بعيداً ممّا نحمله من أمنيات، أو نركن إلى الدعاء أملاً بتحقيقه، ومن دون استدعاء لما نؤمن به من عقائد، وبعيداً أيضاً من المتغيرات والتحولات في المنطقة، ومنها تشكّل محور المقاومة ومنجزاته، بمعنى الرؤية إلى داخل الكيان منفصلاً عن الخارج المحيط، ثمّة ظواهر تطفو على سطح المشهد داخل «المجتمع الإسرائيلي»، إذا صح أن نسميه مجتمعاً. وما سنقاربه هنا هو محاولة تصنيف هذه الظواهر وتأصيلها بغية رسم صورة لمآلاتها في سياق منطقي عقلي، ومن دون إسقاطات ترتبط بما نحب ونتمنى، وهي ظواهر لانقسامٍ عميق تمثّل هشاشة البنية المجتمعية، وذلك ربطا بـ«أصول» هذا الكيان و«مبادئه». في الحقيقة، إنّ هذا الانقسام يأخذ أشكالاً شتى، ويتمظهر في صور مختلفة، منها ما هو أيديولوجي-عقدي، ومنها ما هو جغرافي، ومنها ما هو إثني وعرقي، أو طبقي، وثمة انقسام سلوكي من حيث دوافعه وغاياته، وكثيراً ما يكون الانقسام داخل الانقسام، كما سنرى في المتدينين أنفسهم، أو العلمانيين. ولعلنا سنجد أن الأحزاب والحركات في الكيان، تشكّلت وفاق هذه الانقسامات، لذا فمظاهر الانقسام السياسي هي في حقيقتها مرتبطة بالانقسامات والصراعات الآنفة. علماً أن الإسرائيلي يحاول أن يقدّمها مغلفة بغلاف صلاحيات حيناً، وديموقراطية حيناً آخر، على أني ومن خارج السياق، ألفتُ إلى أنّ هناك ظواهر أخرى ذات أبعاد مافيوية أو فساد تديرها العائلات وهي امتداد لمافيات الغرب أغفلتها في المقاربة.

الانقسام العرقي-الجغرافي
وهو بين الأشكناز (يهود الغرب) والسفارديم، (يهود الشرق)، مضافاً إليه الانقسام بين الأشكناز والفلاشا (يهود الحبشة)، وقد أخذ بعداً أيديولوجياً طبقياً، فالأشكناز هم الطبقة العليا، التي تتمتع بالغنى والهيمنة على المؤسسات السياسية والاجتماعية (مثلاً كل رؤساء الوزراء الإسرائيليين من الأشكناز، حتى أن كل صور الشخصيات المطبوعة على الأوراق المالية الإسرائيلية هم أشكناز فقط)، وهم الأكثر حصولاً على الأجور المرتفعة (راتب الأشكناز يفوق رواتب اليهود الشرقيين بنسبة 42%)، ويمتازون على مستوى التعليم والصحة (أكثر من 80% من حملة الدكتوراه أشكناز). حتى أن التوزع الديموغرافي ارتكز إلى هذه الثنائية، فولّد انقساماً جديداً لا يزال يغذي الصراع، حيث يسيطر الأشكناز على الأحياء الراقية من عاصمة الاحتلال، بينما توزع السفارديم في الأجزاء الجنوبية الفقيرة منها، والتي سُمّيت بـ«تشايبر»، أي البدائية والهمجية. وقد حفرت الطبقية عميقاً في الوجدان الإسرائيلي فكان للأشكناز سيادة معنوية، فيما يمثل السفارديم طبقة الخدم، ومن جهة الفلاشا فكل الأرقام المتعلقة بالتعليم والصحة والمساعدات الاجتماعية والعمل تثبت التمييز الطبقي والسلوك العنصري تجاههم. ومما لا شك فيه أن الإسرائيليين أنفسهم يدركون هذا الواقع أيما إدراك، ولطالما فصلوا في مظاهره، وحذروا من مآلات الصراع التي تحمل خطراً وجودياً. يقول بني غانتس، في كلمته أمام «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب: «أجيب من دون تردد، إنّ إسرائيل هي الخطر الأكبر على نفسها؛ أكبر التحديات التي تواجهها هي التربية والتعليم والانقسامات في المجتمع وعدم المساواة». وكما ورد مثالاً في خطاب رئيس الكيان رؤوفين ريفلين عام 2015، والذي عرف بعنوان «النظام الإسرائيلي الجديد»، تحذير من تغير «بنية المجتمع الإسرائيلي»، ومن أن الأنظمة الأساسية التي تصيغ الوعي وتصنع القرار، هي «أنظمة قبلية وانفصالية ويبدو أنها ستستمر». وفي كتابه «بين الأمة والدين»، يذكر المؤرخ الإسرائيلي موشي زيمرمان، أن ثمة صراعاً واضحاً بين يهوديتين: اليهودية التي جاءت إلى فلسطين من العالم المسيحي، وتلك التي جاءت إليه متأثرة بالمجتمعات الإسلامية. وفي ذلك إشارة إلى صراع من نوع آخر، وهو الصراع التشريعي الموجود بين المتدينين أنفسهم.

