قبل نحو أسبوعين، أعلنت دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي برنامج زيارة الحبر الأعظم البابا فرنسيس للبحرين للمشاركة في اختتام أعمال «منتدى البحرين للحوار»: «الشرق والغرب من أجل تعايش إنسانيّ»، واللقاء بعد ذلك مع بعض الشخصيات الروحية والسياسية والمدنية، وذلك ما بين الثالث والسادس من شهر تشرين الثاني 2022. في البداية، قد يبدو المشهد عادياً، لكنّ الاستثناء في الحدث أنَّ ردود الفعل الأولى في الترحيب ببابا الفاتيكان صدرت من «جمعية الوفاق الوطني الإسلامية» التي ما زال أمينها العام الشيخ علي سلمان معتقلاً في السجن، بالإضافة إلى أربعة علماء من القيادات الدينية والسياسية المحتجزة أيضاً في سجن جو المركزي، في بيان صدر في 25 تشرين الأول.
هذه المواقف التي صدرت من المجتمع السياسي -الذي لا تزال الحكومة تفتش عن أيِّ فرصة لممارسة فعل السحق السياسي بحقه لاغتنامها- تُعبِّر عن مستوى الحيوية والوعي السياسي للحراك المطلبي في البحرين؛ فالمعتقلون هم من أبرز دعاة التسامح الديني، ومِمَّن شكّل خطابهم ضمانة أساسية للحفاظ على الوحدة الوطنية والسياسية والدينية لسنوات طويلة، والسلطة تجد في استمرار اعتقالهم هدفاً ثابتاً للانتقام بسبب مطالبتهم بالمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية والحفاظ على القيم الإنسانية والشراكة السياسية.
إذاً، ما هي حكاية الحكومة مع شعار التسامح الديني؟ وماذا تخبرنا السجون عن حقيقة الوضع الداخلي؟!
بصراحة، أكثر ما تجيد الحكومة استخدامه منذ بدء الأزمة السياسية حتى الآن، هو البحث عن البدائل الإعلامية للتغطية على واقع الأزمة السياسية، فقد عوّدتنا على تنظيم المؤتمرات الدولية والمشاركة في مثل هذه المحافل لاستغلالها في التستر على الواقع الداخلي، وإلا من يصدّق بأنَّ السلطة التي هدمت 38 مسجداً وشملت علماء الدين الشيعة بـ 19 قراراً لإسقاط جنسية، من أبرزها أحد آباء الدستور في البحرين سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم، الزعيم الأبرز للطائفة الشيعية، والذي يقيم في المنفى بعد محنة حصار وإقامة جبرية امتدت لفترة طويلة، وحل المجلس الإسلامي العلمائي (أعلى هيئة دينية). فضلاً عن أشكال الاضطهاد الطائفي والسياسي الأخرى المتفشّية في مؤسسات الدولة عبر التمييز، سواء في الوظائف الحكومية أو المناصب الوزارية أو النظام الانتخابي غير العادل أو السلطة التشريعية العديمة الصلاحيات. وبالمناسبة، ليس من باب المصادفة أنَّ مسرحية الانتخابات البرلمانية والبلدية ستُجرى بعد أيام من زيارة البابا وتنظيم هذا الحدث؛ خصوصاً في ظل مقاطعة شعبية واسعة تتكرّر للمرة الثالثة بعد انسحاب كتلة «الوفاق» البرلمانية من المجلس في عام 2011 نتيجة اندلاع الأزمة السياسية، بالإضافة إلى توسع السلطة في مشروع العزل السياسي، الذي لم تكتف فيه بحرمان أعضاء الجمعيات السياسية المعارضة التي تم حلها من حقوقهم السياسية، بل زادت على ذلك بشطب قرابة 100 ألف بحريني من القوائم الانتخابية نتيجة لعدم مشاركتهم في التصويت في الانتخابات بالسنوات الماضية، كإجراء عقابي أولاً، وتكتيك استباقي للعب بأرقام نتائج الانتخابات، التي لا يعلم أحد ما هو التعداد الأخير فيها لكتلة التجنيس السياسي المضافة إليها في القوائم الانتخابية، والتي في أقل تقدير لا تقل عن 80 ألف حالة.
منذ عام 2011، والمجتمع الأمني الذي يشرف على إدارة السجون، بالمتابعة المباشرة من وزير الداخلية البحريني، يشتغل على تطوير وسائل التعذيب


وعلى الرغم من كون الانتهاكات المختلفة لا تتوقف عند استهداف الحق السياسي، وخطابات الكراهية -التي كانت في بعض الأوقات تستخدم ذات المفردات التي سمعناها من «داعش»- عبر منصات شخصيات رسمية ضد المعارضة، إلا أنَّ السجون هي أحد أوجه التعبير الواضحة عن الأزمة في البحرين. فالشخصيات الموجّهة لقيم التسامح الديني محتجزة، ومن بينها العلامة الشيخ عبد الجليل المقداد -بعد انتهاكات كثيرة تعرّض لها- تم نقله إلى المشفى في صندوق سيارة أمنية؛ حتى كاد أن يختنق، أمَّا لماذا يُحرم من العلاج فذلك جزء من سيرة السجون.
منذ عام 2011، والمجتمع الأمني الذي يشرف على إدارة السجون، بالمتابعة المباشرة من وزير الداخلية البحريني، يشتغل على تطوير وسائل التعذيب؛ حتى بات الحرمان من العلاج إحدى وسائل التعذيب المفضّلة لدى القيادات الأمنية، خصوصاً سجناء الرأي الذين يعانون من أمراض مستعصية. دع عنك ما يقوله المعتقلون عن أثر الصعق الكهربائي في المناطق الحساسة أو اقتلاع الأظْفار كما حدث لأحمد العرب قبل إجباره على التوقيع على الاعترافات التي سيُعدم لاحقاً في عام 2017 بسببها، أليس غريباً أنَّ ألسنة العناصر الأمنيين تستخدم المفردات المشحونة بالازدراء المذهبي والتحقير الديني بحق سجناء الرأي، ذاتها لمن كان ينشر رسائل الكراهية في مواقع التواصل الاجتماعي أو الصحافة الحكومية -لا صحافة حرة في البحرين- في إحدى السنوات كانت شاشة تلفزيون البحرين تضع الدوائر الحمراء على رؤوس المتظاهرين للتحريض على اعتقالهم.
في هذه السجون، التي مرَّ عليها أكثر من 20 ألف سجين رأي، لن تجد بينهم سجيناً واحداً يرفض قيم التسامح الديني، بل ستجدهم في مواقف واحدة تعبّر عنها خطابات المجتمع المدني تعليقاً على زيارة البابا. إنَّهم كما يرفضون الاضطهاد السياسي بحقهم في البحرين، فإنَّهم يرفضون أي اضطهاد تمّت ممارسته لأسباب دينية بحق المسيحيين وغيرهم في أي مكان، خصوصاً في الأراضي التي كانت تنشط فيها الجماعات التكفيرية. معرفة هذا لا تصعب كثيراً، ليطلب بابا الفاتيكان زيارة القيادات الدينية والسياسية في السجون البحرينية ليسمع ذلك بنفسه!

*رئيس منتدى البحرين لحقوق الإنسان