كتب الكثيرون حول فكرة الفراغ في السيرورة الاجتماعية لـ"دول" أو تجمعات السكن لهذا العالم العربي. وخلص الكثير منهم إلى تسمية وتوصيف هذا الفراغ، بالفراغ الثقافي، وهو فراغ خطير بلا شك. فالثقافة ـ أية ثقافة ـ هي الصانع الأوحد للسلوك البشري فردياً كان أم جمعياً، وهي الدافع الأوحد للأداء على الصعيد السياسي، كأحد فروع الأداء الإنساني في حالتيه الفردية والجماعية أيضاً، والثقافة تتمدد لملء هذا الفراغ بسلوكيات وأداءات، تعبّر عن استجاباتها للاستحقاقات الظروف التي تعتبر ممراً إجبارياً لكل التجمعات السكانية، والمجتمعات، والظروف (إذا صحّت التسمية) هي عبارة عن تلك التحديات التي تواجه البشر، على طريق الارتقاء الذي يعتبر الضامن الوحيد للبقاء والاستمرار، وعدم الاستجابة لضروراته التي هي محض ثقافية، يعني إنشاء ذلك الفراغ ورعايته، والرعاية هنا تتم عن طريق العنف شبه المقنن، من أجهزة سلطوية شبهت بالدولة، تسعى بالتربية إلى إنشاء كيانات حقوقية، ضمن هذا الفراغ الذي أنشأته ورعته. ولكن هذا الفراغ يتعاكس تماماً مع استحقاقات الارتقاء لأنه سوف يظلّ في حال نمو واتساع من جهة، كما أنه يصنع بيئة حاضنة لثقافة الجهل العنفية من جهة ثانية، حيث يظهر العنف في أشكال مموهة (الفساد، الرشوة، المحسوبيات، توازنات الرعب الرهائنية... إلخ)، ريثما تتبلور بيئة عنفية خالصة تأكل الأخضر واليابس، وهذه الواقعة (إذا اعتبرناها فرضية)، أي الفراغ الثقافي، ظهرت منذ فجر التاريخ وما الثورات والانقلابات السلمية العلمية والمعرفية بتأثيراتها التحويلية على المجتمعات، إلا وقائع صراع حول الارتقاء، يمكن لهذا الفراغ ابتلاعه، في غياب تربية تنتج ثقافة صالحة لحصوله، أي الصراع.ولكن عن أية ثقافة نتكلم؟ هل عن تلك السلع الاستراتيجية تربوياً، مثل الفنون والإبداعات والعلوم؟ أم عن تحصيل المعلومات من هنا وهناك، للاستعانة على استخدام التكنولوجيا المحدثة؟ أم نحن أمام سؤال خرافي لا مكان له، في طيات التعانف الكارثي الحاصلة دوماً، في جنبات هذا العالم العربي البائس؟
جميع الأهداف التي وضعت كأولوية كانت وهمية

ربما كان الفراغ الثقافي وهو بذاته ثقافة، أو إلغاء الثقافة وهي أيضاً ثقافة احتقار الثقافة، يبيح لنا نصف هذه التجمعات السكانية بالبؤس، إذ يتيح بداهة إلى إنشاء سلطة مستعملة ومهترئة (ما قبل مجتمعية ولكنها مجملة بمظاهر التكنولوجيات، من صناديق اقتراع وغيرها)، تولد وتتغذى على هكذا نوع من الثقافة. وهذا ما يبعد (وحتى يعمي) هؤلاء البشر قاطني تلك المناطق، عن نوع معيّن منها صالح لممارسة الارتقاء، ألا وهي الثقافة الحقوقية، الغائب الأكبر عن مناهج التربية وكذلك مناهج التعليم، والإعلام والإدارة...إلخ، لتصبح صالحة لتغييب سلطة كاملة مستقلة وأساسية، وهي السلطة القضائية. وفي هذا ضربة قاصمة لمفهوم الدولة، لأنها تمنع وبشكل أساسي وحازم، تأسيس وتشكيل المجتمع الذي عليه إعادة توليدها، أي الدولة، على الرغم من وجودها الظاهري بناء على سطوتها الرهائنية، لذلك وجب تجريف الثقافة الحقوقية والتربية عليها، وتم الدعم والتهليل لمنتجات ثقافية أخرى، هي تقليد باهت للمنتجات الثقافية للمجتمعات الأخرى (كالشعر، والرواية والمسرح والتلفزيون..إلخ). وقلّما تنتج هذه التجمعات إبداعاً يمكن أن يضيف ارتقاء على الصيغ الأصلية لهذه الإبداعات، إذا قلما رأينا عالم اجتماع تمّ الاعتماد عليه أو تكريسه، ولا فيلسوفاً، أو مفكراً تغلغلت أفكاره في البنية "المجتمعية" وقامت بتحريضها على الارتقاء. على الرغم من كل المحاولات النهضوية (ولا أقول هنا التنويرية) التي باءت بفشل ذريع، وتحطمت على صخرة الفراغ الثقافي الحقوقي تحديداً.
الثقافة الحقوقية بهذا المعنى يمكن اعتبارها الأرضية الحقيقية والصلبة لقيام المجتمع والدولة معاً، وغيابها بهذا الشكل العضال، يصنع ذاك الاستبدال الجاهل بين التسالم والتعانف، أي بين الخطأ والصواب. فالتسالم هو الجذر المؤسس للسلوك الاجتماعي الذي ينبني على المصالح وتشابكها، إذ لا تقوم المصلحة إلا بالتضافر مع أخواتها، وغيابه واستبداله بأي شكل آخر مموهاً كان أو صريحاً هو عودة إلى ثقافة الغزو، التي تفكك التشابك في المصالح الداخلية للمجتمع. ولا يمكن لهذا التسالم أن يرسو ويستقر إلا من خلال تفعيل وممارسة ثقافة حقوقية مساوية لهذه المصالح، وقادرة على تنظيمها وضبط إيقاعها، لأن المصالح محكومة بالارتقاء دوماً وبالضرورة، حيث تبدو عملية إرساء المجتمع والدولة، عملية مستمرة وفي جدل يومي دائم مع المستجدات والاستحقاقات الحضارية. ومن هنا تظهر ضرورة إيجاد مقدسات مرتقية ومتغيرة، بحسب ما تقتضيه المصالح العامة، والتفاعل (الجدل) معها بواسطة منظومات تفكيرية، هي عصارة الفكر البشري الذي شاركت بإنتاجه جميع البشرية. وكان لاختراع استحقاقات واهية أو خادعة هو القول الفصل في التأسيس الفراغ الثقافي القتال، حيث استحدثت مجموعة كبيرة من الاستحقاقات المزيفة، اقتضى الجدل معها عنفاً غير مقنن، تحت رايات سلطات غير دولتية، تعد بتسديد هذه الاستحقاقت ضمن هيولى تحتضن الثقافة (خصوصاً الحقوقية)، كجنين سوف يولد في المستقبل. هذا المستقبل الذي تقف دون ولادته الكثير من التفاصيل والأزمات التي تحتاج إلى إدارة، كانت هي موضوع الحوكمة الذي أديرت به هذه التجمعات السكانية "العربية" وسميت وهماً سياسة، ولكن هذا الجدل بمجموعه وتفاصيله لم يؤد إلى أي ارتقاء، فجميع الأهداف (الاستحقاقات) التي وضعت كأولوية، كانت وهمية في ظل ثقافة حقوقية منحطة، غير قادرة لا على المسؤولية، ولا على المحاسبة، فراكمت متطلباتها في مستودعات الفراغ الثقافي (الحقوقي)، لتنفجر لاحقاً، بما يشبه ما تربت عليه من استلاب ثقافي.