الانقسام بين المتدينين والعلمانيين
وهو الصورة الظاهرة لانقسام عميق، له بعد أيديولوجي- عقدي، مرتبط بنصوص توراتية، والجدير بالذكر أن لهذا الانقسام جذوراً تمتد إلى ما قبل قيام دولة الاحتلال، وقد ظهر مع ظهور الحركة الصهيونية. فكثير من اليهود المتدينين رفضوا الفكر الصهيوني منذ بدايته، بوصفه حركة علمانية، تخالف اعتقادهم في مملكة إسرائيل التي سيُقيمها لهم «الماشيح» المنتظر. وأن كل محاولة بشرية لإقامة دولة يهودية، إنما هي كفر وشذوذ عن الطريقة التقليدية اليهودية المعروفة، وخيانة لمعنى الوعد. والمتأمل في واقع الانقسام تظهر له حقائق مذهلة لجهة عمق الخلاف في الرؤية إلى الدولة اليهودية ارتكازاً إلى مستندات توراتية، ويتعزز هذا الانقسام يوماً بعد يوم، وهم يرون أن الصهيونية عبارة عن حركة علمانية تضم كفاراً بالدين، يهدفون إلى إقامة دولة علمانية تتعارض مع أسس اليهودية التي تعتقد أن المسيح المنتظر والمنقذ (المخلص) لم يأت بعد، وهو من سيجمع الشتات اليهودي، وأن إقامة الدولة هي تقريب موعد الخلاص، وهذا مخالف للأصول، وهو خطيئة مطلقة. ويرتكزون إلى نصوص ونبوءات منها ما أورده الحاخام شمعون بن يوحاي في كتابه «الزوهار» (عاش في القرن الثاني الميلادي): «يأتون من أرضٍ بعيدة إلى جبل إسرائيل العالي، ينقضون على الهيكل ويطفئون الأنوار، يعبرون فلسطين ناشرين الدمار الكامل ولا تخلص إسرائيل، وكل من صودف طعن، وكل من وقع أخذ بالسيف، وكل من يتلو اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا يقتل، وسيهرب بنو إسرائيل حتى سهل أريحا ثم يأتي أبناء أشور(1). فيدمرون إسرائيل». ومنها قصيدة «كسرات الغنيزا» التي تشكل نبوءة يهودية قديمة، «سوف يتحارب الآدوميون (الروم) والإسماعيليون (المسلمون) في عكا حتى تغوص الخيل في الدم، سوف ترجم غزة وبناتها، وتضرب عسقلون وأشدود بالرعب».
