ليس من الحكمة الاعتماد على خطوة واحدة، أو كما هو حتى الآن، مجرد الإعلان عن تلك الخطوة، ونقصد بها الإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني المتعلق بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، للكتابة في أثر ذلك عن التغيّرات الاستراتيجية في المنطقة. لكنّ أهمية هذه الخطوة التي تحدث بين طرفين أساسيين في الإقليم، كانا يبدوان في حالة عداء مستعصية، جعلت الأمر يستحق المغامرة (الكتابة)، ليس فقط من أجل أن نعرف وتعرف شعوبنا ما يجري، بل من أجل أن نساهم نحن وشعوبنا في جعل ما يجري حقيقياً، وبالاتجاه الصحيح الذي نريد، وهو اتجاه المساهمة الإيجابية في التغيرات العالمية الجارية الآن، والمتمثلة في رفض الهيمنة الإمبريالية بكل أشكالها، والعمل على جعل الشرق - شرقنا - سيداً وحرّاً وموحّداً كما تتمنّى غالبية شعوبه.
مدى جدية الخطوة السعودية
ما يبعث على شيء من الاطمئنان، أن هذه الخطوة السعودية لـ«التطبيع» مع إيران، ليست خطوة معزولة ومتفرّدة، وجود إرهاصات سابقة عليها، يجب قراءتها وأخذها بالحسبان، من دون مبالغة في تأثيرها، مثل الموقف السعودي من الحرب في أوكرانيا، حيث اتخذت موقفاً أقرب إلى عدم الانحياز منه إلى الاصطفاف التقليدي إلى جانب أميركا، فتبرّعت لأوكرانيا بما يقارب النصف مليار دولار، وفي الوقت نفسه لم تمتثل للعقوبات الأميركية على روسيا، ولم تخفض سعر النفط، أو تضغط على «أوبك» للقيام بذلك.
أخيراً، قامت السعودية أيضاً بترتيب علاقتها مع تركيا ومع قطر، ولم تعد معنيّة باستمرار الحرب في اليمن، وغيرت - ولو جزئياً - من مقارباتها للعلاقة مع دول أخرى في الإقليم، أو حتى مع الدول المؤثرة في العالم.
الواضح لدينا، ومن دون الذهاب بعيداً - على الأقلّ حتى الآن - للحديث عن انزياح كامل للسعودية، بعيداً عن المظلة الأميركية، أن السعودية التي ربطت مصالحها، بل وجودها كله، بأميركا منذ قيام العلاقات الدبلوماسية بينهما في عام 1933، أخذت ترى أن ذلك التموضع لم يعد حكيماً، وأن مصلحتها تتطلّب إبقاء أبواب أخرى مفتوحة، إلى جانب البوابة الأميركية بالطبع.
لقد قدّمت السعودية «خدمات» لأميركا لا تقدّر بثمن، ومنذ وقت مبكر. فمن أجل أميركا والمشروع الإمبريالي، حاربت السعودية مشروع الأمة العربية المتمثل في القومية الناصرية، مادياً وفكرياً. ومن أجلها، وضعت المشروع الإسلامي الوهابي الذي تزعمته، إلى جانب أميركا، وضد الاتحاد السوفياتي والعالم الاشتراكي، في أفغانستان وغيرها. وساهمت في تفرد أميركا في السيادة على العالم. وقبل كل ذلك، وأهمّ من كل ما سبق، الدور السعودي في موضوع ربط سعر النفط بالدولار الأميركي، حيث كانت السعودية صاحبة «الفضل» الأول في جعل الدولار العملة الأهم في العالم، وجعله القوة الأساس في يد الولايات المتحدة للهيمنة على الآخرين.
من حقّ شعوب المنطقة أن تبقى في حالة انتظار لكيفيّة تطوّر تلك الخطوة السعودية الجديدة، فالأمور لا تزال في سطرها الأول


كل هذه «الخدمات» التي قدمتها السعودية، وغيرها كثير، لم تقابل بـ«الامتنان» الأميركي. وبرأيي أن «الصدفة» التي جاءت برئيس مثل دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، كشفت للسعودية أن «الغرام» بأميركا هو من الطرف السعودي فقط، وأن ما يفترض أنه الحليف الأميركي لا يقدّر للسعودية كل ما قدمت، وأن هذا الحليف ممعن في ابتزازها سياسياً عندما تم الضغط عليها للدخول في مشروع القرن، الذي يتطلّب التطبيع مع إسرائيل، فكان أن أعطت السعودية الضوء الأخضر للبحرين والإمارات وغيرهما للقيام بذلك. وكذلك الابتزاز المادي عندما «حصل» ترامب على ما يقارب نصف تريليون دولار من الملك السعودي.
شعرت السعودية، ليس فقط بكل هذا الابتزاز، بل بما صاحبه من استهتار وإهانة. ترامب يقول للملك السعودي «عليك أن تدفع المال، فأنت لا تملك شيئاً غيره... ولن تبقى في الحكم أسبوعين بدوننا». ونتنياهو يعد الإسرائيليين بالتطبيع الكامل مع السعودية كأمر مفروغ منه، بمعنى أن السعودية لا تستطيع أن ترفض ذلك.
من المعروف أن السيادة لدى الدول مقترنة بالكرامة لدى أنظمتها، هذا الأمر بالطبع متفاوت ونسبي من دولة إلى أخرى، ومن نظام إلى آخر، وخاصة في منطقتنا. باعتقادي أن النظام السعودي المتمثّل في جيل جديد من القيادة، والمترافق مع بعض التغيّرات الاجتماعية والفكرية لدى الشعب السعودي، يملك حساسية أكثر لمفهومَي السيادة والكرامة، من الأجيال الحاكمة السابقة، وبالتالي كان لا بدّ له من التفكير في شيء من «التمرد».