قد ينعي التراثويون أنهم لم تتح لهم الفرصة لتجريب رؤيتهم في الإدارة "المجتمعية"، ولكن في الحقيقة لم تكن هناك أية إدارة أو سلطة مرت على هذه التجمعات السكانية الناطقة بالعربية، إلا وكانت تراثوية المضمون والأداء، بغض النظر إن كانت بعمامة أو ببدلة وربطة عنق عصرية. ومن يقرأ "الدساتير" العربية وحتى قوانين الطوارئ، يكتشف أن النظرية السياسية "العربية" لم تتجاوز ثقافياً نظرية الحجاج بن يوسف الثقفي التي لا ترى إلا رؤسا الفارق بينها درجة اليناعة، في استكمال حضري لثقافة السيادة عبر الغزو، وهو نوع من المساواة لا تستقيم معه لا العدالة ولا المفاهيم المجتمعية الأخرى، المنوط بها كثقافة مواجهة الاستحقاقات والجدل معها، في احتدام تنافسي سلمي. لذلك تبدو جميع الاحتدامات الثقافية العربية معاكسة لهذا الأداء، وتستقي معلوماتها عنه من الفراغ الثقافي الذي صنعته بالاعتماد على التراث الذي تشكل القطيعة المعرفية معه خط البداية لتسديد استحقاقات الارتقاء، حيث بدت جميع الدساتير والقوانين كتقنين للشرع والعرف والتقليد التراثي. وبدا الدفاع عنها كدفاع عن الفخامة التي تخلعها نتائج الغزو على المنتصر، وليس عن أية قيمة أو مفهوم أومعرفة وصلت إليها التجربة البشرية. وهذا هو الفراغ بذاته، الفراغ المموه بأكوام الكلام والوعود والخيالات المريضة، وهو الفراغ الذي يرغم الجماعات البشرية على الإرتكان لتوازن قلق خطير، إذ لا بد للبحصة التي تسند الجرة أن تنزلق لتنكسر الجرة نفسها.
محاولات تقنين الشرع والعرف والتقليد لا يمكنها النجاح إلا في حالة من الفراغ الثقافي، بغض النظر عن شكل ومضمون وأسماء وطرائق المحاولين، فالجميع يبدأون بتحصيل مكتسبات بسيطة، ولكن عيونهم تظل شاخصة إلى السيطرة الدائمة على هذا الفراغ. فالتنويريون الذين استبدلوا تجديد الخطاب الديني بالإصلاح الديني، لم يكن لهم ليقتنعوا بأقل من أنها خطوة على الطريق، فلمجرد ربط المقدس بغير المقدس عبر تقنين الثقافة التراثية، يعني استكمال الدرب لإسقاط التقنين، من خلال إدارة أزمة اللعب على الألفاظ وتمويه الفراغ لصالحهم، لذلك كان على حركة تجديد الخطاب الديني التي بدأت مع الأفغاني وعبده (الذين اتهموا بالتنوير) أن تنتهي بالقاعدة وداعش. وكذلك كانت حركة تقنين الثقافة التراثية الموازية التي بدأت بعبد الناصر واعتمدت تمويه الفراغ، ووصلت إلى ما وصلت إليه حركة "التنويريين" السالفة.
لا شيء... لا شيء البتة خارج الثقافة الحقوقية التي تنتج معرفة تلزم الحاكم والمحكوم، لا شيء البتة سوى إدارة الأزمات واختراع أهداف شعاراتية، ومعارك وهمية، وممارسة الفهلوة السياسية. لقد استطاع غياب الثقافة الحقوقية، وغياب ممارستها، إلى تفكيك التجمعات البشرية إلى ما هو أدنى منها، لتصبح مجرد رهائن بين يدي خاطف، في حالة سديمية، فهي لا تستطيع التقدم وارتقاء عتبات المجتمع بمعناه المعترف به حالياً، كي تنتج دولة حسب ما توصلت إليه البشرية، من خلال احتدام عصارة إبداعاتها، ولم يعد هذا الفراغ بقادر على احتمال المزيد. وها هي الصومال وأفغانستان تعيشان حالة السديم هذه منذ عشرات السنين، وستلحق بهما الكثير من التجمعات البشرية الحبلى بذاك الفراغ الثقافي، ربما كان الأمل الوحيد، هو الدخول في عصر ظلمات يستجيب لخصوصياتنا الواهية، والخروج منه بعد ثلاثمئة عام، لنكتشف أننا لما نزل في عام 1952.
* سيناريست سوري