يعبّر حزب الله عن وجود حلول ورؤى مختلفة لحل الأزمة الاقتصادية في لبنان (التوجّه شرقاً، مشاريع الـBOT،...)، لكنّه مصمم على أن لا يقوم بمعركة سياسية من أجل فرض حلول جذرية، وذلك لحساسية الوضع الطائفي. إذ اكتسب حزب الله، بشكلٍ أو بآخر، طابعاً طائفياً، يسمح للآخرين، سواء من حلفائه أو غيرهم، عند تحرّكه للإصلاح، اتهامه بطائفيّته، كما حصل في تحقيق المرفأ، الوكالات الحصرية (300 شخص يحتكرون استيراد وتوزيع 2335 سلعة – 16% من الناتج المحلي)، وهذا برأيه ما يمكن أن يفتح له معارك، يوجد ما هو أولى منها الآن وهي معركة العدو الصهيوني. لا يمكن الاختلاف أن هذه المقاربة هي مقاربة واقعيّة غير مبنيّة على أوهام، وهذا ما يسمح بإمكانيّة مناقشتها أو التخاطب معها لا أقل. وعلى هذا، يحاول المقال المطروح تقديم رؤية أخرى قد تكون مساعدةً، لا أقل على فتح نقاش جدّيٍ حول رؤيا الإصلاح وعوائقها عند المقاومة.
بعد استقلال لبنان، وفي العام 1960، كلّف الرئيس فؤاد شهاب إجراء مسح شامل للواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، كان الأوّل من نوعه، وقد كشف أن نسبة 4% الأكثر ثراءً تجني ضعفي ما يأخذه 50% من السكان من الدخل الوطني. عدد من الاقتصاديين يعزو سبب ذلك إلى أن متصرفية جبل لبنان قامت لتُستغل من خلال عدد من تجار الحرير يديرهم متصرف أجنبي تعيّنه الدولة العثمانية بموافقة بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا، كي تغذي أسواقها. وحتى بعد أن عمد الاستعمار الفرنسي إلى تشكيل دولة لبنان بضم بعض المناطق، كان ذلك فقط لمعاضدة متصرفية جبل لبنان، إذ لم يجهدوا بابتكار اسمٍ له حتى، بل ألحقوه بالمركز -جبل لبنان- وأطلقوا اسمهُ على اسمهِ، وهكذا كان لبنان الكبير يخدم لبنان الصغير (زراعياً وحرفياً) لأجل تجار الحرير، واقعاً، لبنان لم يكن سوى نتاج تسويات خارجية، عليه أن يؤدي دوره (الاقتصادي أو السياسي) تجاه هذه التسويات، كـ«جسرٍ» كما يفيد المنهج التربوي.
بعد انتهاء ولاية الرئيس شهاب بسنتين، اهتم التجار، أثرياء لبنان الصغير، بإقرار قانون الوكالات الحصرية –عام 1967 (وهو من أقدم القوانين). عزز ذلك نظام الريعيّة، بخاصة مع صعود أميركا، حتى وصل أوجه في العقود الأخيرة (بعد 1992) حيث جرى القضاء تدريجاً على قطاعي الصناعة والزراعة (مصانع الأحذية والألبسة وغيرها)، معززاً في مقابله دور المصارف والمنتجات الغربية (دواء، أكل، أدوات تنظيف،...). وقد انعكس ذلك ارتفاعاً لحصة الأثرياء من نسبة الدخل الوطني إلى ما يُقارب الـ 54%، والأسوأ تسجيل فرص ضئيلة جداً لتحقيق ارتقاء اجتماعي بالطبقة الوسطى والفقراء، كما كشف مختبر اللامساواة العالمية في دراسته عام 2018.
بعد الأزمة الأخيرة (2019) تفاقم الوضع سوءاً، إذ إن أكثر من استفاد من إجراءات الدعم (المواد الغذائية، الجمرك، الفيول، المنتجات،...) هي طبقة الأكثر ثراءً، لأنهم تجارها، أو لا أقل أكبر مستهلكيها (كنِسب)، حتى سجلوا حصولهم على نحو 60% من الدخل القومي، مقابل سحق طبقة الميسورين والفقراء.
يعزّز سوء الوضع الارتباط الوثيق بين نخب رجال الأعمال والسياسيين -ربما لا نظير له في أي بلد آخر- إذ يسيطر أفراد الطبقة الحاكمة أو مقربون جداً على 43% من أصول المصارف التجارية، وتسيطر ثماني عائلات فقط على 29% من إجمالي أصول القطاع المصرفي، وهي تملك مجتمعة أكثر من 7.3 مليار دولار من الأسهم.
