بعد محاولة قتل الكاتب سلمان رشدي في الولايات المتّحدة الأميركية، دار عدد كبير من الأحاديث في الفضاء الافتراضي حول مفهوم «إهانة المقدّسات الدينية». برّر عدد كبير من المتديّنين هذه الجريمة تحت مفهوم الإهانة. وهذا ما حصل سابقاً في لبنان في محطّات عديدة على يد طوائفه كلّها. أذكر على سبيل المثال لا الحصر تحرّك السلطات الدينية المسيحية لمنع عرض حفل لفرقة «مشروع ليلى» في «مهرجانات بيبلوس» في صيف 2019. كان السبب المعلن في بيان اللجنة المنظّمة هو الخوف من إراقة الدماء. بالطبع هذا إشارة إلى التهديدات التي أتت من بعض المتديّنين المسيحيين بأنهم سيوقفون الحفلة بالقوة لأن بعض أغنيات الفرقة تهين المقدّسات المسيحيّة.
(أ ف ب)

من اللافت لي كمؤمن مسيحي وكرجل دين وكباحث لاهوتي، أنّ الأفكار الدينيّة جميعها، بلا استثناء، تأتي كردّة فعل على أفكار دينيّة نقيضة لها. لا نكتب أبداً اللاهوت من فراغ، بل نكتب دوماً ونمارس اللاهوت في حوار أو حديث مع لاهوت مقابل. وهذا اللاهوت المكتوب والشفهي يُعبّر عنه في طقوسنا التعبّديّة. لذا، عندما نجتمع كل أحد لنعلن كمسيحيين، من خلال التراتيل والقراءات والليتورجيا بكل أشكالها، أن يسوع المسيّا هو ربّ كونيّ وابن الله المتجسّد وأنه مات وقام وسيعود، فنحن نعلن أفكاراً «مهينة» أو أفكاراً مناقضة للديانة الإسلامية التي تدّعي أن يسوع كان مجرّد نبي، وللديانة اليهودية التي تدّعي أن يسوع كان مجرّد معلّم ومصلح يهودي من القرن الأول، وللملحد الذي يدّعي بالأصل أن لا وجود لإله.
والعكس صحيح. في كل مرّة يجتمع المسلمون في الجامع للصلاة وإقامة الشعائر الدينية ويعلنون فيها نبوّة النبي محمّد، هم يناقضون العقائد المسيحية التي ترفض وجود نبي لا يعترف بألوهية المسيح. بولس الرسول، مؤسس الحركة المسيحية الباكرة في تركيا وأوروبا، كان يعي هذا الاشتباك الفكري الموجود في طبيعة الأفكار الدينية حين قال عن مناداته بالمسيح مصلوباً بأن هذا الخبر «عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيين» (رسالة كورنثوس الأولى. الفصل الأول. العدد 23). إذا بولس كان يعي أن رسالة المسيحية، التي بالمناسبة شاركها المسيحيون الأوائل باحترام وبدون تهجّم وما شابه، هي بذاتها، حماقة وعقبة، تقود اليهودي لأن يعتبر أن أتباع المسيح يكفرون بإله العهد القديم، وتقود الوثني ليعتقد بأن أتباع المسيح حمقى.
بالطبع يأتي الردّ هنا بأنّ هناك مستويات في التعبير عن هذا الاختلاف الديني. هذا صحيح. أنا تابع أمين ليسوع ومتمسّك بإيماني، لكن لا أشتم رموزاً دينية لأديان أخرى أو أفكاراً إلحاديّة، وأغلب السبب أنني أريد بناء علاقة صحيّة مع جيراني. ويجب التأكيد هنا أنه لو شتمت رموزاً دينية لشخص ذي إيمان مختلف عني، لا أعتقد أن هذا يعطيه الحق بأن يقتلني. لكن هذا ليس موضوعي هنا. بالرغم من وجود مستويات مختلفة من «الإهانة»، أراهن على أن بعض القرّاء المسلمين سبق أن شعروا بالإهانة والغضب بسبب ما كتبته أعلاه عن المعتقدات الإسلامية، ولو الذي كتبته في غاية الاحترام والوضوح، وهو الموقف المسيحي المُعلن. أنا أتبع التقليد الإنجيلي. وصدّقوني حين أقول إنه لو عبّرت الآن، بكل احترام ووضوح وبدون سخرية، عمّا نؤمن به كإنجيليين (أو بالأحرى ما لا نؤمن به) عن مريم العذراء، لغضب منّي كل جيراني غير الإنجيليين، وربّما تعرّضوا لي بالضرب أو التهجّم الجسدي أو المعنوي.
الأفكار الدينيّة، بلا استثناء، تأتي كردّة فعل على أفكار دينيّة نقيضة لها


