Paris, Nathan, 1989, p. 51.
(11) Friedrich Nietzsche, Œuvres complètes, ARVENSA ÉDITIONS, La référence des éditions numériques des œuvres classiques en langue française www.arvensa.com, p 5927.
(12) المرجع السابق، ص 5675.
(13) هناك من اعتبر ماكس فيبر «منفذ وصية» نيتشه exécuteur testamentaire de Nietzsche. المرجع: «Max Weber sur les traces de Nietzsche? Dans Revue française de sociologie 2005/4 (Vol. 46), p. 807.
(14) Max Weber, Sociologie des religions, Gallimard, Paris, 1996. domestication des dominés p. 271. domestication des masses p. 391.
(15) Max Weber, La domination, Paris, La Découverte, 2013, p. 49.
(16) يقول بيار بورديو: «اختصاصيو ماكس فيبر لا يقرأون الرجل قراءة جادة. كان ماكس فيبر سلاحهم الأكبر ضد كارل ماركس، في حين أن فيبر كان يقول عن نفسه أنه ماركسي، الأمر الذي يشوش الماركسيين بقدر ما يزعج (الفيبريين)». في: بيار بورديو، عن الدولة، دروس في الكوليج دو فرانس (1989- 1992)، ترجمة نصير مروة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر- بيروت، الطبعة الأولى، أيلول 2016، ص 604.
(17) كارل ماركس، فريدريك أنغلز، الإيديولوجية الألمانية، ترجمة د. فؤاد أيوب، دار دمشق، 1976، ص 56.
(18) Gyorgy Lukàcs, Histoire et conscience de classe (1922), Édition électronique complétée le 19 janvier 2003 à Chicoutimi, Québec. P. 61.
(19) بيار بورديو، عن الدولة، مرجع سابق، ص 602.
(20) المرجع السابق، ص 606.
(21) المرجع السابق، ص 607.
(22) فريدريك أنغلز، لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، في ماركس-أنغلز مختارات في أربعة أجزاء، الجزء الرابع، دار التقدم، موسكو، 1970، ص 10.