ولهذا، فإنه رغم كل الأوضاع التي نعيشها إلى الآن، لم تقر السلطة السياسية ضرائب على الثروة في لبنان، أي لا ضرائب إضافية على طبقة الـ 5%، ضرائبهم كضرائب الفقراء، هذه الفكرة البسيطة التي لم يُستطع إقرار قانون لها حتى الآن، تعبّر عن حقيقة الوضع والأزمة في البلد.
في العقود الأخيرة، حصلت البنوك على أرباح جنونية ارتفعت بشكل مضطرد من 63 مليون دولار في 1993 إلى 21 مليار دولار في 2018، لكنها في المقابل انعكست بشدة على الزيادة المفاجئة والجنونية في أسعار العقارات وتزايد البطالة والفقر، والأخطر من ذلك، هو تسجيل ارتفاع ملحوظ في نسب التعصب الطائفي. وإذ يعزى ارتفاع نسبة التعصب الطائفي عالمياً إلى الفقر والجهل، كعاملين رئيسين، فإنّ النظام الريعي هو أحد أبرز أسبابهما، وهذا ما أدّى ويؤدّي تلقائياً إلى هيمنة الولاءات الفرعية على الولاء الوطني، وما جعل الدولة أكثر عرضة للتشرذم والانقسامات وسهّل التدخل الخارجي لتحقيق أغراضٍ سياسية، اقتصادية أو غيرها. فلم تبقَ سيادةٌ في إنتاج الكهرباء ولا حتى استجرارها، ولا جلب نفط أو استخراجه، ولا حتى بنسج علاقات الجوار، فضلاً عن الأدوية وتصدير الثمار.
لبنان لم يعد في بحبوحة موهومةٍ كما في السابق. حينها نعم، لم تكن توجد رغبة شعبية في التحرّك الاقتصادي، ولو وُجِدت للاقت اعتراضاً مقبولاً، لكن اليوم تغيّرت الظروف، إذ توجد أزمة اقتصادية أنتجت، أقلّه، رغبة شعبية مشتركه في التغيير، لا يمكن أن تعبّر عنها صناديق الاقتراع –كما يدعي البعض. وهو ما أعطى مقبولية شعبية في لبنان -كما عبّر السيد نصرالله في خطابه الأخير- للتلويح بفتح حربٍ مع إسرائيل بغية انتزاع حق لبنان من النفط، أو حتى أميركا سابقاً في استجرار النفط.
وهو نفسه يمكن أن يُستثمر بشكل جدّيٍ في الداخل بحال وُجِد مسار حقيقي يؤدي إلى نتائج اقتصادية ملموسة، مقوّضاً بذلك الطائفية، حتى لا يستفيد أصحاب الثروات منها قميصَ عثمانٍ لهم ولحمايتهم، بخاصّة أنهم ووسائلهم الإعلامية أكثر من يروّج لمثل هذا الخطاب التبريري، الذي يختفي، بشكلٍ عجيبٍ، حين تقرّر سفيرة أميركا إصلاحاً ولو كذباً (كاستجرار الكهرباء)!
الطائفية ليست إلا أداة ووسيلة، المشكلة في النظام الريعي.
الريعيّة، بأقطابها في تسعينيات القرن الماضي، أرادت أن تنتج اتفاقاً مع إسرائيل وسحقاً للمقاومة بالوسائل كافة، لكن المقاومة ركزت ضرباتها ووجّهتها على الاحتلال وتركت الأذناب والأدوات، وقد قدّمت بذلك ما لا يمكن لأي حزب أو تنظيم أن يقدّمه لدولة رعوية يوماً. انطلاقاً من هذه الثقة وهذا الرصيد، فإنه، وكما رسّخت المقاومة سيادة البلد بوجه التبعات السياسية للنظام الريعي، مع وجود أميركا حينها، فإنها اليوم باتت أكثر من أي وقت مضى أمام مسؤولية ترسيخ بناء البلد ومؤسساتها في مواجهة الاقتصاد الريعي بكل أشكاله، أبسطها فرض ضرائب على الثروة، ومن خلالها التأسيس لحاضنة حقيقية للزراعة والصناعة. لأنه إذا خرج النفط في ظل النظام الموجود، فإن ذلك سيصير وبالاً، كـ«المرض الهولاندي» المعروف، وما حصل في نيجيريا والجزائر وفنزويلا، وغيرها، يمكن أن يكون عبرةً. وهو ما سيوهم الشعب باقتصاد زائفٍ مرة أخرى يؤدي إلى بحبوحةٍ آنيةٍ ويُضعف من الرغبة الشعبيّة في الإصلاح الاقتصادي إلى ما بعد انتهاء الغاز، يعني إلى أجيال قادمةٍ، كما حصل مع الجيل الحالي، لكنه، ولا شك، أنه مع كل يوم تتأخر فيه المواجهة، سيرفع ذلك من حجم الضريبة التي ستُدفع.
* باحث