لا شكَّ أن الأزمة الطاحنة الراهنة والمستمرة منذ ثلاث سنوات على الأقل، والمتمادية بمزيد من التداعيات والمخاطر الكوارثية على لبنان وشعبه المنكوب، هي ثمرة مُرّة لنظام ومنظومة «الصيغة الفريدة» التي اعتمدها لبنان برعاية وحماية غربية استعمارية منذ مطالع القرن الماضي حتى اليوم. فالغرب الاستعماري الذي توسّل مبدأ «فرّق تسُد»، سعى دائماً إلى إضعاف المستعمرات وتشتيت الكيانات القومية وتفتيت وحدتها الوطنية، بالانقسامات والعصبيات الطائفية والمذهبية والإتنية، وبالانتماءات ما قبل الحديثة، مناطقياً وعشائرياً. بسبب هذه الصيغة تمَّ منع قيام الدولة اللبنانية الواحدة، الحصينة والمستقرة، لتقوم دويلات على حسابها: تتغذى من مواردها وتتقاسم خيراتها ومؤسساتها وسلطاتها، ويتصارع «الشركاء» ويستقوي بعضهم بالخارج على الآخر. وفي حالتَي الاتفاق (التقاسم) والخلاف (على التوازنات وحجم الحصص)، يعتدون على سيادة الدولة، ويضعفون الوحدة الوطنية، وينتهكون الدستور والقانون وحقوق المواطن، ويعزّزون التبعية للخارج. لقد عانى اللبنانيون، في ظل وهم «الفرادة» و«التفوق»، من هشاشة عمارتهم الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وتلاحق صراعاتهم وحروبهم «الأهلية»، وصولاً إلى انهيار دولتهم بعد نهبها ونهب مواطنيها من قبل طغمة مجرمين ما زالوا يواصلون تنافسهم وصراعاتهم لتدمير ونهب ما تبقى.
هذا الصراع الممتد، المشوب بالخلل والفئويات والأساطير، صادف، منذ البدايات، رعاية وتغذية واستغلالاً من قبل الخارج القريب والبعيد، العدو والشقيق (مع فارق في الأحجام والأهداف والتأثير)، فكانت، في مراحل متقدمة وبعد صراعات ومجازر، «القائمقاميتان»، و«المتصرفية» والمتصرفون العثمانيون، ونفوذ القناصل و«رعايتهم»، إلى «لبنان الكبير» بعد سقوط السلطة العثمانية، إلى الاستقلال الملغم بالطائفية عام 1943، إلى النزاع السياسي ــ الأهلي عام 1958، إلى الحرب الأهلية بين عامَي 1975 و1990، إلى الوصاية السورية... وصولاً إلى الانهيار المدوّي الشامل، بسبب النهب التحاصصي، وفي كنف الازدواجية التفاعلية تبعياً ومرجعياً، في حقول السياسة والاقتصاد والمال، بين البورجوازية اللبنانية والإقطاع السياسي المالي، وبين المركز الإمبريالي الدولي الذي تديره واشنطن منذ نحو سبعة قرون، والذي يستتبع ويحدد الوظيفة ويضبط الإيقاع!
ما جرى في معركة «الفراغ الرئاسي» منذ بداية الشغور، أول الشهر الماضي، هو من نتائج الخلل في النظام الذي ترتب عليه تقاسم وصراع وتبعية ومحاصصة ونهب وفراغ وعدم محاسبة و... انهيار الدولة وإفقار الشعب وتعريضهما لأسوأ الاحتمالات ومنها شبح التقسيم والتفكك والاحتراب الأهلي، والفوضى المجتمعية والأمنية التي أشارت إليهما (أو لوحّت بهما!) مساعدة نائب وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى بربارا ليف.
ينبغي التذكير، تكراراً، أن أطراف السلطة قد خاضت معاركها في نطاق «الصيغة» الحالية لتعديل توازناتها، من دون المساس بجوهرها. حلقة رئيسية في هذا السياق، تمثلت في أنها عطَّلت إصلاحات «الطائف» وخصوصاً النص على مباشرة إلغاء الطائفية السياسية وفق آلية ومهل محادَّة تماماً، ابتداءً من عام 1992!