ترافق هذا، مع طرح النظام السعودي الجديد نفسه، كقائد للمشروع «العربي» بنسخته الجديدة. فالسعودية الآن ترى نفسها زعيمة للعالم العربي، فهي من ناحية لا تنقصها الإمكانات المادية لذلك، وهي لديها أيضاً أمير شاب طموح، يرى نفسه زعيماً إقليمياً إن لم يكن أكثر من ذلك. إن من يطرح نفسه زعيماً لمشروع إقليمي بهذه الضخامة، لا يمكن أن يرضى على نفسه بأن يكون «تابعاً» بكل هذا الوضوح الذي تريده أميركا، ولا يمكن أن يقبل على نفسه أن يتبنّى مشروعاً «طائفياً»، يضعه ليس فقط في مواجهة الكثيرين داخل أمّته، بل حتى في مواجهة جزء ليس بسيطاً من شعبه. ذلك ما جعل الأمير السعودي يستثمر في الفرصة التاريخية التي أتاحتها الحرب في أوكرانيا، إن هو فعل ذلك حقاً، وكذلك قيامه بتحجيم المؤسسة الدينية الوهابية العميقة الجذور، التي أعطت للسعودية «شكلاً» لم يعد مقبولاً في وقتنا الراهن.

من خطوة إلى نهج
من حق شعوب المنطقة أن تبقى في حالة انتظار لكيفيّة تطوّر تلك الخطوة السعودية الجديدة، فالأمور لا تزال في سطرها الأول. ستكون خيبة أمل كبيرة إذا ما كان ذلك السطر الأول هو سطرها الأخير، وأن تكون الخطوة ليس أكثر من مجرد محاولة لخروج السعودية من المشاكل التي علقت بها، وخاصة في اليمن، وكذلك في نهج السعودية الجديد في تطبيع علاقاتها مع الجوار.
هناك بالطبع اشتراطات لمدى جدية هذه الخطوة، منها ضرورة التوجّه المختلف تجاه قضايا المنطقة البينية، وحل الخلافات بالحوار وليس بتحويله إلى حروب، وبالذهاب إلى الأقصى واستدعاء التاريخ والأيديولوجيا وكل شيء. وهذا يتطلب دخول السعودية في حوار جاد، ليس فقط مع إيران، بل أيضاً وأولاً مع ممثلي شعوب المنطقة في اليمن وسوريا والعراق وليبيا ولبنان، من أجل حل مشاكل تلك الدول والمساهمة الإيجابية في إعادة بنائها، وتثبيت وحدتها الوطنية، وضمان استقرارها.
ولكي تكون الخطوة جدية أيضاً، ينبغي توسيع دائرة المعنيين بها، بمعنى ضرورة عدم اقتصارها على مستوى الأنظمة الحاكمة، بل امتدادها لتشمل النخب والمثقفين والشعوب، ليس فقط في السعودية وإيران، وإنما أيضاً في كل دول المنطقة. ذلك يعطيها زخماً ومناعة أمام التقلبات التي قد تجري.
لكن أهم دليل على صدقية الخطوة السعودية تجاه إيران، هو إزاحة كل الشكوك التي علقت بموقفها من التطبيع مع إسرائيل، وبرؤيتها للقضية الفلسطينية، القضية المعيار لكل ما يجري، في منطقتنا على الأقل. والقضية التي بدون الموقف الجذري منها ومعها، لا يمكن لأيّ جهة، مهما بلغت مصادر قوتها، أن تصبح زعيمة للمنطقة، بل لا يمكنها أن تدّعي الحق في هذه الزعامة. ضمن ذلك، سيكون مهماً أن تتخذ السعودية موقفاً جدياً ضد التطبيع مع إسرائيل، حيث إن ادعاء الضغط الأميركي عليها من أجل ذلك لم يعد كافياً لتفسيره، ولم يعد مقنعاً لأحد، وخاصة للشعوب العربية، وأولها للشعب السعودي نفسه.
يبدو أن السعودية لاحظت بذكاء وبإيجابية ما يجري في العالم من تحوّلات، فالنظام العالمي الذي تتسيّده أميركا، والذي اعتقد كثيرون أنه «نهاية التاريخ»، آخذ في التغير. فلم تعد الولايات المتحدة سيدة العالم بلا منازع. ولم تعد قبضتها المهيمنة تمسك بكل تفاصيل العالم دولاً وشعوباً، بالقوة نفسها التي كانت خلال العقود الثلاثة الأخيرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وعلى ما يبدو، فإن النظام العالمي المتعدد القطبية، والذي تؤدي فيه الصين وروسيا، وكذلك إيران، دوراً أساسياً، آخذ في التبلور بسرعة أكبر مما كان يتوقع كثيرون. لذلك، فإن على السعودية أن تمضي قدماً في استثمار هذه الفرصة التاريخية لمصلحة شعبها وشعوب المنطقة، وللمساهمة في إيجاد عالم أكثر استقراراً وعدلاً... كما أن على النخب، وخاصة المثقفين في العالم العربي والشرق عموماً، أن يعملوا على ترسيخ الوعي بقيم التضامن والوحدة بين شعوبها، لأن في ذلك الضمان الأساس لنجاح مشروعها التحرري.
* أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله