هذه الليلة الأخيرة في العاصمة الكوبيّة هابانا. هكذا تُكتب باللّغة الإسبانية، بحرف الباء. كل اللافتات في هذا البلد تُكتب بهذه الطريقة. كانت تلك المفاجأة الأولى لي. كنت طوال سنوات الطفولة أحلم بزيارة هذه الجزيرة. في ذلك الوقت لم أكن أعرف أن ثورة ما قد قامت هنا. لم أكن أفقه من الإيديولوجيا شيئاً. كنت يساريّ الكتابة فقط. أستعمل يدي اليسرى فينعتونني في المدرسة باليساريّ. كانت الوالدة حينها، وهي السلطة العليا بالنسبة إلي، تنهاني عن استعمال يدي اليسرى في الأكل والشرب. كان ذلك الفعل مكروهاً. منذ ذلك الحين بدأتُ رحلة الرفض.تشكّل هذا الحلم في سنوات الطفولة بعد أن شاهدت برنامجاً وثائقياً يروي قصة الكوبيين والرقص. ظلّت تلك الصورة في مخيلتي وكبرت معي وكبر معها حب زيارة هذا البلد. ذات يوم، في سنوات المراهقة ذهبت إلى منزل صديق. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها أغنية للشيخ إمام تحمل عنوان «غيفارا مات». أعجبت بالأغنية وسألت عن تلك الشخصية. حين عرفت أن غيفارا قاد الثورة الكوبية مع رفيق دربه فيديل كاسترو قررت أن زيارتي لهذا البلد آتية لا محالة. كانت مسألة وقت. كلما تقدمت في العمر رافقتني هذه الفكرة وكبرت معي حتى أصبحت منذ أيام مضت حقيقة.
وصلت إلى هابانا بعد 26 ساعة من السفر. بدأت الرحلة من تونس العاصمة نحو مطار مدريد في إسبانيا ودامت ثلاث ساعات تقريباً. أُجبرت أن أبقى في المطار لمدة عشر ساعات لأنني إنسان من الدرجة الثالثة ولا يحق لي الدخول إلى بلد يعتقد أن مواطنيه بشر من الدرجة الأولى. يسمون هذه التفرقة «تأشيرة». تسميها السلطة في وطني «سياسة خارجية». اسمها الحقيقي «عنصرية». في مطار مدريد، التدخين ممنوع، النوم ممنوع، الجلوس على كرسي مقهى أو مطعم دون طلب شيء ما ممنوع، الحديث مع الشرطي ممنوع، استنشاق الهواء الطبيعي ممنوع، الصراخ ممنوع، الاستحمام ممنوع، الجري ممنوع، البكاء ممنوع، في مطار مدريد الممنوعات أكثر من أن تُحصى أو تُعد. نتجاوز.
مرّت الساعات العشر وتوجّهت نحو الممر الذي سيحملني إلى كوبا. دام جلوسي على كرسي الطائرة عشر ساعات ونصف ساعة تناولت خلالها وجبة واحدة. كل ما يباع في الهواء يجب أن تدفع مقابله بالهواء. المال الورقي هنا لا قيمة له. يجب أن تستعمل بطاقتك البنكية للدفع. كالعادة، يذكرونني أنّي إنسان من درجة ثالثة لأن السلطة في وطني تمنع استعمال بطاقات العملة الأجنبية للدفع خارج هذا الوطن. أجوع، أعطش. تمر الساعات ثقيلة. يزداد جوعي وعطشي. تتحرك داخلي غرائزي الحيوانية. أتوجه إلى إنسان من الدرجة الأولى وأطلب أن يدفع بعضاً من الهواء مقابل بعض الطعام وأمنحه أوراقاً مالية. يقبل. أعود إلى مكاني فرحاً بالمقايضة التي نجحت.
بعد أن أكلت وشربت مرّت الساعات بسرعة واقتربنا من مطار خوسيه مارتي في هابانا. هذا الرجل أسّس الحزب الثوري الكوبي عندما كانت الولايات المتحدة الأميركية تعتبر الإتجار بالبشر شيئاً مسموحاً ويكفله قانونها. أحاول أن أنام لكن شغف الرحلة يمنعني من ذلك.