أشرنا إلى الحضور الدائم للقرار الخارجي في الشأن الداخلي اللبناني. هشاشة الوضع اللبناني، شجَّعت العدو الصهيوني على استهداف لبنان في وحدته وسيادته وجغرافيته ومياهه. أثمر ذلك عدوان عام 1982 واحتلال العاصمة اللبنانية، واتفاق 17 أيار، وحين تفاقمت الصراعات وصادفت مناخاً إقليمياً ملائماً، كانت التوترات والحروب الأهلية ومجيء الأساطيل والقوات الأطلسية لفرض الأحلاف أو لحماية العدوان الإسرائيلي ودعم أهدافه. وكما في كل بلدان العالم، باتت واشنطن في لبنان، أيضاً، صاحبة الكلمة في حقول السياسة والاقتصاد والمال والعلاقات الخارجية، وتكثّف دورها بعد أزمة تشرين الأول عام 2019. وهي، منذ ذلك التاريخ، تقود خطة مع شركاء دوليين وإقليميين ومحليين للنيل من المقاومة التي اخترقت إيجابياً البنية التقليدية اللبنانية وسجلت نجاحات مميزة منذ كان العدوان الصهيوني على لبنان واحتلال أجزاء واسعة من أراضيه، وصولاً إلى العاصمة. استمر استهداف المقاومة خصوصاً، بعد أن تحوّلت، عبر شقها الإسلامي، إلى قوة ردع وتوازن ألحقت بالعدوان الصهيوني ــ الأميركي عام 2006 هزيمة منكرة.
إلى المقاومة اللبنانية، وفي نطاق هشاشة البنيان الدولتي، المؤسساتي والدفاعي اللبناني، كان الدور الفلسطيني، وكانت الإدارة السورية، وتواصل واشنطن والرياض، حالياً، سياسة تدخل فجّ ومباشر لفرض التطبيع «الإبراهيمي» مع الكيان الصهيوني، ولتصفية المقاومة، وأساساً لتصفية قضية وحقوق الشعب الفلسطيني. الكارثة متمادية ومتفاقمة، أيضاً، بسبب غياب المشروع البديل والمعارضة الوطنية. هذه الأخيرة لم تكن بمستوى الأزمة رغم غنى وعراقة حضورها في المشهد السياسي اللبناني.
كان يمكن للأزمة أن تتحول إلى فرصة للتغيير والإنقاذ، خصوصاً أنها قد أصابت، بشكل كوارثي، الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. لم يحصل ذلك ولا يبدو أنه سيحصل وفق المعطيات القائمة. لكن أضرار وتحديات تلك الأزمة لن تقف عند حد. ما أمكن حمايته حتى الآن من إنجازات قد لا يستمر محمياً نتيجة الضغوط المحدقة الخارجية (ولو تراجعت مؤقتاً) والداخلية. ذلك يتطلب إعادة تفحّص عناصر الدفاع والحماية بشكل جدي وجوهري: إنها مهمة مصيرية مطروحة على كل المعنيين والحريصين!
* كاتب وسياسي لبناني
الدولة الطائفية الهشّة
لا تقع مسألة انعقاد جلسة مجلس الوزراء (الأولى بعد الشغور الرئاسي)، و«ثورة» التيار العوني على الداعين إليها والمشاركين فيها (بمن فيهم «حزب الله»)، وأساساً الصراع حول الهوية السياسية لرئيس الجمهورية، خارج الصراع الضاري الدائر (منذ ثلاث سنوات على الأقل) في لبنان وعليه. «الدولة الطائفية» التي نظَّر لحتمية ومصيرية قيامها في لبنان، المفكر والسياسي والمصرفي ميشال شيحا (1891-1954)، تواجه مزيداً من العواصف والأزمات والتحديات. ربط شيحا بين وجود الدولة الطائفية ووجود وبقاء الكيان اللبناني، باعتبار لبنان «بلد أقليات طائفية متشاركة» بحسب وصفه. عبّر بذلك عمّا سمّاه «فرادة» لبنان عبر زعم فرادة طوائفه: متجاوزاً الشروط التاريخية للتغيير، والتحولات والمفاهيم العصرية لبناء الدول ولعناصر وحدتها الوطنية ومقومات سيادتها واستقرارها وسلامة علاقاتها في الداخل ومع الخارج. جوهر ما حاول شيحا تأكيده وتكريسه هو أن الطوائف، كأقليات، في الظروف اللبنانية الملموسة، هي كيانات مستقلة، قائمة بذاتها، وهي بالدولة تستمر ومن غير وجودها في الدولة لا يمكن للدولة ولا للبنان أن يقوما ويستمرا. ناقش هذه المقاربة مفكرون كثُر، أبرزهم المفكر الكبير الشهيد مهدي عامل (حسن حمدان). هو، خصوصاً، كشف زيف ووظيفة هذه المعادلة التي تبنّتها وثبتتها البورجوازية اللبنانية والإقطاع السياسي، أداة لبناء ولاستمرارية سلطتهما وتسلطهما، لتصبح الطائفية السياسية إحدى الأجهزة الأيديولوجية (ألتويسر) لتلك البورجوازية. وهو شدَّد على أن للطائفية وظيفة سياسية وهي «علاقة سياسية»، وأنها بالدولة تقوم وتترسَّخ، وليس العكس.