والمتدينون، بدورهم، ينقسمون إلى أقسام: الحراديين أو غلاة الأرثوذكسية، أو اليهودية الحريدية، «مجتمع الدارسين»، «الحَسيديم»، وغيرهم من الفرق والمذاهب والطرق التي تدل بشكل مذهل على حجم التوزعات والاصطفافات والانقسامات على مبادئ وأصول، وليس انقساماً صورياً فحسب، ووفاق تعريف المحكمة العليا «هم يهود يحافظون على تنفيذ الفرائض الدينية، ويتميزون بتشددهم في أساليب التعليم وطبيعة مجتمعهم ونمط حياتهم، الذي يميزهم عن بقية اليهود المتدينين. وهم الذين انتهجوا استراتيجية العزلة للحفاظ على التراث اليهودي»، حتى أنهم لا يتحدثون بالعبرية لأنه بحسب اعتقادهم أن الوقت لم يحن، ما دام المسيح المنتظر لم يأت بعد. يقول الناطق الرسمي باسم حركة «ناطوري كارتا» ديفد وايز: «التوراة تقول إن من يقف ضد إرادة الله لن ينجح، وهذه (الدولة) سوف تنتهي لأنها عبارة عن عمل تمرد ضد ما حرمه الله وحظره». وهذا ما عزز النظر إليهم بوصفهم عبئاً، وأنّ منهم من باتوا منتشرين في الاتجاهات المعادية للصهيونيّة، وبالنسبة لهم فإنّ إسرائيل في طريقها للخسارة، وإنّ «إسرائيل لن تبقى للجيل المقبل»، بحسب ما يذهب إليه كثير من الحاخامات والنخب من سياسيين ومفكرين ومؤرخين وإعلاميين، منهم المؤرّخ الصهيوني المتطرّف بيني موريس، منظّر المؤرخين الجدد، والسياسي أبراهام بورغ، والكاتب إبراهام تيروش، وغيرهم. ويمثّل الفئة الثانية المتدينون الصهاينة، الأكثر انخراطاً في المجتمع اليهودي، وهم يؤيدون النشاط الصهيوني للدولة. ومنهم حركة «غوش أمونيم»، أمّا العلمانيون الذين كانوا يمثلون المشروع الصهيوني وهو ركيزة الكيان، فإن الإحصاءات تشير إلى أن نسبتهم انخفضت من 82% عشية قيام الكيان، إلى 42% بعد أكثر من ستة عقود. بينما زادت نسبة الحريديم والمتدينين والمحافظين من 18% إلى 58% في الفترة نفسها. يقول أوري أفنيري: «يعيش هنا شعبان، لا يفصل بينهما فقط اللباس وطريقة الحديث، وإنما كل شيء تقريباً: الإحساس بالانتماء، منظومة القيم، والخلفية الاجتماعية، يجب الاعتراف بحقيقة وجود شعبين هنا». والمتأمّل في هذا الواقع يقوده تأمّله إلى مجموعة من البنى المؤسسة لخلاصة مفادها الانقسام العميق الذي يطاول كل المرتكزات، ومرجعيته الانقسام في الرؤيا والجوهر، لا الأعراض.

الانقسام الفقهي-التشريعي
إنّ الصراع التشريعي يأخذ بعدين اثنين: الأوّل الصراع بين فقهاء اليهود تاريخياً، والذي يأخذ داخل الكيان الإسرائيلي أشكالاً متعددة، ومنها رفض قوانين الدولة بوصفها مخالفة للتوراة، وهذا استمرار للانقسام التاريخي بين الفرق والمذاهب (الصدوقيين والسامريين والأسينيين والقرائين) التي توغل في الاختلاف إلى حد التناقض في المرتكزات الكبرى لليهود، في الأصول والفروع على حد سواء، ما دفع الحاخام هيرش جاكوب إلى القول: «لم يوجد مجال واحد لم يختلف فيه الفريقان»، ما يوحي بأن كل فرقة لها دين مستقل عن الأخرى. لأن طبيعتها تراكمية تضم عناصر عدة متناقضة متعايشة من دون تمازج أو انصهار، ولذا تجد كل فرقة تتجه إلى تشريعات بحسب هذه الطبيعة، تغلفها بغلاف الإقرار الإلهي