كنت قد قرّرت أن أقضي الأسبوع الأول لي في العاصمة هابانا. لا أريد أن أعرف أكثر من العاصمة الكوبية. أريد أن أختلط مع عامة الشعب؛ آكل مأكلهم، أشرب مشربهم، أسكن مسكنهم وأعيش همومهم اليومية. ستدوم رحلتي ثلاثة أسابيع. سيكون الأسبوع الأول أسبوعاً كوبياً بالأساس. باقي الأيام سأكون فيها مجرد سائح رأسمالي (ربما) في بلد شيوعي (ربما).
أخبرنا قائد الطائرة أننا سنبدأ عملية الهبوط. غيّرت مكاني بسرعة وجلست على كرسي فارغ يحاذي النافذة. يجب أن تدفع ثمانين دولاراً للجلوس على هذا الكرسي. بالرغم من أن الطائرة فارغة تقريباً إلا أن أحداً لم يجلس في هذا المكان. السحاب يملأ السماء ونحن ندخل في الغيوم وضباب شديد يحجب الرؤية كلياً. بعد مرور عشر دقائق تقريباً رأيت اليابسة. كانت عبارة عن أرض خضراء فلاحية كبيرة جداً. كلما ننزل أكثر تزداد الأرض الفلاحية الكبيرة وضوحاً. بالكاد أرى مبانيَ قديمة صغيرة. الطرقات أيضاً صغيرة. ربما أرى عشر سيارات على أقصى تقدير. عندما اقتربت أكثر، بدأت الشمس بالغروب وكان المشهد رائعاً. حطّت عجلات الطائرة في المطار. كنت أعتقد أنها ستحط في حقل فلاحي. لا أثر هنا لمطار ما أو طرقات أو حركة مثل باقي المطارات. تتقدّم الطائرة نحو مبنى المطار، لكنّ المشهد في الخارج يعود بي سنوات إلى الماضي. كأنني أشهد من شباك الطائرة فيلماً سينمائياً يصوّر طائرة تنزل في مطار ما سنة 1960. الألوان، المباني، ملابس العمّال، اللافتات، الإشارات، حجم الجدار. كل شيء في الخارج يوحي بأنّي في سنة 1960. في حقيقة الأمر يشبه هذا المطار كثيراً مطار تونس قرطاج.
حطّت الطائرة ووصلت بسرعة. كل شيء في هذا المكان صغير. نزلنا الدرج ودخلنا مبنى المطار ووصلنا مباشرة إلى قاعة كبيرة. اصطففنا تلقائياً كلّ أمام مكتب يوجد فيه عون شرطة. أغلب أعوان الشرطة هنا من النساء. يرتدين تنورات قصيرات جداً وتحتها جوارب طويلة شفافة بعض الشيء. يتقدّم البشر نحو الشبابيك وتؤخذ صورة لكل منا ثم يُختم على جوازه ويمر نحو التفتيش. عندما حان دوري منحت الشرطية جواز سفري ونزعت كمامتي وابتسمت قليلاً بالرغم من التعب الشديد ورغبتي الملحّة في إشعال سيجارة. فتحت جوازي ومرّرته على آلة. سمعت صوتاً ما. مرّرت الجواز مرة أخرى. سمعت الصوت نفسه مرة أخرى. طلبت مني الشرطية الوقوف جانباً والانتظار. قالت لي ذلك بلغة إسبانية وابتسامة. لا أفهم الإسبانية إلا أنّي أفهم الابتسامات. كانت ابتسامة احترام. وضعت حقيبة الظهر وجلست على الأرضية. يمر البشر من الدرجة الأولى مباشرة. يُمرر جواز سفرهم على الآلة فتصدر صوتاً غير الذي سمعته، تُختم جوازاتهم بكل بساطة ثم يغادرون. تشير الشرطية إلى زميلها وتتحدث. قدم نحوي. وقفت. سألني عن سبب زيارتي لكوبا. لو كنت جاسوساً أو عميلاً أو مخبراً أو صهيونياً أو قاتلاً مأجوراً سأقول بأنّي جئت للسياحة. لست أحد هؤلاء لكني أجبت مثلهم. أعتقد أنه يصدّقني. دخل مكتباً آخر حاملاً جواز سفري التونسيّ. جلست مجدّداً. لم يتبقّ في هذه القاعة غيري. كل أعوان الشرطة تركوا أماكنهم. أنا الوحيد الإنسان من الدرجة الثالثة الذي قدم لكوبا. أنا الوحيد الشيء غير المرغوب فيه. أو تحديداً أنا الوحيد الشيء غير المفهوم.
بعد نصف ساعة تقريباً عاد الشرطي ومعه امرأة أخرى ترتدي ملابس عادية. وقفت. سألتني عن سبب زيارتي لكوبا. أجبتها. سألتني عن مهنتي والأموال التي أحملها والأماكن التي سأزورها. أجبتها. سألتني عن المكان الذي يقع فيه هذا البلد الذي يُسمى تونس. كدت أن أقول لها بأنه قرطاج. أجبتها فقط أن تونس بلد في شمال أفريقيا. عندما نطقت كلمة أفريقيا عرفت سبب كل هذه الإجراءات. القارة التي أنتمي إليها مشبوهة. قارة فقيرة. ذلك يعني أن شعوبها من الصنف الثالث. حاولت قدر المستطاع، وبلغة ديبلوماسية أن أقول إنّي لا أنوي الهجرة السرية نحو أميركا. أحاول أن أقول لشرطي إن حلم طفولتي زيارة بلده. أريد أن أقنع شرطياً ما، في هذا العالم، أنّي بصدد تحقيق حلم. لا أعرف هل نجحت في ذلك أم لا؟ لكنّ الشرطية سمحت لي بالعبور نحو الحلم. ربما خرائط غوغل التي أعددتها مسبقاً ساعدتني في ذلك. ربما عدد الأطباق الكوبية التي أعرفها ساعدني أيضاً. ربما معرفتي الشديدة بالوضع الاقتصادي وحديثي عن أسعار الفواكه والمأكولات في وطنها ساعدني. في حقيقة الأمر لا أعرف تحديداً السبب الذي جعل تلك الشرطية تسمح لي بالمرور بعد ساعات من النقاش والانتظار، لكني، عند سماعي للختم الذي يسمح لي بالدخول، أحسست بدمعة تتكوّن في عيني اليسرى. وبما أنّي رجل وُلد وتعلّم وكبر في بلد يعتبر البشر فيه من الدرجة الثالثة، حاولت قدر المستطاع ألا تتكوّن دمعة أخرى في العين اليمنى.
بعد خطوات، وجدت حقيبتي وحيدة تجول بكامل حريتها وتنتظرني. حملتها على ظهري وتوجّهت نحو باب الخروج. كان في الانتظار سائق سيارة الأجرة الذي أرسله إليّ صديقي الكوبي. يحمل لافتة عليها اسمي. جعلته ينتظر هناك أربع ساعات ونصف ساعة. عندما التقاني منحني مباشرة قارورة مياه معدنية صغيرة وسيجارة وابتسامة. شكرته ثم توجّهنا نحو سيارته الشيفروليه الزرقاء طراز 1962. عند تشغيله للسيارة خرج صوت إبراهيم فيرير Ibrahim Ferrer من الراديو:
«Allá en la habana del este هناك في شرق هافانا
Pasando el túnel de amor اجتاز نفق الحب
Tengo una casita linda لديّ منزل جميل
Que allá esta mi corazón وكان قلبي هناك»
أغمضت عينَيَّ وأخذت نفساً طويلاً من السيجارة الكوبية. هكذا كان الطريق إلى العاصمة الكوبية أو هكذا كان السفر نحو الماضي.

* كاتب تونسي