قدسيّة أفكارك الدينيّة أمر نسبي. هي مقدّسة لك وليست مقدّسة لي، والعكس صحيح. من حق المسيحي أن يعلن ألوهية المسيح. ومن حق المسلم أن يعلن نبوّته. ومن حق الملحد أن يعلن عدم وجود الله. إذاً، من هذا المنظار، مجرّد وجودنا في بلد متنوّع مثل لبنان هو وجودنا في مساحة «مهينة» لمقدّساتنا الدينية. أينما نظرت من حولي، أرى شعائر وعقائد دينيّة تدّعي أن إيماني خاطئ وأنني أحمق. إذاً المدخل الصحي وربما الوحيد لبناء مجتمع لا يقتل فيه بعضُنا بعضاً هو في تقبّل أنّ القدسيّة نسبيّة. يعني عملياً، أن نتوقّف عن اغتيال «المرتد»، وهو ما يحدث عادة في أغلب المجتمعات الدينية في لبنان ولو لم يكن الاغتيال جسدياً فقط. علماً أنّه ليس بالضرورة أن يكون المرتدّ قد شتم ديانته التي ارتدّ عنها أو تصرّف بقلّة احترام، لكنه أهان مقدّسات أهله بمجرّد رفضها. إذاً المسألة في جذريتها ليست مسألة شتم المقدّسات الدينيّة، بل رفض الاختلاف وسوء فهم لطبيعة الأفكار الدينيّة التي نعتنقها، ألا وهي أنها بطبيعتها متناقضة مع أديان أخرى وأن قدسيّتها بطبيعتها نسبيّة وليست مطلقة.
أختم بتحذير للمتديّنين في طائفتي وفي الطوائف والأديان الأخرى، احذروا أن تحوّلوا إيمانكم إلى حبس. احذروا أن تمارسوا إيمانكم من خلال مراقبة الحدود والسعي لتحديد من في «الداخل» ومن في «الخارج». مع مجيء عصر النهضة في أوروبا منذ حوالي 500 سنة، ودخول العقلانية في تفسير النصوص المقدّسة، ترك الآلاف المسيحية. هل كانوا حقّاً مؤمنين؟ لا أعلم، لكنّ الفكرة هنا أنه عندما سنحت لهم الفرصة للتخلّص من إيمان قمعي، فعلوا ذلك. الأرقام الدينية في لبنان وهميّة. لا يوجد ملايين المسيحيين ولا ملايين المسلمين. هناك ملايين المتديّنين المحبوسين في تعبيرات دينيّة قمعيّة. عندما تأتي الفرص ليهربوا، سيفعلون ذلك.
ليت إيماني وإيمانك يكونان معتنقاً جميلاً وشرساً، رحلة في قلب هذا السرّ الإلهي، أتمسّك به ليقودني في الحياة وأدعو آخرين للانضمام إليه. عندها لن أشعر بالإهانة من المعتقدات الدينيّة الأخرى. فأنا أصلاً غير مهتم بالحدود، بل جلّ تركيزي على مركز الإيمان.

* محاضر في دراسات العهد الجديد