استمر النظام العالمي، الذي تأسّس في أعقاب انتصار الحلفاء، في الحرب العالمية الثانية، حتى انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر عام 1991. تميّز ذلك النظام بثنائية القطبية، وتأسيس المعسكرين: الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والاشتراكي الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، اللذَين أسَّسا حلفَين عسكريَّين: حلف شمال الأطلسي (1949) وحلف وارسو (1955).كان لوجود الأسلحة النووية لدى الطرفين دور حاسم في لجم الحروب المباشرة بينهما، فكانت الحرب الباردة التي تمثّلت بالصراع الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي بين المعسكرَين، وبحروب وصراعات بالوكالة على أراضي الغير، بما فيها البلدان العربية ودول الشرق «الإسلامي».
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، انفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم، وشعرت بأنّ ذلك من «حقّها» وحدها، وعملت على أن يكون ذلك إلى الأبد... ذلك الشعور لم يأت فقط من تفوّقها على منافسيها وامتلاكها مختلف عناصر القوة، بل أيضاً، وربما أساساً، وهو الأخطر، من تفوّقها «العنصري» (الإنكلوساكسوني) على الآخرين، وهذا يفسّر جزءاً كبيراً من علاقتها «الخاصة» بالصهيونية، وواكبه التنظير لـ«نهاية التاريخ» وصراع الحضارات.
تصنع الإمبرياليةُ العنصريةَ بالتأكيد، لكن في حالة الولايات المتحدة (والصهيونية) صنعت العنصريةُ الإمبرياليةَ، أو كانت من أهم دوافعها، وخطورة ذلك أن الإمبريالية، في هذه الحالة، ليست مرتبطة في ذهن ممارسيها بميزان القوى «الأرضي»، بل بمعطى «سماوي» يعطيها الحق الدائم بالقيادة، ويمنحها شرعية استخدام كل الوسائل للحفاظ عليها.

أميركا وحيدة في قيادة العالم
تميّزت الفترة التي قادت فيها الولايات المتحدة بأنّها من أسوأ ما مرّ على العالم ربّما عبر التاريخ. لم يكن ذلك فقط على المستوى السياسي والأمني، بل أيضاً الاقتصادي والبيئي والصحي. ففي سياق سعي الولايات المتحدة لمحو كل رموز النظام الثنائي القطبية، دولاً وأنظمة وفكراً وشخوصاً، لم تشهد البشرية هذا الكمّ من العنف والفوضى، «عمودياً وأفقياً»، كما شهد في العقود الثلاثة الأخيرة تحت قيادة أميركا وبإرادتها، فلم تكتف بتفكيك الاتحاد السوفياتي والهيمنة على دوله، بل ذهبت إلى تفكيك روسيا نفسها، واختلقت فيها الكثير من المشاكل، وكذلك في مختلف مناطق العالم.
كانت فلسفة القيادة الأميركية للعالم ليس الحفاظ على استمرار التفوّق بتنمية الإنجاز بقدر ما هو العمل على تحطيم الآخر. هذا تطلّب المزيد من الاستبداد واستغلال الآخرين.
كما اتسمت سياسة الولايات المتحدة بالتنمّر، ليس فقط على «أعدائها»، بل على حلفائها أيضاً. برز ذلك في الاقتصاد، عندما فرضت على أوستراليا شراء غواصاتها بدل الغواصات الفرنسية، وضحّت بالاتحاد الأوروبي وأقحمته في الحرب الأوكرانية، وأجبرته على الذهاب بعيداً في عدائه لسوريا، رغم مصالحه الحيوية معها، وتجسّست على رؤساء أهم دوله (ألمانيا وفرنسا).
وفي الشرق، غزت أفغانستان، واحتلت العراق، ورعت الإرهاب والفوضى الخلّاقة التي دمّرت ليبيا وسوريا واليمن، وحاصرت إيران ولبنان، واستمرت في دعمها المطلق لإسرائيل، والتنكّر لحقوق الشعب الفلسطيني. كما استمرت في ابتزاز حلفائها، وفرض الأتاوات عليهم، وتكليفهم «بمهمات» ليست في مصلحتهم، وليسوا أهلاً لها بالأساس.
كذلك استمر تدخّلها في كل بقاع العالم، من خلال سياسة العقوبات التي تفرضها على من تشاء وكيفما تشاء، في كوريا وكوبا وفنزويلا وكثير من بلدان أميركا اللاتينية، التي كثيراً ما تدخّلت لإطاحة بعض أنظمتها التي لا تروقها.
باختصار، فإنّ أهم ما ميّز نظام القطب الواحد الأميركي هو تراجع في دور المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة، وفرض مزيد من الهيمنة على كثير من دول العالم، ومعاناة وإذلال أكثر للشعوب، ومزيد من الضحايا وفقدان الأمل، وتصاعد في العنصرية، وتراجع في الأخلاق والقيم، وهذا بالطبع لم يرُقْ كثيراً من الدول، ولمعظم الشعوب بما فيها نسبة متزايدة من الشعب الأميركي.
إنّ من واجب شعوب العالم ودوله أن توضح تصوّراتها للنظام القادم، فهي حتى وإن لم تكن جزءاً فاعلاً فيه، فإنها بالتأكيد لن تستطيع الهروب من تأثيراته سلباً أو إيجاباً