أحياناً، كـ«الفريسيين» وهي طائفة الفقهاء الدينيين الذين كانوا إذا اختلفوا في مسـألة فقهيـة، زعموا أن الله يوحي إليهم بصوت يسمعه جمهورهم، يقول: الحق في هذه المسألة مـع الفقيـه فلان، وهم القائلون بأقوال الأحبار، ومذاهبهم، وهم جمهور اليهود. وللعلم، فإن اليهودية الأرثوذكسية(2) امتداد لليهودية الفريسية(3)، والعلاقة بين اليهودية الأرثوذكسية والصهيونية في الوقت الحاضر علاقة وطيدة، فالصهيونية هي التي أسست حركة «مزراح» الأرثوذكسية، كما أن الأرثوذكس أعضاء في المنظمة الصهيونية العالمية، ولكن هذه العلاقة مرحلية مصلحية، لأن الحقيقة هي الصراع ما بين اليهودية والصهيونية بوصفها حركة علمانية، وهو تكتيك لفرض المنظومة التي يحملونها على المستوى الأيديولوجي. وتجدر الإشارة إلى غلبة السفارديم الشرقيين في البحث الديني، ذلك أن غالبية المنظرين التاريخيين لليهودية هم من الشرقيين، وقد تأثرت دراساتهم الدينية بمناهج البحث لدى المسلمين. والبعد الثاني هو موقف المتدينين من الدولة أولاً، ومن قوانينها ثانياً، وفي حال تجاوز الدولة فالكلام حول القوانين لا يزال محل انقسام لجهة الالتزام بالقوانين التوراتية ليس غير. من هنا نفسر أحداث جبل ميرون عام 2021 مثالاً، لأنهم لا يأتمرون إلا لزعيمهم الدينيّ، ولا يرضخون للسلطة المتمثلة تاريخياً بالعلمانيين، وأيضاً رفض «الحريديم» الامتثال إلى أوامر الإغلاق الحكوميّ، حيث انتشروا في الشوارع والأماكن العامة ولم يكفّوا عن تنظيم التجمّعات في مناسباتهم الخاصّة، قائلين إنّ «الله والمسيح المنتظر سينجيانهم من الفيروس كورونا، وليس دولة الكفر العلمانيّ».
انتقال «الحريديم» من العزلة إلى المشاركة السياسية، لا يحمل في تلافيفه قوة الكيان، بقدر ما يبشر باقتراب دخول الصراع دائرة الاقتتال الداخلي


الانقسام الحضاري
عندما نتحدّث على انقسام حضاري، فإنّ الحديث يرتبط، فضلاً عن الثقافة، بالعادات والتقاليد وطرائق العيش، وصولاً إلى اللباس وعادات المأكل والمشرب، وبقية المرتكزات التي تدخل كمقوم للحضارة بمعناها الاصطلاحي، هي «المنجز البشري بشقيه السلوكي والمعرفي». ولذلك، وبعد أن سلطنا الضوء على الانقسامات المعرفية التي لها علاقة بالأيديولوجيا والعقائد، والسلوك المعرفي، نشير إلى انقسامات وصراعات داخل كل مكون في الكيان، تمتد إلى السلوك الفردي، حتى على مستوى اللباس والعادات والتقاليد. لذلك يصح أن ننظر إلى المكونات بوصفها صورة مجتمع لا أكثر، «تحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ». وحقيقته فهي أنه مجموعة مكونات متصارعة بشكل عميق، لا تحمل إمكانية الاندماج، بالإضافة إلى أن واقعها المنقسم لا يحمل إرادة الاندماج، ولذلك فإن الصراع هو الحاكم، وهذا ما يفسر اتجاه كل مكون إلى فرض خصوصيته ومشروعه الخاص المرتكز إلى خلفيته على المكون الآخر، فالمسار بينها إحلالي إلغائي، وليس مساراً تكاملياً، حتى على المستوى السياسي. من هنا نفهم انقسام سلوكيات هذه المكونات من حيث الالتزام بالقوانين، أو طرائق التعليم ومناهجه، أو اللباس، وطرائق العيش المختلفة.

اليهودية والديموقراطية: اجتماع المرحلة الجزئي وحتمية الصراع
ما ينبغي الانطلاق منه لفهم الواقع الحالي في تلاقي بعض مكونات الداخل الإسرائيلي المحتل مع النظام الديموقراطي في جغرافيا واحدة، هو قراءة طبيعة ما يعبر عنه بأزمة الهوية، وأزمة القومية لهذا الكيان، ارتكازاً إلى الانقسامات الآنفة الذكر، والإصرار على قانون القومية الذي أُقِرّ عام 2018، جاء على خلفية هذه الأزمة. إنّ من مسلمات البحث القول إنّ شرعية النظام الديموقراطي مرفوضة بالنسبة لغالبية مكونات «مجتمع» الكيان، ليس بسبب المضامين التي تتميز بها الديموقراطية، إنما لطرحها منظومة قيم شاملة بديلة عن الشريعة اليهودية كمصدر شرعي وحيد لإدارة الحياة العامة اليهودية، فهي تتنافى مع الديموقراطية المرتكزة إلى حكم الشعب، الحرية، واحترام حقوق الإنسان، والاعتراف بالآخر، وغيرها من المفاهيم. ولعل هذا ما دفع ألبرت أينشتاين نفسه إلى القول: «إنّ ما لديّ من وعي بطبيعة اليهودية وجوهرها يصطدم بفكرة إنشاء دولة يهودية مُخصَّصة». ولذلك، وبصرف النظر عن موقف المتدينين الذين يمارسون سلوكية الصراع مع الدولة، فإن من اتفق معها -مرحلياً- من مكونات اليهودية الأرثوذكسية، لا بد من أن يصل إلى نقطة تأزم، وهو ما يحدث حالياً، ويحمل معه تباشير احتدام الصراع في قادم الأيام، في ظل التوسع الحريديمي الحالي.

خلفية الصراع السياسي الحالي ومآلاته
يقودنا اعتقادنا من خلال ما تقدّم إلى مجموعة استنتاجات حول الواقع السياسي الحالي في الكيان، تعضده، إلى جانب جوهرية الانقسام، سلوكيات المكونات التي تتمظهر من خلال حراك يلبسونه لبوساً سياسياً مغلفاً بعنوان الانتصار إلى الديموقراطية، التزاماً منهم بانتماء هذا الكيان إلى الغرب، ومن مقتضيات تأكيد هذه الصورة هو الصراع على الديموقراطية، إلا أن الحقيقة في مكان آخر. إنّ التحالف الحالي القائم بين مكونات الحكومة الحالية المؤلفة من حزب «الليكود» (المحافظ) وحزب «الصهيونية الدينية» وحزب «عوتسما يهوديت» (القوة اليهودية) وحزب «نوعام»، وغيرها، إنما هو تحالف العلماني مع الديني، تفصلهما خلافات بنيوية أشرنا إليها آنفاً، اجتمعا في لحظة سياسية يسعى فيها كل طرف إلى فرض منظومته وسلوكياته بحسب خلفياته وغاياته؛ فغاية «نوعام» اليميني المتطرف هو مسؤولية هيئة «الهوية القومية اليهودية»، التي تم إنشاؤها حديثاً، ولها سلطة على المحتوى الذي يتم تدريسه خارج المناهج العادية في المدارس الإسرائيلية، مما يمنحه السيطرة على الهيئات غير الرسمية التي يتم تكليفها بالتدريس في المدارس، وهذا ما أشار إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق يائير لابيد، في جملة من تصريحاته، «طلاب المدارس الدينية سيحصلون على أموال أكثر من جنود الجيش الإسرائيلي»، و«يريد زعيم حزب «الصهيونية الدينية» بتسلئيل سموتريتش منع مباريات كرة القدم يوم السبت، سيتم إصدار قانون لفصل الرجال عن النساء في الأماكن العامة»، «إسرائيل هي دولة يهودية وليست دولة شريعة»، لأنه يعلم تماماً خلفية هذا التحالف الذي قام على الوعد بتحقيق جملة من مطالب المؤتلفين، منها على مستوى الأحزاب اليمينية الدينية والقومية، تجاوز قرارات المحكمة العليا (أعلى هيئة قضائية)، قانون بن غفير الذي يمنحه صلاحيات واسعة، الإبقاء على استثناء المتدينين اليهود من الخدمة العسكرية، وكلها مطالب تاريخية للأصوليين تنسجم مع مرتكزاتهم الدينية، ونضع خطين تحت عبارة استثناء المتدينين من الخدمة العسكرية. بالمقابل، يسعى نتنياهو من خلال هذا التحالف إلى إنقاذ نفسه من المحاكمة بتهم الفساد، وحماية مستقبله السياسي، وتحقيق مكاسب خاصة.
وعليه، فإنّ الواقع السياسي الحالي يرهقه انقسامان يقودانه إلى صراع حتمي بين مكوناته: انقسام بين مكونات ائتلاف الحكومة الحالية، بدأت تباشيره، وآخر بين الحكومة والمعارضة، تُرجم من خلال التظاهرات الأخيرة، وقد غرّد لابيد، قائلاً «أريد أن أسأل ناخبي الليكود: هل هذا ما أردتم؟ هل هذا سبب تصويتكم لليكود؟ ليأخذوا المال من الجنود ويعطونه لطلبة المدارس الدينية؟ ستكونون أقلية في هذه الحكومة»، «سيقودوننا إلى أن نصبح دولة من العالم الثالث. على خلاف مع الأميركيين على خلاف مع أنفسنا». ويأتي تسريب الأميركي لوثائق سرية تبيّن دعم «الموساد» من أجل حشد الاحتجاجات ضد نتنياهو، ليكشف ورقة عن الصراع القائم داخل بنية الكيان، وليفتح الباب أمام توقع احتدامه في المستقبل. كل ذلك يشير إلى انعدام الاستقرار المجتمعي داخل كيان الاحتلال، فبحسب استطلاع رأي أجرته القناة 13 الإسرائيلية أخيراً فإن 68% من الإسرائيليين يعتقدون أنّ الشر سيُفتح على «إسرائيل» من الداخل، و«الانقسامات الداخلية هي أكبر تهديد وجودي لإسرائيل»، وليلتقوا مع ديفيد بن غوريون نفسه في اعترافاته عام 1956 لصديقه المقرب ناحوم غولدمان (في كتابه «المفارقة اليهودية»)، أن كيانهم هو كيان احتلال وأنه يتوقع ألا يدفن ابنه «عاموس» فيه. ولمن يسأل عن توسع «الحريديم»، وتحول الكيان إلى كيان أصولي متطرف، في الوقت الذي كان إنشاء الكيان على يد العلمانيين، فإن ذلك لا يغير شيئاً في واقع الانقسام والصراع، لأنهما داخل المكون المتطرف دينياً أشد وأعمق، في الوقت الذي يحمل انتماؤه الديني تناقضاً جوهرياً مع «الدولة»، وهو من داخل الحكومة يصر على الاستثناء من الخدمة في الجيش، وقد أشرت إلى هذا الانقسام في عنوان الصراع الفقهي، فهو داخل المكون المتطرف دينياً، وانتقال «الحريديم» من العزلة إلى المشاركة السياسية، لا يحمل في تلافيفه قوة الكيان، بقدر ما يبشر باقتراب دخول الصراع دائرة الاقتتال الداخلي، خصوصاً مع ذراع عسكرية للمتطرفين (الحرس الوطني)، وهذا ما يشكل هاجساً حقيقياً عند قادة هذا الكيان وساسته. قال الله تعالى من سورة الأعراف آية 168: «وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا».

هوامش:
(1) «أبناء آشور» تعني أهل العراق
(2) مصطلح «أرثوذكس» مصطلح مسيحي يعني «الاعتقاد الصحيح»، وقد استُخدم للمرة الأولى في إحدى المجلات الألمانية سنة ١٧٩٥ م للإشارة إلى اليهود المتمسكين بالشريعة
(3) راجع كتاب «الفرق اليهودية القديمة وآثارها في الواقع اليهودي المعاصر»، تأليف: محمد محمد محمد إبراهيم كركور

*نائب في البرلمان اللبناني