تشبّثت أميركا بنظام الأحادية القطبية الذي تتزعّمه، رغم عدم رضى معظم دول العالم وشعوبه عن ذلك، بما فيها بعض حلفائها، فرفعت شعار أميركا أولاً في عهد دونالد ترامب، مع أن الممارسة كانت تشير إلى أن حقيقة الشعار تعني إسرائيل وأميركا أولاً، واستعدت للذهاب بعيداً من أجل التمسك بالانفراد في تزعم العالم، فارتكبت من أجل ذلك الفظائع بما فيها موقفها تجاه الحرب الأوكرانية، وإيصالها العالم إلى حافة الحرب العالمية الثالثة، واستفزاز الصين في ما يتعلق بجزيرة تايوان. لم تعمل الولايات المتحدة كأقوى قوة في العالم، وقائدة للنظام الدولي الأحادي القطب على إدارة العالم وترتيبه، بل عملت على تخريبه للسيطرة عليه.
أكثر الدول رفضاً لنظام القطبية الأحادية كانت روسيا، التي تحدث رئيسها علناً حول التوجه السلبي للولايات المتحدة تجاهها، وذلك بضم جمهوريات البلطيق السوفياتية الثلاث لحلف شمال الأطلسي، إضافة إلى معظم دول حلف وارسو السابق، كما تحدث عن ضرورة تغيير النظام الدولي الذي لم يعد معقولاً ولا مقبولاً أن يبقى مسيطراً عليه من قطب واحد، وقال إن روسيا ستعمل على تأسيس نظام متعدد الأقطاب - كان ذلك في مؤتمر ميونيخ للأمن في 2007 عندما قال إن «روسيا قد عادت».
عانت الصين أيضاً من نظام القطب الواحد، وهي تدرك كقوة اقتصادية كبرى في العالم أنها مستهدفة من قبل الولايات المتحدة. وهي وإن كانت تستخدم الدبلوماسية الهادئة ذات النفَس الطويل، إلا أنها مستهدفة من قبل الولايات المتحدة، من أجل إعاقة تطورها، والإبقاء على نظام الهيمنة الأميركية على بقية العالم.
دول أخرى مهمة أبدت تأييدها لتغيير النظام الحالي لإدارة العالم الذي تتفرّد فيه الولايات المتحدة بكل شيء؛ إيران التي تعاني حصاراً أميركياً منذ ما يزيد عن الأربعة عقود، ودول في أميركا اللاتينية مثل فنزويلا وكوبا والبرازيل، والهند، وحتى دول حليفة للولايات المتحدة مثل تركيا.

مواصفات النظام العالمي المطلوب
اكتشفت معظم دول العالم وشعوبه، مدى الضرر والخطورة على البشرية من تحكّم قوة واحدة كأميركا في العالم، لذلك كان لا بد من التفكير في إيجاد نظام عالمي آخر، يفترض أن يكون أكثر احتراماً للإنسان، وأكثر قدرة على توفير الأمن والسلام والتطور للجميع، ويمنع الحروب أو يحدّ منها، ويخفّف من قدرة الدول القوية على الهيمنة على الدول الضعيفة.
طالبت بعض الدول بتقوية الأمم المتحدة، وبعمل تغييرات في تركيبة مجلس الأمن، وخاصة المقاعد الدائمة فيه، والتي تملك حق النقض. وطالبت دول وأقاليم عديدة بالحصول على العضوية الدائمة، كالهند والمجموعة الأفريقية والبرازيل.
الأوضح من بين الدول التي تعمل على تغيير النظام الدولي الحالي هي روسيا، التي تحدّث وزير خارجيتها سيرغي لافروف بصراحة عن أن روسيا تعمل من أجل «عالم متعدد الأقطاب ونظام لا يستفزّ أحداً، لأنها لا ترضى باستمرار استبداد القطب الواحد».
رأت روسيا أن الخلاص من نظام القطب الواحد الذي يقوده الغرب وأميركا هو قضيتها الخاصة، ليس فقط لاعتبارات جيواستراتيجية، تمثّلت في تطويقها بالأعداء الأطلسيين، وافتعال المشاكل داخلها، بل أيضاً لأنها شعرت بأنه تم استغفالها وطعنها في كرامتها. في هذا الإطار، قال فلاديمير بوتين: «مشكلتنا أننا وثقنا بالغرب أكثر مما يجب، وفهموا ثقتنا ضعفاً». لهذا السبب تعدّ الحرب في أوكرانيا حرباً على شكل النظام العالمي وموقع كل طرف في هذا النظام.
في كل الظروف، ومهما كانت النتائج في صراع الدول الكبرى الحالي، بين متشبّث بالنظام القديم الذي يبدو أنه لن يستطيع البقاء على شكله الحالي، وبين ساعٍ لاستبداله بنظام آخر، متعدّد الأقطاب، أو غير ذلك، فإنّ من واجب شعوب العالم ودوله، أن توضح تصوّراتها للنظام القادم، فهي حتى وإن لم تكن جزءاً فاعلاً فيه، فإنها بالتأكيد لن تستطيع الهروب من تأثيراته سلباً أو إيجاباً.

العالم العربي والنظام الدولي
أكثر من عانى من تسيّد أميركا على نظام القطب الواحد، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هو العالم العربي. فهو، بحكم موقعه الجيواستراتيجي المتوسط، وحالة الضعف والتفكك التي يعيشها، يعدّ الساحة التي تتحقق عليها حروب الكبار بالوكالة، وهو في هذه الحروب لا يشكّل فضاءً سلبياً بل يشارك أبناؤه فيها. إنهم ضحاياها في حالات النصر أو الهزيمة، وليسوا شركاء في ثمارها إن وجدت.
والعالم العربي، والشرق الإسلامي إجمالاً، هو المكان الذي توجد فيه نسبة كبيرة من المواد الخام التي يحتاج إليها الغرب بالأساس. لذلك يسعى الغرب إلى إبقاء الهيمنة عليه، ليس فقط من أجل استثمار تلك المواد، بل من أجل التحكم بمنافسيه الآخرين الذين يحتاجون إليها. فالشرق هو ساحة الصراع الأساسية جغرافياً، وهو جزء مهم من أدوات الصراع بامتلاكه للمواد الخام، ولكثير من المقاتلين لغير مصلحته، على شكل جيوش أحياناً، وعلى شكل إرهابيّين أحياناً أخرى.
لذلك يصرّ الغرب - أميركا أساساً - على بسط هيمنته على المنطقة، إمّا بواسطة جيوشه مباشرة، كما يحدث في شمال شرق سوريا، حيث توجد القواعد الأميركية قرب حقول النفط، أو بواسطة إسرائيل، التي تفرض نفوذها باحتلالها المباشر لفلسطين ولأراض عربية، وكذلك من خلال التطبيع الذي فرضته أميركا على كثير من البلدان العربية، فالتطبيع، في بعض جوانبه، هو إحلال إسرائيل مكان الولايات المتحدة في العالم العربي، لكي تتفرغ هي للعمل في مناطق أشد سخونة، مثل منطقتي شرق آسيا وشرق أوروبا.
وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك ما يعانيه الشرق وثقافته من استعلاء وعنصرية من قبل الغرب والصهيونية، وانتشار الإسلاموفوبيا بشكل واضح في ممارسات كثير من حكومات الغرب ونخبه، ندرك كم أن هذا الشرق بحاجة إلى نظام دولي أكثر عدلاً وموضوعية، وأقل استبداداً وتسلطاً.
إنّ وجود شرق إسلامي متحرّر من الهيمنة، يقرّر مصيره بنفسه، ويتحكّم بموارده، يحرم، الغرب أساساً، والقوى الكبرى المتصارعة، من أهم ساحات صراعها، وأهم موادّ صراعها وأدواته، ويساعد في خلق عالم أكثر توازناً وأكثر أخلاقاً ومنطقيّة، ولهذا السبب على جميع شعوب الشرق، وأيضاً دوله، وقواه الحيّة، أن تساهم إيجاباً في إنهاء نظام القطب الواحد، وسيطرة الغرب الإمبريالي.

* أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله